مشاهد الفخر المُغَيّبَة - مشهدان من مشاهد النضال الوطني للمرأة الفلسطينية في فترة الانتداب

متابعة عمل ""الاتحاد النسائي العربي"" في فلسطين الانتدابية، يدل على نهضة نسائية مثقفة وفاعلة، شكلت جزءا من الحركة الوطنية، وعملت بتناغم وبتنسيق كامل مع رجالات القيادة الوطنية. هؤلاء النساء قُدن حلقات توعية وتصدرن مظاهرات داعمة للمفتي مطالبة بالاستقلال، نادينَ لحماية الأراضي وعدم بيعها ومقاطعة الصناعة الأجنبية، جنّدنَ أموالا لبيت المال العربي، حضرن جلسات المرافعة وشكلن قوة ضاغطة أمام لجان التحقيق التي وفدت إلى فلسطين للبت في مستقبلها، عارضن اقتراحات تقسيم فلسطين لحل القضية الفلسطينية واليهودية، وأبرقن بصورة مكثفة ودائمة برسائل اعتراض إلى المندوب السامي وهيئة الأمم المتحدة وسفارات واتحادات نساء العالم الغربي والعربي، ولم يختزلن جهدا في السفر والاشتراك في مؤتمرات اتحاد النساء العربي وتجنيد جهدهم لدعم القضية الفلسطينية ، وحتى تجنيد سيدة الغناء العربي أم كلثوم لرصد مبيعات حفلتها لصالح دعم القضية الفلسطينية ومنكوبي ثورة فلسطين ( انظر: جريدة الدفاع ، تشرين أول 1938، ص 4 ) . هذا الحراك الجميل والجزيل يمكن أن نجد له آثارا وتسجيلا يوميا مكثفا على صفحات الجرائد الفلسطينية الانتدابية، والتي لم تتردد في تخصيص أعداد خاصة عن دور المرأة.

الوحدة مقصوصة

المشهد الأول

في السادس والعشرين من تشرين أول 1929 عقد ""مؤتمر السيدات العربيات الفلسطينيات"" الأول، دعت له السيدة طرب زوجة المحامي عوني عبد الهادي في بيتها في القدس. حضر المؤتمر قرابة 300 سيدة من جميع أرجاء فلسطين، تألف منهن وفد مُكوّن من اثنتي عشرة امرأة، غالبيتهن من القدس، زرن المندوب السامي وعقيلته بعد أن تم التنسيق المسبق لزيارتهن له. أكدت النساء دورهن الوطني، فطالبن بإلغاء وعد بلفور وإيقاف هجرة اليهود لفلسطين وغيرها من المطالب. بجرأة ووضوح، احتجت النساء الموفدات على معاملة الحكومة، الممثلة بشخص المندوب السامي الذي مَثلن أمامه، للعرب والميل للجانب اليهودي. فاحتججن على جلد الطلبة العرب بقسوة شديدة في المظاهرات، وعلى الدعم المادي الكريم لمنكوبي الاضطرابات اليهود والذي مُنع مثله للعرب، رغم أنهم فقدوا معيليهم وبيوتهم وتضررت أعمالهم واعتقل الكثير منهم.

خرجت النساء المشاركات في المؤتمر واللواتي انتظرن انتهاء الوفد من زيارة المندوب السامي، في تظاهرة صامتة فركبن ثمانين سيارة سارت من الطالبية إلى حي البقعة فباب الخليل فطريق يافا فباب العمود. أمام هذا الرتل من السيارات سارت سيارة حكومية فيها ضابط وجنديان بريطانيان دلّت المتظاهرات على الطرق التي سمح بالمرور فيها. منعت الحكومة المتظاهرات من زيارة البراق رغم مطالبتهن لها بذلك. مر موكب المظاهرة الصامتة بمنازل قناصل الدول وانتهت في المدرسة الإسلامية حيث تناولن هناك طعام الغذاء. بعدها عاد الموكب إلى بيت طرب عبد الهادي، حيث عقدت تتمة المؤتمر وتم الاتفاق على العمل على مقاطعة البضائع الأجنبية وتشجيع البضائع الوطنية، كما قررن العمل على تأليف فروع للمؤتمر في كل مدينة فلسطينية، وإرسال برقيات شكوى للملكة ماري زوجة ملك إنجلترا جورج الخامس.

من المؤتمر تم انتخاب هيئة مركزية كانت رئيستها عقيلة الدكتور حسين الخالدي وسكرتيرتها وعضواتها بنات وعقيلات ينتمون إلى نخبة العائلات المقدسية الإسلامية والمسيحية أمثال: الخالدي، الحسيني، النشاشيبي، ديب، مغنّم، الدزدار، عبد الهادي، شحادة، الشهابي، السكاكيني وغيرها (راجع: جريدة فلسطين، 29 تشرين أول 1929، ص: 6).

امتدادا لهذا المؤتمر تشكلت فروع ""الاتحاد النسائي العربي"" في جميع أرجاء فلسطين قادتها زوجات وبنات النخب السياسية والاجتماعية والثقافية في فلسطين، والتي عملت بتأثير وبتواصل مستمر مع هدى الشعراوي قائدة النهضة النسائية في مصر والتي ترأست وقتها ""الاتحاد النسائي العربي""، الذي مثل مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن.

في بيت طرب زوجة المحامي عوني عبد الهادي في القدس - مؤتمر السيدات العربيات الفلسطينيات الأول-1929

في بيت طرب زوجة المحامي عوني عبد الهادي في القدس - مؤتمر السيدات العربيات الفلسطينيات الأول-1929

لا ينقص أدبيات مُؤرِخة وأبحاث علمية، ولا حتى في صحف فلسطين الانتدابية والتي غطت بكثافة دور الحراك النسائي الذي قادته المرأة الفلسطينية من خلال مؤتمر السيدات العربيات، الاتحاد النسائي والجمعيات الخيرية النسائية، جمعية تهذيب الفتاة الأرثوذكسية، النهضة النسائية، نجدة الفتاة وغيرها من المؤسسات الفلسطينية الفاعلة (انظر تفصيل المؤسسات النسوية الفاعلة وتأليف لجنة عليا منها في جريدة فلسطين، عدد 17 أيلول 1944، ص 1). ولكن التغطية الصحفية والأدبيات العلمية، سوى القليل منها، غيبت دور المرأة الفلسطينية التابعة لطبقة العمال والفلاحين، والتي كانت هي بنفسها شريكة في تحمل عبء العمل المضني في الأرض والمصنع، وكان لها القسط الأكبر والأوفر في التضحية وتكبد المعاناة اليومية ماديا ومعنويا.

فوزي القاوقجي في حديث له أوردته جريدة ""فتاة العراق"" نقلته جريدة الدفاع (عدد 23 تشرين ثاني 1936، ص 1) فصل دور المرأة الفلسطينية وشجاعتها في ثورة فلسطين الدامية 1936-1939 وما بذلته ليس فقط في إمدادات الطعام والاهتمام بالجرحى وتقبل أخبار استشهاد زوجها، أو ابنها أو أخيها أو أبيها وإنما أيضا مشاركتها الفعلية بالقتال غير عابئة بقنابل الطائرات ولا بهدير المدافع والقنابل والرصاص.

المشهد الثاني

عن موقعة بلعا، يورد القاوقجي تفاصيل كثيرة ويؤكد أنها تكررت في كل موقع رابط فيه بفلسطين. يقول:"" أتيت إلى قرية ""بلعا"" وهذه القرية تابعة إلى طولكرم ورابطت مع جيوشي في أعالي جبالها وبين أشجارها، وكم كانت دهشتي عندما علمت أن جميع أهل القرية نساء ورجالا كانوا يراقبون أطراف الجبال ليعلموني عن حركات العدو. وكم كان حماسي عظيما عندما أقبل على جيش من النساء والفتيات وأنا أقود المجاهدين لخوض غمار المعركة الكبرى الشهيرة بمعركة بلعا وهن يزغردن وينشدن الأناشيد ويدعين لنا بالفوز والنصر. وأخيرا لما دارت المعركة بيننا وبين الإنجليز، وحاصرت قواتهم التي بلغت خمسة آلاف مقاتل بطياراتها ودباباتها ومدافعها ورشاشاتها أطراف الجبال، كانت النساء تمدنا بالعتاد والماء والطعام. وأقول لك بتأثير هذا الحماس الذي كن ينثرنه في نفوسنا انتصرنا.. شاهدت امرأة جرح طفلها الصغير فلم تعن به، بل بادرت بالسؤال عن المعركة والمجاهدين.. بقينا أربعا وعشرين ساعة بدون ماء ولا طعام، وكان الجيش اعتقل رجال القرية ونساءها التي تجاورنا وحاصرهم ومنعهم من الخروج فأفلتت من أيديهم فتاة صغيرة لا يتجاوز سنها العاشرة بادرت على الفور مع أخيها ونقلت لنا المياه على الحمير وأنقذتنا من العطش"".

لم يتكبد الصحفي عناء السؤال عن اسم الفتاة الصغيرة ولا اسم عائلتها، ولم تتكبد الصحافة في البحث والتنقيب عن ذلك. لو فعلت ذلك، لكان لدينا في سرديتنا الوطنية كفلسطينيين اسم فتاة هي رمز وطني وفخر تتناقله الأجيال.

جريدة الدفاع، 28 أيار 1936، ص 7

جريدة الدفاع، 28 أيار 1936، ص 7

في كتابهما ""سجل القادة والثوار والمتطوعين لثورة 1936 -1939 ""، ينقل الباحثان مصطفى كبها ونمر سرحان قصص أكثر من 450 امرأة شاركت بشكل فعلي في القتال، ناهيك عن الآلاف منهن اللواتي شاركن بالدعم اللوجستي والإمداد. وقد وصلت إحداهن، سعاد أبو شريفة المشهورة بلقب ""أم رميح"" من بلعا، إلى وظيفة آمرة مخازن ذخائر الثورة في جبل النار. رغم دورها هذا، لا نجد لها وجودا في ذاكرتنا الوطنية الجمعية، كما لا نجد أثرا لكريمة قاسم العبدالله من قريتها والتي استشهدت دون ذنب برصاص الجنود الإنجليز الذين طوقوا القرية، والأنكى من ذلك هو أننا لا نجد أثرا في ذاكرتنا الوطنية للقياديات من الاتحاد النسائي، اللواتي نشطن وكان لهن أثر عظيم في دعم الحركة الوطنية في جميع أنحاء فلسطين، وعلى هذا التغييب لا يمكن أن نلوم إلا أنفسنا.


الصور: من أرشيف ""المكتبة الوطنية"" في القدس."

د. ميسون ارشيد - شحادة

باحثة ومحاضرة في العلوم السياسية في الجامعة المفتوحة وعضوة المجلس التربوي العربي

شاركونا رأيكن.م