متى كانت آخر مرة شعرت فيها بانتمائك لمجموعة أو جماعة؟ أو أحسست بأن ثلة من الناس تمثلك ومهما فعلَت فستنال موافقتك؟ حسنًا، متى كانت آخر مرة هتفت فيها بصوت عالٍ مطالِبًا بشيء؟ أو كنت مؤمنًا إيمانًا عميقًا بأن ما يخرج من حنجرتك سيصنع فرقًا؟

جواب الكثيرين من الشباب الفلسطيني لكل هذه الأسئلة سيكون، وهنا أتكلم من تجربة شخصية: ""في شهر أيار"" أو: ""في هبة الشيخ جراح""، أو مثلًا، ""عند منزل العم ""أبو نبيل الكرد""""، أو بصيغة أخرى، رامزين لنفس الفترة الزمنية: ""في حي كرم الجاعوني"". وهنا أتوقف لحظة لأشير لنقطة صغيرة تخص العبارة الأخيرة، والتي كابن القدس، لم أكن أعرف إلامَ تشير، فأنا لم أكن أعرف أن اسم ""كرم الجاعوني"" يطلق على ذلك الجزء من الشيخ جراح، والذي صارت فيه كل تلك الهبة.

لم يكن الاسم في معجمي، حتى ذكرته لي إحدى الصبايا التي أتت من الطيبة، لتقف بشكل سلمي، مطالبةً بشيء، وحّد عددًا كبيرا من أبناء فلسطين، على اختلاف وثائقهم أو تسمياتهم السياسية، وجمعهم في زقاق صغير مجردين من أي شيء إلا أصواتهم.

كيف لا يكون هذا حدث العام بالنسبة لي، وربما لكُثُر، بعدما أوصل صوت العائلات المهددة بالتهجير لمنازل في آخر الأرض، وبعدما أحدثه من ضجة حول موضوعٍ لطالما تغافل عنه صنّاع القرار لوقت طويل؟ هذا الحدث، الذي بفضله قامت فلسطين التاريخية وقعدت، بعد ما ظن كثيرون أن الانقسامات كانت قد نجحت في النيل منهم، وفرقتهم التسميات المختلفة والمستندات التي لا تشير إلى كونهم فلسطينيين أصلا.

في الحي كنت ترى أهل الضفة الغربية والقدس والداخل والشتات، وكنت ترى من يصعد على منبر الكنيست كل إثنين وخميس، ومن يصنع القهوة في البلدة القديمة في القدس. كنت ترى طالب جامعة إسرائيلية، وطالب مدرسة حكومية تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين. كنت ترى الفنانين والعاطلين، وكنت ترى الشباب والمخاتير والأطفال من كل الأجناس. كان التجمع في الحي كصلاة المسلمين، ترى فيها طبقات الناس كلها، لكن الفرق هنا أن دينهم لم يكن الإسلام بالضرورة، وما جمعهم كان إيمانهم بأن هذه الهبة مختلفة.

لم يتبنَ أي تيار سياسيٍ مسؤولية ما يحصل، ولم يكن أي من التجمعات هدفه تفوق أي حزب أو جهة على أخرى. كانت التجمعات عفوية وبسيطة، هدفها الأساسي هو دعم عائلات وأفراد على وشك خسارة بيوتهم وذكرياتهم، ليحتلها مستوطنون جدد، يزعمون أحقيتهم بالأرض. أما الأهداف الأخرى فتنوعت بين لفت انتباه أصحاب المناصب، وشحن الشعوب حول العالم، لضم أصواتهم، والضغط على من هم أعلى منهم، علّ ذلك يحدث فرقًا ويؤجل أو يلغي القرار الإسرائيلي بالتهجير.

""كانت أحداث أيار مجموعة من أهم الأحداث في تاريخ الشباب المعاصر""، هذه جملة أسمح لنفسي أن أقولها، كوني أنتمي لفئة الشباب المعاصر، دون الحاجة لأفكر بماهية التاريخ، أو بقوة الأحداث السابقة التي شكلته، فأنا كنت شاهدًا على مشاعر ومواقف، رسّخت لدي معاني كثيرة، ورؤى مختلفة لما يمكن أن يحدث حال وضع الاختلافات جانبًا، والالتفاف حول موقف واحد وعادل، حتى وإن كان سلميًا ويتسم بالهدوء، إلا أن وقعه ممكن أن يكون عظيما.

وُوجِهت الوقفات التضامنية في الحي بالعنف الكثير، وبقمعٍ استُخدمت فيه أدوات كثيرة، كقنابل الصوت والرصاص المطاطي والمياه العادمة، ووصل الأمر إلى استخدام فرق الخيالة والإغلاق والتضييق، وبوتيرة يومية، أو شبه يومية، وليس هذا ما يهم، بل ما يهم هو المعضلة التي واجهتنا كشباب. نظن أن هذا التضامن سينتهي قريبًا، أو أننا مثلا سنمل من المجيء إلى الحي والتعبير عن رفضنا لسياسات الاحتلال، لنرى منى ومحمد ومراد، وشبابًا مقدسيين آخرين يتحدون كل هذا بمنشور في ""إنستجرام""، أو ب""لايف"" على فيسبوك، يتواصلون فيه مع قطر والبحرين وامريكا والبرازيل والمغرب وغيرها من بين دول العالم ال206.

كانت الوقفات أشبه بزيارات عائلية، فقد كان الأطفال يوزعون قناني المياه على الزوار، وكان بعضهم يوزع الشوكولاتة، بينما يرسم آخرون الجداريات ويلعبون كرة القدم في الشارع. كنت تفتتح محادثات مع من بجانبك عن مباراة في التنس، وتدخلان نقاشًا عن مطعم الحمص الأفضل في فلسطين، لتأتي أمٌّ من سكان الحي، وتعطيك كأس الشاي، فتشربه وتشكرها، فتقول لك بكل لطف، ""حبيبي يما""، لتشعر بعدها أن هذه الزيارة ما هي إلا جلسة في ساحة منزلك، تشرب فيها الشاي وتتحدث مع ابن جيرانك القادم من مجد الكروم، ويعطيك فيها الكعك طفل من رهط.

تنقلت هذه الوقفات من الشيخ جراح لباب العمود، لسلوان وبيتا ومسافر يطا، وغيرها الكثير من البلدات، وستطال حتما أجزاء كثيرة من فلسطين، فالاحتلال واحد، على اختلاف وسائله وطرق تشريده للسكان، والتطهير العرقي بِسلب البيوت أو هدمها هو وسيلة هادئة ومريحة دوليًا ومحليًا، لكن ليس مع جيل ""التيك توك""، هذا الجيل الذي انتُقد كثيرًا، وقوبل بكثير من الرفض، كونه ملتصقًا بالشاشات، ومتابعًا لل""تريندز"".

صنع هذا الجيل من القضية الفلسطينية تريندًا عظيمًا، جعلها حديث أشخاص مختلفين تارةً، وغير متوقعين تارةً أخرى، شعارهم أغنية راب مقدسية بعنوان ""إن أن""، وألوانهم هي ألوان العلم الفلسطيني، مجردين من الانتماءات الحزبية أو الانقسامات المفروضة، متحيزين فقط وبصورة جميلة، لبيوتِ وذكرياتِ أهلهم.

لكل ما ذكرت وما لم أذكر، فحي الشيخ جراح، وتحديدا كرم الجاعوني، وما صنعه من لُحمة ووحدة، جدير برأيي باختياره كحدث العام، فأنا أقف اليوم هنا مع عائلات أنتمي إليها، ليقفوا هم معي غدًا، لنشرب الشاي المنغص برائحة المياه العادمة، ولعل الوقفة لا تطول.

تصوير: اورن زيف من موقع ""سيحا مكوميت""."

علاء محتسب

طالب صحافة وإعلام مقدسي

شاركونا رأيكن.م