مفهوم التّعليم في ظلّ العولمة
في جولةٍ اعتياديّة بين أحياء المدينة لسببٍ أو لآخر، يمكن ملاحظة مظاهر التّجهيزات التي يقوم بها أولياء أمور طلّاب المدارس برفقة أبنائهم لاستقبال السّنة الدّراسيّة الجديدة، يتّشحون ما بين الفرح والتوتّر والتجمهر المحبّب أو الضّاغط للبائع والمستهلكين, يدور في ذهني السّؤال الذي طالما شغلني لسنوات طويلة: ""لماذا نحتاج الى المدارس؟""
مقطع من فيلم هاري بوتر:
في مقطع الفيديو أعلاه من فيلم ""هاري بوتر""، تعرض بروفيسور أمبريدج قرار وزارة السّحر، القيام بإصلاح بموضوع الدّفاع ضدّ قوى الظّلام، حيث تمّ إقرار تغيير طريقة التّعليم إلى طريقة الدّراسة النّظريّة فقط، وهو ما يتعارض مع توقّعات الطلّاب، وما خَبِروه حتّى الآن.
بروفيسور أمبريدج تؤكّد، أنّ الهدف من المدرسة وِفقًا لوزارة السّحر، هو إعداد الطلّاب لامتحان شهادة الثّانويّة العامّة. لكنّ هاري يؤكّد وببعض الإلحاح بصورة عصبيّة، أنّ الهدفَ من المدرسة، هو إعداد الطلّاب للحياة الحقيقيّة خارج جدران المدرسة.
لو قُمنا بإجراء استفتاء حول رأي بروفيسور أمبريدج مقابل رأي هاري بين فئات المجتمع المختلفة، لحصلنا على نسبة كبيرة لصالح هاري، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ نسبة لا بأس بها من الذين يؤيّدون بروفيسور أمبريدج، سوف يدّعون انّ العلامات الممتازة هي الطّريق الأفضل لجهوزيّة الفرد وإعداده للحياة الحقيقيّة
خلاصة الأمر، أنّ معظم أفراد المجتمع يتوقون لإعداد أبنائهم للحياة الحقيقيّة لكنّ السّؤال، أو الاسئلة التي تُطرحُ هنا وبحقّ عن أيّةِ حياةٍ نتحدّث؟ هل قُمنا بالتعرّف على الحياة الجديدة التي تمّ التّخطيط لها، أو لربّما المتواجدة كنتيجة حتميّة للتطوّر المجتمعي البشري الممتدّ منذ سنوات طويلة جدا؟ ما نوع النّظام العالمي الذي نسبح فيه الآن؟ العولمة؟ وماذا تعني؟ ما الجدير عمله؟ التماهي وركوب موجة العولمة؟ المعارضة والتشبّث بكلّ ما مضى؟ هل من بديل؟ كيف يمكن أن نكون جزءًا من اتّخاذ القرارات في نظام عالمي استهلاكي، وبالأخص قرارات تتعلّق بحياتنا الخاصّة؟ والسّؤال الأهم في سياق هذا المقال: ماذا عن أهميّة المدارس وجهوزيّتها وطرق التعليم في ظلّ النّظام الجديد؟
لن أحاول الإجابة عن الأسئلة المطروحة أمامكم، فهي بحاجة الى دراسات وابحاث اكاديمية ونقاشات مجتمعيّة على نطاق شعوب ومجتمعات وجمهور وأفراد، والأهمّ على نطاق خبراء مهنيّين وسياسيين يضعون نصب أعينهم جودة حياة الفرد وكافّة المجتمعات بعَدلٍ واحترام لقيمة الحياة وللبيئة.
لكن، أليس الحريّ بنا أن ندرس مفهوم نظام العولمة الذي تتداوله الكثير من دول العالم، وفي بلادنا بشكل خاص؟ وهل هنالك بوادر لنظام مقابل النظام المطروح أمامنا؟
ماذا نعني بنظام العولمة؟
هناك عدّة تعريفات وتفسيرات لمفهوم العولمة.
بعض العلماء يعتبرون أنّنا دخلنا مرحلة جديدة من مراحل الحداثة والتطور وربط المجتمع المحلي بغيره من المجتمعات ثقافيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.
لكنّ البعض الآخر يرى أنَّ الهدف الأساسي من العولمة هو هيمنة الدول القوية وعلى رأسها أمريكا، على الدول الضعيفة، ونقل أفكار وثقافة هذه الأولى لتحل مكان أفكار وثقافات الأخيرة. ومن اسقاطاتها، تراجُع حدود القومية السياسية وتآكل دور الدول الضعيفة، وحتّى اضعاف دول مثل ألمانيا وفرنسا بمركزيّتها المعرفيّة، وبالتالي طمس جميع ثقافات وسياسات وعادات وتقاليد الدول، وإحلال قيم ومبادئ دولة غربية ذات نفوذ قوية مكانها، كما لو أصبحت جميع شعوب هذه الدول بالنّسبة لأمريكا، هندي أحمر آخر.
لا نبالغ اذ نقول، أن أحد أهداف العولمة بشكلٍ غير مباشر بأن يتخلى الفرد عن هويته الذاتية، و يعتنق أفكار ومبادئ لا تنسجم مع قيمة الأصلية وما ينتج عنها من سلوكيّات، هكذا يَسهُل السّيطرة عليه.
ألم نفضّل الوجبة الأمريكيّة الشعبية-الهامبرغر، الضّارة للصحّة، على وجبتنا الشّعبيّة- رغيف الفلافل، الغنيّة بقيمِهِا الغذائيّة المتنوّعة؟ (عن منشور فيسبوكيّ للكاتب أنور حامد). لا بل أنّ البعض يخجل من تناول الفلافل في المحيط العام، حتّى لا يُتّهم بأنّه بخيل أو ""تقليدي"" بإيحاءٍ سلبيّ للمعنى.
الرأسمالية بارعة في تسويق أيّ شيء. حتّى تسويق شيء لا يملكونه، يقنعونك أن سلعتك لا قيمة لها بدونهم، وتقتنع، وتضعها تحت تصرفهم، فيقومون بتسويقها بحُلّة جديدة، وهكذا دواليك. تحضرني هنا أغنية: اسمع يا رضا"" من كلمات الفنّان زياد الرّحباني حول مصير ""الخسّة"" التي زرعها بنفسه، حيث رصد التحوّلات السياسيّة والاجتماعية وحاول أن يلفت انتباه الجمهور الواسع للظاهرة عن طريق الأغنية.
انّ أحد أهمّ أخطار ما ينتجه نظام العولمة -مولود الرّأسماليّة المدلّل- هو الاستسلام الجماعي لأساليب العيش التي يفرضها، وتخدير العقول من خلال الشّبكة المعلوماتيّة وتأسيس لزمن التّفاهة الذي يحظى فيه مثلا شخص سمين يهزّ ""كرشهُ"" أمام الكاميرا يوميّا بملايين المتابعين ليصبح من أكثر المؤثّرين في الخليج العربي ويتمّ دعوته لحضور مؤتمرات وبرامج تلفزيونية تدرّ عليه ملايين الدّولارات.
ويقول دكتور منير فاشة (المعلّم) بهذا السّياق أيضا، انّ أسوأ ما نتج عن الرأسمالية وبالتّالي العولمة، هو إلغاء مقوّمات المجتمعات والحضارات، واحتقار النّاس للذّات، والاعتقاد بأنّهم لا يستطيعون الخروج من الحالة التي هم عليها، دون الدّعم الدّولي بمؤسّساته ومنظّماته، ولا حتّى يستطيعوا أن يحلموا أحلامًا خاصّة بهم. إذ ما عليهم سوى طاعة خبراء مختصّين يأتونهم بأحلام جاهزة وحلول جاهزة. ومن أبى الطّاعة، تعرّض لقوّة الجيش الذي لا يُقهر والبطش في المجتمعات المتمرّدة.
الانعزال عن العولمة؟ أم ركوب موجتها؟ أم ماذا؟
يقولون في عالم الأدب، أنّ من يريد أن يُقرأ عالميًّا، عليه أوّلًا أن يتمرّس بالكتابة بلغة الأم، ثمّ الانتقال الى لغّات عالميّة لتحقيق أهدافه.
وأنا أعتقد، أنّ علينا أن نتعرّف على مقوّمات ثقافتنا وامتدادها عبر التّاريخ ومساهمتها في بناء الحضارة الانسانيّة الجمعاء وتلاقحها مع باقي الثقافات، باعتبارها جزءا هامّا من الحضارة الإنسانية العالميّة الشّاملة التي تجمعنا دون التّنازل عن اثنيّتنا، والانفتاح نحو ثقافات الشّعوب المختلفة. اذ أنّ مصلحة الفرد أينما كان من مصلحة الجميع، والعكس صحيح.
علينا أن نثق أنّ كلّ فرد منّا يتمتّع بمقوّمات ابداعيّة، وكلّ انسان هو مصدر معرفة ومعنى وفهم، وعليه أن يكون شريكًا في انتاج المعرفة الكليّة، والّا ينصاع لأمرٍ يرى فيه تعزيز لقوى البطش على حساب المجتمعات المتقهقرة حتّى في الأمور البسيطة جدّا. يجب أن نتحرّر من مفهوم المصلحة الشخصيّة الضّيّقة، وأن نتكاتف لتعزيز قدراتنا الخاصّة، لصالح العامّة. وفي كلّ عملٍ بسيط أو كبير، يجب أن نتنبّه صغارا وكبارًا، الى أيّ جهّة تُصبّ فائدة هذا العمل، والّا نقزّم تأثير أيّ فرد او عمل.
فهل نحن على دراية بما يدور ضمن هذا العالم؟
هل مدارسنا اليوم تؤهّل الطّلّاب للتّعامل مع هذه الحياة وتزرع فيهم قيم الحريّة لاكتساب ثقة بالنّفس وامكانيّة الابتكار والإبداع دون التعرّض لإمكانيات التّشويه والتّعتيم على مصادر التّنوير؟
بقي أن نذكر، أنّ هنالك فكر فلسفي آخر مقابل العولمة، يحاول أن ينتزع هيمنة القطب الواحد من أمريكا، وتعزيز أربعة أقطاب تنظّم أمور العالم بشراكة بين الدّول وتحاول من خلاله الحفاظ على اثنيّة الشّعوب واختلافاتها الشّرعيّة.
جدير بنا أن نوجّه طلّابنا لدراسة عميقة بنظرة فلسفيّة، علّنا نصدّر لاحقّا، فكرًا فلسفيّا جدير بالدّراسة والنّقد.