التّسمية العربيّة كآليّة للعدالة المكانيّة في المدن المختلطة

كانت عبرنة الحيز العام في دولة إسرائيل، من أهم خطوات بناء الدّولة، وكانت أولى هذه الخطوات عبرنة أسماء اليهود الوافدين من الدول الأوروبية والعربية، وقد قاد هذه الحملة منذ حزيران 1948، رئيس اللجنة القوميّة آنذاك ""يتسحاق بن تسفي"". ولكنّ الإصرار على عبرنة جغرافيا ومشهدية المكان في دولة إسرائيل، كان سريعًا وواسعًا ومكثّفًا، أكثر بكثير من عبرنة الأسماء الشّخصيّة.

لقد احتاج تجذير وتذويت التّسميات العبرية في الوعي العام لدى العرب في الدولة إلى جانب تسهيل قراءة التّسمية من قبل المهاجرين اليهود الجدد الوافدين من الدّول العربيّة إلى دولة إسرائيل، إلى قواعد نقحرة موحدة -تمثيل حروف لغة ما بحروف لغة أخرى، اعتنت بوضعها ونشرها لجنة نقحرة حكوميّة مختصّة في حدود آذار 1951 . وفق هذه القواعد تمّت نقحرة التّسميات من العبريّة الى العربيّة والإنجليزيّة وبالعكس في اليافطات والمكاتبات الحكوميّة والعلميّة وفي وسائل الإعلام المكتوبة، وتمّ بناء آليّة وقواعد بحسبها تم لفظ الكلمة بالعربيّة والانجليزيّة بصورة مطابقة تقريبا للّغة الأصل. اهتمّت الدّولة أيضًا بتأسيس مجمع للّغة العبريّة في آب 1948 والّذي كان له مساهمة فعّالة في تحديد سياسات العبرنة وآليّاتها. وهكذا، مع قيام الدّولة نشطت لجان التّسميات الحكوميّة بمشاركة مجمع اللّغة العبريّة. فعبرنت تسميات الأنهار والجداول والخِرب والجبال والمدن والمواقع الجغرافية المختلفة في الدولة ومحت تقريبا التسميات العربية.

أقرّت لجنة التسميات الحكوميّة تسميات المناطق السّكّانيّة ونسبتها إمّا لتخليد أسماء معارك وأحداث شخصيّات بارزة في تاريخ اليهود والصهيونيّة، أو أسماء لها علاقة بذاكرة تأسيس الدّولة وإمّا أسماء توراتيّة وإمّا بحسب شكل التّجمع السّكني أو نسبة الى شكل الموقع الجغرافي وخاصيّته وغيرها. في حالات كثيرة جدًا تمت التسمية بحسب نقحرة أو ترجمة مطابقة للاسم من العربيّة إلى العبريّة، وفق التّفسير، أنّ التّسمية العربيّة حافظت على الاسم العبري التّاريخي. مثال على ذلك، الاسم العبري ""تال نِعماه"" والّذي فسّر على أنّه استرجاع للاسم العبري الّذي حافظ عليه العرب وأسموه ""تل خربة النّعامنة"". في أحيان كثيرة أخرى تمّ تبنّي تركيبة الأحرف والصّوت للاسم العربي وتحويلها بتصرّف الى العبريّة مثل ""وادي شونه"" الّذي حُوّل إلى العبريّة ليصبح ""ناحال شونيت "" و""عين الذّهب"" "" ناحال زاهاف"" وتلّ العزيزات لتصبح تسميته ""تال عازوز"".

مهم أن نتذكّر بأنّ لجنة التّسميات كانت واعية لأهميّة تذويت التّسميات في المدارس، فاهتمّت بنفسها أن ترسل للمسؤولين في وزارة المعارف التّوجيه والإرشادات لتذويت التّسميات العبريّة من خلال الكتب التدريسيّة لدى العرب واليهود، وتشجيع جولات الطّلّاب لمعرفة البلاد وتسمياتها العبريّة، مع الاهتمام ينشر مكثف للتّسميات العبريّة في اليافطات على أنواعها والصّحف والمكاتبات الرّسميّة وغير الرّسميّة.

واقع التّسميات العربيّة في المدن المختلطة في إسرائيل والّتي يشكّل العرب فيها بحسب بيانات دائرة الإحصاء المركزية 148 ألف عربي (أي حوالي %10 من مجموع المواطنين العرب في إسرائيل) لا يبشر خيرًا.

تصل نسبة السّكّان العرب في غالبيّة المدن المختلطة الى الثّلث. رغم ذلك، فإنّ التّسميات العربيّة، إن وجدت فإنّها تنحصر في الحيّز الجماهيري الّذي تتركّز فيه غالبيّة عربيّة. غالبا ما يخطّط أن يكون هذا الحيّز بعيدًا عن الشريان المركزي للمدينة، وبهذا تخلق علاقة مشوّهة في الانكشاف للتّسميات العربيّة ليكون أحادي الجانب. فالسّاكن العربي ينكشف بشكل يومي ومكثّف للتّسميات العبريّة المنتشرة في كلّ أحياء المدينة، أمّا السّاكن اليهودي، فإنّه تقريبًا لا يرى التّسميات العربيّة، ولا ينكشف لها بسبب عدم حاجته الملحّة للدّخول إلى الحيّ العربي، طبعًا على فرض أنّ التّسميات العربيّة موجودة.

برأيي لا يوجد في إسرائيل مدينة مختلطة صرفه، في إسرائيل يوجد نماذج مشوّهة للمدن المختلطة وعلى هذه النماذج تبنى سياسة ومشهديّة التّسميات العربيّة في الحيّز العام. فمعالوت ترشيحا هي مدينة ""مختلطة منفصلة"" لأنّها تضمّ ​​في الواقع قرية عربيّة منفصلة تحت سيادة أكثريّة يهوديّة هي معالوت ترشيحا. ومع أنّ التّسميات في ترشيحا عربيّة، إلا انها تسميات تتجاوز مساحة الزّمان والمكان الفلسطيني القريب وتتركّز بثقافة عربيّة ودينيّة عامّة وحياديّة منزوعة من العمق التّاريخي ومتجاهلة للهويّة والجذور الفلسطينيّة. هذا الواقع يتجسد غالبًا في كلّ التّسميات العربيّة في إسرائيل. تمثّل اللد والرّملة نموذجًا آخر لمدن""مختلطة مفكّكة""، تضعف فيها الرّوابط الدّاخليّة بين العرب وبين أنفسهم من جهة، وبين العرب واليهود من جهة أخرى. إنّ تهويد مدينة الرملة مترجم من ناحية تسميات شوارع، لواقع فيه نجد 394 شارعًا يحمل اسمًا عبريًا مقابل 16 شارعًا يحمل اسمًا عربيًا وأمّا اللّد فتهويدِها يعني وجود 443 شارعًا مع تسمية عبريّة مقابل 13 شارعًا مع تسمية عربيّة. نوف هجليل مدينة ""مختلطة مقيّدة"" بسبب التّقييدات الّتي تفرض على سكّانها العرب. فبالرّغم من أنّ العرب يشكّلون ثلث سكّانها إلّا أنّهم لا يملكون الحقّ في بناء مدرسة عربيّة ولا مؤسّسات دينيّة ولا حتّى مقبرة تأويهم بعد مماتهم. وعلى هذا فإنّ نوف هجليل لا تحمل إلّا مسمّى عربيًا لشارع واحد، هو شارع المختار مهنّا، كان هذا الشّارع قد ضُمّ إلى المدينة منذ تأسيسها وهو محاذي لمدينة النّاصرة التّاريخيّة. مع أنّ العرب ينتشرون في جميع أحياء المدينة، وهنالك أحياء كاملة تشكّلت كأحياء عربيّة بشكل كامل تقريبًا، ومع هذا فإنّ تسمية شوارع المدينة وحيّزها العام، خاليان من اللّغة العربيّة.

المدن السّاحليّة التّاريخيّة حيفا ويافا وعكّا هي مدن مختلطة ولكنّها مجزّأة، ذلك لأنّ العرب رغم أنّهم يتوزّعون في جميع أحياء المدينة إلّا أنّهم أيضًا يتجمّعون في أحياء منفصلة، جُمّعوا فيها مباشرة بعد النّكبة. في هذه الاحياء تتركز أيضًا مؤسّساتهم الدّينية والتّعليميّة، مثل وادي النّسناس ووادي الصّليب في حيفا، نسبة العرب تبلغ حوالي 12٪ من مجموع سكّان المدينة، ويوجد في المدينة 1148 شارعًا، 63 منها فقط تحمل تسمية عربيّة. عدا شارع حسن شكري فإنّ الشّوارع الّتي تحمل أسمًا عربيًا في حيفا، تقع في منطقة المدينة ""التّحتى"".

في يافا، بعد النّكبة، تمّ تغيير الأسماء العربيّة إلى أرقام، ولاحقًا سمّيت الأحياء العربيّة بأسماء عبريّة. بعد نضال مستمر، ووفقًا لمعطيات قاعدة بيانات سلطة السّكّان والهجرة المنشورة على موقع ""Data Gov""، فإنّ يافا اليوم تحمل 19 تسمية عربيّة في يافطات شوارعها، مقابل 154 شارعًا مع تسمية عبريّة.

عكّا، ليست بعيدة عن هذا الواقع، فلجنة التّسميات الّتي اجتمعت (في كانون الثاني 1952) قرّرت الحفاظ على اسمين من الشّوارع العربيّة الّتي كانت موجودة قبل عام 1948 والّتي تحمل الطّابع الدّيني، وهما شارع صلاح الدّين وشارع الجزّار، وأمّا بقيّة التّسميات فقد تمّت عبرنتها، أو تمّ من خلالها تخليد ذاكرة حقبات تاريخيّة غير عربيّة، مرّت على عكّا، مثل الصّليبيّة والرّومانيّة.

خرج عن نطاق هذا الواقع، شارع واحد فقط، ففي صيف 2009، اختارت بلديّة عكّا إحياء ذكرى زئيف فرايد، أحد مؤسّسي البحريّة العسكريّة، وتمّت تسمية شارع الميناء القديم في عكّا على اسمه. احتجّ السّكّان العرب على سياسة التّهميش المستمرّة، وطالبوا وقتها بتسمية شارع الميناء ""عيسى العوّام"" تخليدًا لذكرى ""عيسى العوّام"" / الغوّاص العربي المسلم الّذي حارب مع صلاح الدّين الأيّوبي ضدّ الصّليبيّين. وعلّقوا لافتة غير قانونية تحمل اسم ""عيسى العوّام"" إلى جانب لافتة ""زئيف فرايد"" التي وضعتها البلديّة في الشّارع، وكانت الأزمة في العلاقات بين العرب واليهود في المدينة على شفا انفجار. الحلّ للأزمة كان وسطيًا يرضي الطّرفين. فقد اختار مجلس المدينة تسمية مقطع الشارع شرق الميناء باسم ""زئيف فرايد""، بينما أطلق على قسم من الشارع، عند مدخل الميناء، اسم ""عيسى العوّام"".

وهكذا نصل إلى الخلاصة، بأنّ التّسميات في الحيّز الجماهيري العام، ممكن أن تستعمل كأداة لتشكيل الذّاكرة الوطنيّة ولتشكيل الهويّة والتّعبير عن السّيطرة وما إلى ذلك. ويمكن أيضًا استخدامها كأداة لتأسيس روابط المساواة والعدالة المكانيّة بين المجموعات المختلفة الّتي تشترك في نفس الفضاء الجماهيري. ما هو مؤكّد أنّ سياسة التّسميات تعكس حساسيّة المجموعة المسيطرة لوجود مجموعات أخرى تشترك معها بطريقة أو بأخرى في نفس الحيّز العام، كما وتعكس درجة رغبتها في إعطاء هذه المجموعات تعبيرًا لانتمائها وهويّتها وبالاساس مدى اعترافها واحترامها لتاريخها وحضارتها وتقبّلها لوجودها فيه.

د. ميسون ارشيد - شحادة

باحثة ومحاضرة في العلوم السياسية في الجامعة المفتوحة وعضوة المجلس التربوي العربي

شاركونا رأيكن.م