الحُكم الفقهي والنساء: المقدَّس كأداة هَيمنة
لعلّ اثنين من التسجيلات المهمة التي برزت وتمّ تداولها بكثرة هذا العام، هما ذلك التسجيليْن اللذيْن برزا إبان ""هبة القدس"" وظهر في أحدهما الشيخ حسني اللحام من إحدى بلدات الداخل الفلسطيني المحتلّ وهو يُشيد بتصرّفات الشباب والرجال ويُلبسهم صفات الصلاح والاستقامة في جميع الأحوال ""شبابنا ملاح""، وفي التسجيل الآخر وهو يستنكِر على النساء والفتيات قيامهنّ بشرب الأرجيلة ""بـنات بِتْأَرجل وِبْتطلِع دَوائِر""، وإنّ التفكير في التسجيل الثاني ضمن أطر أوسع من الأطر الظرفية والسياقية الفلسطينية التي ظهر فيها يدفع إلى الأذهان نحو التفكير في ظاهرة الإفتاء في شؤون النساء من حيث أنّها ظاهرة تتسيّد في معظم دول العالم العربي والإسلامي، وتأتي في معظم الأوقات بما يخدم خطاب الهيمنة الذكورية المتصدّر في تلك الدول.
وضمن السياق السابق، فإنّ هناك مقولة أوردها المفكّر هادي العلوي في إحدى كتبه ويقول فيها: ""إنّ المحرِّك للتاريخ ومقدساته ليس العقيدة والقداسة، بل الصراع السياسي والاجتماعي. وهكذا في كلّ تاريخ مقدس أو مؤدلج يتعرض مأثور مؤسسه للانتهاك تحت ضغط هذا الصراع: قاعدة عامة في جميع الأمم والحضارات"" .
إنّ المقولة السابقة تأتي لتوضّح بأن الصراع السياسي والاجتماعي هو الأساس المحرّك لسيرورة التاريخ، وبالتالي فإنّه حتى أكثر المؤسسات والمنظومات المجتمعية والدينية قداسة تتأثّر وتكون خاضعة لنتائج هذا الصراع والأطراف المهيْمِنة فيه.
ويُمكن القول بأنّ إسقاط تلك المقولة على أوضاع الرجل والمرأة ضمن سياق المجتمعات العربية والإسلامية يُساعد بشكل كبير في فهم طبيعة المنظومة الفقهية السائدة في تلكَ المجتمعات، فالمنظومة الفقهية في تلك المجتمعات ليست منظومة منعزلة عن البنية الاجتماعية التي تتكوّن منها والقائمة على أساس الهيمنة الذكورية التي يسود فيها الرجل.
ومما يُلاحظ في الأحكام الفقهية الصادرة عن تلك المنظومة في تلك المجتمعات أنّ كثير منها هي أحكام تأتي لتهِب الرجل حقّه في الاستبداد بالأمر ومعاملة المرأة بشكل يتلاءم مع طبيعة البنية الاجتماعية السائدة والقائمة على أسس هيمنة الخطاب الذكوري الذي يَأتي ضمناً ليشير إلى دونية النساء .
وبالنظر في بعض الأحكام الفقهية التي وردت بشأن النساء عند الفقهاء، يُمكن القول بأنّ الحكم الفقهي المتعلّق بختان البتات عند ابن تيمية –مثلاً- هو حكم نابع من التصوّر الخاطئ عن المرأة على أنّها عاجزة عن التحكّم في شهوتها، وبالتالي يجب اتخاذ إجراء يكون هدفه التخفيف من تلك الشهوة والحدّ منها خشية ارتكابها المحرمات، وهذا الإجراء هو الختان.
إنّ الحكم الفقهي السابق عند ابن تيمية والمتعلّق بجواز إجراء الختان للإناث هو حكم فقهي ينطلق ليس من افتراض العجز العقلي والأخلاقي والسلوكي (ناقصة عقل ودين) في المرأة، فهذا الحكم يفترض أنّ المرأة غير قادرة على ضبط سلوكها إذا ما تعلّق الأمر بالشهوة، كما أنّه يفترض عدم قدرتها –أمام شهوتها الجسدية- على التفريق بين ما هو أخلاقي وغير أخلاقي، فهو حكم نابع من عقلية الوصاية على المرأة واعتبار هذا الفعل الإجرائي في جسدها (الختان) بمثابة إجراء احترازي يأتي من أجل حمايتها لضمان عدم وقوعها في مسالك الزلل والخطيئة .
إنّ الأحكام الفقهية المتعلّقة بالمرأة جاءت لتُلصق بها تُهم العجز العقلي والإدراكي في كافة الأصعدة والمجالات، وهو ما يُمكن ملاحظته في الأحكام الفقهية المتعلّقة بضوابط الزيّ الشرعي وكيفية معاملة الزوج ووجوب طاعته، كما يُمكن ملاحظته –كذلك- في الأحكام الفقهية المتعلقّة بمسائل الميراث والإمامة في الصلاة والحكم السياسي .
إنّ الأحكام الفقهية الواردة في هذه المسائل جميعها هي أحكام جاءت بما يُكّرس الوضعية الدونية للمرأة ويُبقيها في موقعها كتابعة للرجل ومتخلفة عنه في حقول السياسة وغيرها، وإنّ هذه الأحكام هي أحكام تمّ أخذها من سياقها التاريخي العام دون التدقيق في طبيعة هذا السياق وملامحه، حيثُ تمّ تعميمها على واقع المرأة المعاصر دون إمعان النظر في التغيّرات التي طالت السياق التاريخي أو الظرف المكاني والزماني أو أوضاع المرأة وإمكاناتها بشكل عام.
وضمن السياق السابق، فإنّ الباحثة مية الرحبي تُورد في كتابها ""الإسلام في المرأة: قراءة نسوية في أسس قانون الأحوال الشخصية"" عبارة تُلخّص فيها الطبيعة الانتقائية والتعميمية لهذه الأحكام، وذلك بقولها: ""لقد مورست على المرأة في مجتمعاتنا أكبر عملية تلفيق وتزوير، اقتطف فيها البعض نتفاً من كلمة قيلت هنا أو هناك، دون وضع الكلام في سياقه العام، أو الحادثة في سياقها التاريخي الذي يُبررها، وعُمِّمت كنصوص مقدّسة مارست عنفاً ضد النساء امتدّ خمسة عشر قرناً"" .
أخيراً فإنّ هذه الأحكام الفقهية التي ما زالت ترد على ألسنة الفقهاء والشيوخ في المنابر في خطب الجمعة وغيرها، والتي يتم تداولها على ألسنة الرجال في سياقات إثبات دونية النساء؛ إنّ هذه الأحكام جميعها لا يُمكن التحرّر منها دون حدوث تجديد حقيقي في المنظومة الفقهية السائدة في العالم العربي والإسلامي، بحيث تَستبدل هذه المنظومة منهجها في قراءة النصوص الدينية –لاستنباط الأحكام الفقهية- من منهج قائم على القراءة المغلقة، إلى منهج قائم على القراءة السياقية التاريخية، وهي القراءة التي تقوم بتـأويل النصوص الدينية بالنظر إلى إنسانية المرأة وحريتها، والتي يُمكن عبرها التفريق بين ما هو جوهري وثابت في الأحكام والتشريعات وبين ما هو عارض ومتغيّر، إنّها تلك القراءة التي دعا إليها غالبية من دعوا إلى التجديد في الفكر الديني، وقالوا عنها بأنّها قراءة ""تنطلق من أساس ثابت هو المقصد الجوهري للشريعة، وهو العدل"" .
إحالات
1. مية الرحبي، الإسلام والمرأة: قراءة نسوية في أسس قانون الأحوال الشخصية، ط1 (دمشق/ سوريا: الرحبة للنشر والتوزيع، 2014)، ص11.
2. عمار بنحمودة، الإفتاء في شؤون النساء: رؤية نقدية لتفكيك الهيمنة الذكورية، مؤمنون بلا حدود،2021، ص4.
3. المرجع السابق، ص4-5.
4. المرجع السابق، ص9.
5. مية الرحبي، مرجع سابق، ص14.
6. المرجع السابق، ص15.
إسراء عرفات
كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة