لا علامات زرقاء إنما قفص ذهبي هش قابل للكسر مع كل هبّة غضب

لعنف الجسدي مرفوض ومنبوذ اجتماعيًا وقانونيًا- ولكن هناك نوع أخر من العنف المنزلي!

عنف لا يترك كدمات أو جروح وعلامات زرقاء على البدن. ومن الصّعب رؤيته، ولكن، هو بنظري من أكبر المسببات- شديدة الخطورة التي من شأنها أن تمنع النّساء من الشّكوى أو ترك المنزل وطلب الطّلاق- أو حتى التّفكير به. رغم تعرضها لأنواع عديدة من العنف والاضطهاد.

فقد تكون المرأة في أحيان كثيرة تتعرض لعنف اقتصادي ونفسي إلى جانب العنف الجسدي أو الكلامي.

هو ليس قضيّة جندريّة ولكنه غالبًا يمارس من قبل الرّجال ضد النّساء.

هذا العنف الذي يترك وراءه حتى بعد التّحرر منه- ندوبًا نفسيّة شديدة للغاية، والتي يمكن أن تستغرق سنوات عديدة للشفاء،

فهو يخلق الاعتماد على الجانب القوي ويحول الزّنزانة العائليّة إلى سجن، ويسمح بالإساءة دون القدرة على الهروب.

الخوف هو اسم اللّعبة!

هو عنف صعب التّشخيص، إذ يأتي بأشكال عدّة- بعضها ممدوحٌ اجتماعيًا، دون وعي بأضراره- بحجة الحفاظ على النّساء، والأسرة، والأولاد. وهو خطر للغاية إذ يضمن للمسيء عدم حصول المرأة على مالها الخاص واستقلاليتها حتى مستقبلًا، ومد اليد لطلب المال لكل صغيرة وكبيرة كنوع من الإهانة حيث يقرّر هو: ما المسموح والضّروري وما هو الأمر الذي يجب التّنازل عنه. إذا أزعجه أمرًا ما يمكنه الرّفض حتى ترضخ له.

اتخاذ القرارات الماليّة نيابة عن شخص ما قد تؤثر في مستقبله بشكل كبير إذ يؤدي لعدم قدرة على التّحكم بالمال أو الادخار، والاضطرار بأنّ يكون تابعًا ومرتبطًا كليًا بالمعيل، معتمدًا اقتصاديًا عليه وصعب التّحرر من قيوده وبذلك تتحقق للمسيء السّيطرة والتّحكم والشّعور بالقوة والأهميّة.

قد تختلف أشكال الاستغلال المالي من حالة إلى أخرى. يستخدم المعتدي (الزّوج أو العائلة) أحيانًا أساليب خفية مثل التّلاعب؛ بينما قد يكون البعض أكثر علانيّة وتطلبًا وترهيبًا. في نهاية الأمر الهدف واحد دومًا: اكتساب القوة والسّيطرة، واستعمال المال كوسيلة للتحكم.

من أشكال السّيطرة الماليّة

• تشجيع أو ضغط لترك العمل أو انتقاد الوظيفة، أو التّخريب والمضايقة بالاتصال أو الرّسائل النّصية، أو التّعطيل أو منع الحضور للعمل بإخفاء المفاتيح، أو فك بطاريّة السّيارة أو أخذها دون إذن، أو اقتراح مجالسة الأطفال ثم عدم الحضور واستعمال كل أنواع الأعذار منها استخدام الأطفال وحسن تربيتهم كذريعة.

• التّحكم في مال كسبته أو ادخرته بذرائع متنوعة مثل اضطلاعه بالأمور الماليّة أكثر، واهتمامه بمصلحة الأسرة.

• تخريب السّجل الائتماني عن طريق ""إنشاء ديون من جانب الزّوج باسم زوجته"" وعدم سدادها.

• مصادرة الرّاتب أو عدم السّماح بامتلاك حسابات مصرفيّة أو بطاقات ائتمان.

• انتقاد كل قرار مالي تتخذه، ورفض التّعاون في الشّؤون الماليّة ثم اتخاذ قرارات ماليّة كبيرة دون استشارة كشراء مقتنيات دون اعتبار رأيها وقيمها وطرقها التّربوية بالحسبان.

• تقليل الحريّة في التّخطيط أو الصّرف مع وجود معيار مزدوج (قد ينفقون الأموال على التّرفيه والمطاعم والملابس ولكنهم ينتقدون الشّريك عندما يقوم بأمرٍ مماثل).

• الضبابية حول استخدام الأموال المشتركة أو اخفاءها والإصرار على الزّوجة بمشاركة الدّخل مع رفض تقاسم دخله.

• اشتراط أن تكون عمليات الشّراء المشتركة الكبيرة باسمه فقط- السّيارات/ البيت/ الأراضي.

• الاستيلاء على ممتلكاتها أو الممتلكات المشتركة، أو حرمانها من التّصرف في الموارد الاقتصادية، أو حرمانها من الميراث والتّملك والاستغلال المادي.

• الإجبار على التّوقيع على المستندات الماليّة دون إيضاحات.

• توجيه تهديدات بعدم توفير الاحتياجات الماليّة في حال رفض رغباته وطلباته.

الاستغلال المالي من أقوى الطّرق لإبقاء الضّحية محاصرة في علاقة مسيئة، لأن الضّحية تكون في الغالب قلقة بشكل كبير حول قدرتها على توفير المال لنفسها ولأطفالها في حال إنهاء العلاقة حيث أن انعدام الأمان الاقتصادي أحد أهم أسباب عودة المرأة إلى شريك مسيء.

ليس بالأمر السهل أنْ تبدأ حياة جديدة فيها المشقة والكثير الكثير من التّنازلات. حيث ما زالت حتى يومنا هذا المسؤوليات الأسريّة في الزّواج من حظ الزّوجات والكثير من الرّجال يروْنَ في مشاركة المسؤوليّة المنزلية أو المادية تقليل من رجولتهم . وإن كان الأمر مختلفًا بعد الطلاق لكان حلًّا! ولكن هذه النّساء تعاني حتى بعد الانفصال فالمال عامل تحكم في الزّواج، ولكن أيضًا في الطّلاق فقد يستمر المسيء بعد الطلاق بالعيش في مستوى حياة ممتاز، يكسب بشكل متميز، على عكس الطّرف الأخر لأنه كان يعتمد عليه طوال حياته حتى لو هربت من المنزل، فسيظل زوجها قادرًا على حرمانها من الوصول للمال، وبالتالي قد تخسر أطفالها، فهي ما زالت تعتمد على نعمه وأفضاله. ممتلكاتها لا تزال في يديه ولم تعتد على التّعامل مع المال.

للاستغلال المالي غالبًا آثار مدمرة، إذ تشعر الضّحية بعدم الكفاءة وقلة الثّقة بالنفس بسبب الإساءة العاطفيّة النّفسية المصاحبة للإساءة الماليّة، فحتى لو جمعت المرأة الشّجاعة وطلبت الانفصال، فليس لديها حقًا خيار التّحرر من الكابوس- هناك صعوبة الوصول للمال إضافة إلى سجلات توظيف متقطعة، وتاريخ ائتماني مدمر، وقضايا قانونيّة متصاعدة بسبب سنوات من الانتهاك. هذا إضافة لواقع فجوة الأجور بين الجنسين وقلة فرص العمل المناسبة للنساء الأمهات خاصة- من حيث صعوبة التّوفيق بين الحياة العمليّة والعائليّة، ما يصعب تحقيق الاستقلال على المدى البعيد.

يتعدى هذا العنف بنظري كل الطبقات الاجتماعية حيث أننا نراه كثيرًا في العائلات متوسطة أو عالية الدّخل فتختار بعض النّساء العيش في قفص ذهبي، لا تطالب بالتّحرر منه لاقتناعها أنه يأتي بالنّفع عليها وعلى أولادها رغم صعوبة الحياة اليومية وشعور داخلي بالانزعاج ورغبه بالاستقلال. فقد يبدو هذا العنف أحيانًا ككرم فائق ولكنه تحكم بدرجات كبيرة بالمرأة وبالقرارات العائلية بسيطرة تامة واستعلاء. ولكنها بسبب الرّعب الذي تعيشه وقلة الامكانيات المادية التي تتحكم فيها وشعورها بالصغر، لا لأنها صغيرة! بل لأن ""شخصًا ما"" أدخل هذه الفكرة لعقلها- تختار الصّمت والسّكون.

اذا رجعنا لتعريف العنف فهو نوع من تعبير عن قوة تصدر بصورة متعمدة نحو هدف ما. فيها إرغام، حد من حرية الحركة، إهانة وعزل عن محيط وتدمير منهجي للشعور بتقدير الذات .والعنف الاقتصادي يحقق للشخص المعنِّف كل ذلك مع شعور كبير بالرضى والعلياء. فمن خلال العنف الاقتصادي والتّرهيب وغالبًا التّكتيك، يمكن للزوج إخضاع المرأة لإملاءاته وعندما تكون ضعيفة ومعتمدة عليه كليًا، فلا شك أن العنف اللّفظي والتهديد والإذلال سيأتي بسرعة كبيرة وربما الضرب أيضًا، كل هذه أشكال من أشكال العنف التي تغير الصّورة النّمطية للمرأة المعنفة فهي لا تبدو دومًا ضعيفة خافتة النّور مضطهدة. إنما يمكن أن تظهر بمظهر تحسد عليه خارجيًا لا بل وتكون عرضة للتقليد ولكنها تكون محطمة داخليًا.

التعامل مع رجل عنيف يتطلب الكثير من الشّجاعة والقوة والمال من هؤلاء النّساء. العديد منهن يصبن بالشّلل نتيجة الخوف ويبقين في علاقة سامة لحماية أطفالهن، ولأنهن لا يملكن الوسائل المالية للخروج ولكن؛ إن لنا أن نوقف هذا العنف بالوعي والتّمكين.

المال هو القوة ، إنه التّحكم. المال يسمح باتخاذ جميع القرارات: مكان السّكن، وماذا يفعل و يشتري؟ صاحب المال يعتبر الذكي، الشخص الذي يفهم كل شيء، وهو على حق دائمًا. ولكن ليس بالضرورة أن يكون سببًا للتحكم بالأخر! بل يمكن العيش باستقلالية واحترام متبادل وقوة مشتركة مفيدة للفرد والمجتمع.

أنا اؤمن أن في مجتمعنا القدرة والقوة الكافيّة لدعم هذه النّساء وإيقاف استغلالهن.

من السّهل أن نقول لشخص لا يعرف شيئًا عن المال أنه ليس باستطاعته إدارته و""نحرره"" من هذه المسؤوليّة، ولكن إن عملنا على توعيّة شاملة للفتيات والفتيان منذ الصّغر وللأمهات والآباء ابتداءً من اليوم سيكون بإمكاننا أن ننشئ جيلًا وأفرادًا تحركهم القيم السّليمة، ولا يحتاج أحدهم فرض قوته الماديّة أو الجسديّة على الأخر. إنما يعامل كل واحد الشّخص الاخر باحترام ويستفيد كلّ من الطرفين مما يبرع فيه الطّرف الثاني ونبني مجتمعًا، ومستقلًا، وواعيًا، وصحيًا.

الوعي الماليّ ليس خيار بل هو ضرورة لا غنى عنها.

أمينة عبد القادر

مدربة ومستشارة وموجهة مجموعات للوعي المالي واقتصاد العائلة والاستثمار

شاركونا رأيكن.م