كأس العالم في قطر 2022.. 12 عاما من الرفض

إنّ عالمنا يسير بسرعة هائلة، ومع تقدم التكنولوجيا والتقنيات المختلفة، أصبحت مسألة تداول المعلومات والتواصل عبر الوسائل المختلفة بين أطراف العالم الواسع يسيرة وسريعة. ومع هذه السرعة والانكشاف على مستحدثات العالم الذي يصفه الكثيرون اليوم ب"القرية الصغيرة" قد يصاب الشخص في حيرة حول حدث العام الأبرز. بالإضافة الى ذلك، إنّ الاهتمامات المتنوّعة والمختلفة بين البشر، تتيح تسليط الضوء على العديد من الأحداث المهمة لكل في مجال اهتمامه.

في هذه المقالة، سأستعرض حدثا يحتضنه عام 2022، حدث يلم العالم أجمع حوله وينتظره محبو كرة القدم بفارغ الصبر كل 4 سنوات، كأس العالم في قطر 2022. إنّ هذا الحدث يحمل في طياته أبعادًا متعددة، ومن أبرز معالم هذا الحدث، هو استضافة بلد عربي مسلم في الشرق الأوسط للمرة الأولى هذه المناسبة الكروية الأكثر شعبية. أثارت استضافة قطر لهذا الحدث العالمي جدليات عديدة في الغرب، إذ لمْ تخلُ هذه المناسبة الرياضية من جدليات أيديولوجية إنسانية وسياسية نادت بمقاطعة كأس العالم الذي تنظمه قطر. بالتّالي، سنحاول تتبع مراحل المقاطعة وأسبابها من وجهة نظر المطالبين بالمقاطعة. في المقابل، سنعرض ردود الأفعال أمام مطالب المقاطعة والاتهامات الموجه لقطر، البلد المستضيف لكأس العالم. كما سنستعرض وجهات نظر مختلفة، قد تكون السبب حول خلفيات هذه المطالب. وفي النهاية، سنلقي الضوء على أهمية وواقعية بعض مطالبات المقاطعة والتي من الممكن أن يكون لها أثر إيجابي على المنطقة.

أما أهمية هذا المقال، والتركيز على هذا الحدث المنتظر، تنبع من مستويين. المستوى الأول، لما يحمله من معاني وطموح للشرق الأوسط بشكل عام، وللعالم العربي ولرؤية قطر بشكل خاص. أما المستوى الثاني، فهو النظر في تقسيم العالم ل"غرب" حداثي، و"شرق" متخلّف، كما يحاول إظهاره المطالبون بمقاطعة كأس العالم في قطر.

انطلاق الحدث منذ 12 عاما

انطلقت رحلة كأس العالم لكرة القدم "المونديال" في قطر منذ عام 2010، حين أُعلن عن نيْل قطر من قِبل الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" شرف تنظيم مونديال 2022. لم يمض الكثير من الوقت حتى بدأت أبواق إعلام غربية كصحيفة الغارديان البريطانية، بحملة هجوم لسحب ملف الاستضافة من قطر. منذ 12 عاما وحتى الأشواط الأخيرة من انطلاقة صافرة البدء، تعددت وتبدلت الأسباب المطالبة بمقاطعة المونديال في قطر. تغلغل هذا الخطاب الذي انطلق من الإعلام إلى أوساط مختلفة في الغرب، فارتسمت أشكال المقاطعة على الصعيد العام والخاص. على الصعيد العام، لم تتوان جمعيات حقوق الإنسان من ملاحقة السلطات القطرية. كما أعلنت مدن كباريس عن منعها بث مباريات كأس العالم على شاشات كبيرة في الأماكن العامة كما جرت العادة. وأُضيف إلى ذلك، مقاطعة مجتمع الميم (مثليي الجنس) للمونديال في قطر. أما على الصعيد الخاص، تشكلت ملامح المقاطعة بتصريحات لاعبي كرة قدم عالميين، ينددون بتعامل قطر مع موضوع العمالة، مُحتجّين على ظروف العمل التي عانى منها العُمّال الوافدون في التحضيرات لاستضافة المونديال.

في المقابل، لم تصمت الهيئات القطرية المنظمة لكأس العالم أمام هذه الاتهامات المتواصلة على مدار 12 عاما. بل ودافعت عن نفسها، وطالبت بالالتزام بالموضوعية في عرض الحقائق واحترام ثوابت ومعتقدات الدولة المستضيفة. وانضمت لصوت قطر بعض المؤسسات العالمية كمنظمة العمل الدولية ومنظمة العفو الدولية، والتي أظهرت واقعا مغايرًا لما تدعيه الجهات المطالبة بالمقاطعة.
المقاطعة، مراحلها وأسبابها المختلفة

إنّ الانتقادات ومطالبات سحب ملف تحضير المونديال على الصعيد العام، انطلقت منذ إعلان الفيفا فوز دولة قطر باستضافة نسخة 2022 لهذا الحدث العالمي. فوفقا لتحقيق أعده برنامج "للقصة بقية"، فإنّ صحيفة الغارديان البريطانية اتخذت موقف رأس الحربة في هذا الهجوم. ففوْر إعلان فوز قطر، بدأت الصحيفة عبر منصتها بمطالبة سحب الملف من قطر، بدعوى "الفساد" الذي طال عملية تقديم قطر لطلبها باستضافة المونديال. إلا أنّ هذه الاتهامات باتت في طي النّسيان بعد تحقيق امتد على نحو عامين من قِبل لجنة الأخلاق التابعة للفيفا، والذي برّأ قطر من هذه التهم.

لم تتوقف الصحيفة البريطانية عند هذا الحد، فأخذت تحث منظمات حقوق الإنسان بالمطالبة بمقاطعة المونديال في قطر. منذ الإعلان عن قبول ترشح قطر لتنظيم كأس العالم أصر الإعلام الغربي على استدراجها إلى ساحات حقوق الإنسان وعلى تفحص سجل الدولة في هذا المجال، حيث تم نسج خطاب ملتبس حول قضية حقوق العمال، أحد أبرز مواطن الجدل بين الدوحة ووسائل الإعلام الغربية. وفي هذا السياق، ادعت صحيفة الغارديان أن نحو 6500 عامل قد لاقوا حتفهم أثناء التحضيرات لمنشآت كأس العالم. وانضمت الدنمارك للاحتجاجات هذه حيث أعلنت شركة هيمالايا للألبسة الرياضية إنتاج أطقم المنتخب الدانماركي باللون الأسود، ليكون غير مرئي احتجاجا على تعامل قطر مع العمال، حسب زعمهم.

بالإضافة الى الأسباب التي ذكرت سابقا، فقد ظهر ادعاء أن قطر تساهم في الانبعاثات التي تفاقم المخاوف تجاه التغيير المناخي. ففي فرنسا مثلًا، قررت بلديات فرنسية كباريس مقاطعة بث مباريات كأس العالم في قطر وعدم عرضها على شاشات كبيرة في الميادين العامة، بحجة أن التبريد المستخدم في منشآت كأس العالم يسبب بانبعاثات كربونية عالية. مما يفاقم أزمة الاحتباس الحراري والتي تعلو الأصوات في العالم لمجابهة هذه الأزمة لما لها من آثار كارثية على التغيير في المناخ.

ومع اقتراب انطلاق كأس العالم تعالت الأصوات الغربية المحذرة من الخطر المحدق بالمثليين خلال تواجدهم في قطر، بحيث أطلقت وسائل إعلام غربية ما يمكن وصفه بمعركة الحضور العادل للمثليين في المونديال، مع وسم قطر "برهاب المثلية".

إلا أنّ ذروة الجدل كانت في تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيرز، إذ قالت إنّ حق استضافة الدوحة لمونديال 2022 "خادع للغاية"، وأضافت إنّ "هناك معايير ينبغي الالتزام بها، وسيكون من الأفضل، عدم منح حق استضافة البطولات لمثل هذه الدول".

أما على المستوى الخاص، فقد قام لاعبون على مستوى عالمي بالتعبير عن مقاطعتهم للمونديال في قطر. على سبيل المثال، قد صرح لاعب ريال مدريد توني كروس قائلًا إنّ العمال المهاجرين في قطر يواجهون ظروفا صعبة تصل إلى حد التعرض "لشكل معين من أشكال العنف". وقد انضم إلى كروس زميله السابق فيليب لام، والذي صرح أنه "يجب أن تلعب حقوق الإنسان دوراً أكبر" في منح تنظيم هذه البطولة لأي دولة، مشيراً إلى أنه "عندما تكون الدولة التي حصلت على حق استضافة البطولة من أسوأ الدول في هذا الصدد، فعلينا أن نتساءل عن معايير القرار".

ردًّا على الاتهامات الموجه ضدها

رأت قطر بأن حملة غربية مستعرة قد أثيرت ضدها، منذ فوزها في ملف استضافة مونديال 2022، وخاصة مع الاقتراب من موعد انطلاقة المونديال. علت خلالها نبرة خطاب يصف هذا البلد الخليجي بأنه "دولة حديثة التأسيس"، تنتج "الغاز حصرا" من دون أي شيء آخر، ويتملكها رُهاب مستحكم من المثليين، وقد بنيت فيها البنايات على أجساد العمال المنهكين. ما دعاها إلى مجابهة هذه الاتهامات على مدار 12 عاما، تاركة إنجازاتها في التحضير للحدث الكبير أن يكون الشاهد على استحقاقها أمام العالم أجمع.

فقد صرح وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن المبررات المقدمة لمقاطعة كأس العالم قطر 2022 لا تستند إلى الموضوعية، مشيرا إلى وجود كثير من النفاق في الهجمات التي تستهدف بلاده، والتي تتجاهل كل الإنجازات التي حققتها. وقد عززت من أهمية الإنجازات المدير التنفيذي لإدارة الاتصال والإعلام في اللجنة العليا للمشاريع والإرث فاطمة النعيمي، إذ أكدت أن الإنجازات التي تحقّقت على امتداد الفترة التحضيرية للمونديال، هي بمثابة رد وافٍ على ما واجهته فرق العمل من انتقادات طوال رحلة متواصلة على مدى أكثر من 12 عامًا، لتنظيم النسخة الأولى من المونديال في العالم العربي.

أما فيما يخص حقوق العمال، فقد بين التحقيق الذي أجراه "للقصة بقية"، أن الصحافة البريطانية التي تعمدت مهاجمة مونديال قطر، تجاهلت ذكر الإصلاحات التي أجرتها قطر والمتعلقة بالعمال الوافدين، وتمكين العمال من تقديم ممثل عنهم وإن كانوا خارج البلاد. كما يبين التحقيق تجاهل الصحافة البريطانية المهاجمة إقرار قطر قوانين قد سنتها من أجل إحداث إصلاح في ظروف العمال، والتي لاقت إشادة من المنظمات الدولية المهتمة بشؤون العمال وحقوق الإنسان.

وعند الحديث عن الانبعاثات الكربونية، ينوه ناصر الخاطر مساعد الأمين العام لشؤون تنظيم بطولة كأس العالم في "اللجنة العليا للمشاريع والإرث"، أن الملاعب في أوروبا يتم تدفئتها أثناء فصل الشتاء وهو ما ينتج انبعاثات كربونية أعلى من تلك الناتجة عن تبريد الملاعب، مشيرا إلى أن قطر تستخدم الطاقة الشمسية في تبريد الملاعب، وهو ما يعني أن الملاعب المونديال في قطر صديقة للبيئة على عكس الأوروبية.

خلفيات مطالب المقاطعة

إن تحليل خلفيات المطالب والتي تنادي بمقاطعة المونديال في قطر، تأخذنا إلى تسليط الضوء إلى الخطاب الاستشراقي. يثير هذا الخطاب التي تتخذه وسائل إعلام غربية وفقا للباحثة في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، سارة آيت خرصة، جدلية "الأنا" و"الغير". وكما ترى أن هذا النوع من الخطاب الإعلامي الاستشراقي يعزز من لغة الاستعلاء العرقي وسياسات الهوية التي تغلف تغطية الصحف الغربية لهذه الأحداث الكبرى. تبيّن خرصة أن وسائل الإعلام لا تتوقف عند عكس الواقع كما هو، بل لها دور فاعل في تشكيل تصورنا عن العالم، مستندة على قوتها الرمزية التي تمنحها القدرة على "الإظهار" و"الإخفاء" أو ما يطلق عليه ستيوارت هول "نظرية التمثيل". أي إن وسائل الإعلام تملك القدرة على اختيار ما تريد إظهاره أو إخفاءه، لتنسج صورة للعالم في أذهان المتلقّين. بقيامها بهذا الدور، تستمد وسائل الإعلام الغربية من الماضي الحاضر بين علاقة المستعمِر والمستعمَر خطاب الاستشراق. إن استحضار هذا الخطاب، يحشد الرأي الغربي على صورة مفادها أن دول "الشرق" متخلفة، ليصبح دلالة في كل الأذهان عن "الآخر"، وفي حالتنا دولة قطر، الذي يرتبط وجودها بأنها متخلفة عن الغرب. وبناءً على ذلك، يصبح من الشرعي المطالبة بمقاطعتها، بل وبسحب ملف المونديال منها بنظر الغرب.

خاتمة

من نافل القول، إن ما قامت به قطر من تحضيرات لاستضافة المونديال ليس له مثيل. كل متابع لكرة القدم، والكثير من المحللين يتفقون على أن التحضير للمونديال في قطر قد تم بأعلى المستويات. بلا شك، سيكون المونديال في قطر، فرصة لباقي الأمم للتعرف على قطر بأبهى حللها. بالإضافة إلى ذلك، التعرف على "شرق" قد صوّر بأنه متخلف، عوضا عن وصفه بالمختلف ثقافيا وحضاريا. كأس العالم هو فرصة لكي تلتقي شعوب مختلفة ببعضها البعض، والتعرف على ثقافة مختلفة، وحضارة جديدة.

إن استغلال هذه المناسبة من أجل إدخال إصلاحات في مواضيع مهمة كحقوق الإنسان، لهو مطلب من أسمى المطالب. وقد تكون فرصة من أجل تطوير أساسات تبني عليها دولة قطر قوانينها المستقبلية. إلا أن الحملات التي قامت بها وسائل الإعلام الغربية تغاضت عن التحولات الكبيرة التي حصلت في قطر. على سبيل المثال، محاولتها تمكين العمال وتحسين ظروفهم قانونيا. وكان الأجدر بأن تلعب دورا داعما في تعزيز هذه التغييرات، وإعلاء خطاب التسامح والاحترام بين الشعوب المختلفة. لا أرى أنه يجب فصل الرياضة عن السياسة والأيديولوجيا المختلفة، بل يجب العمل على كافة الأصعدة من أجل الوصول إلى تقارب. وبالتالي، العمل على تعزيز حقوق الإنسان، والحث على التعاون من أجل تعزيزها في المناطق التي تعاني فيها الأقليات، والمونديال هو فرصة يجب استغلالها من أجل الحث على احترام الآخر، لا الانقضاض على تغيير يحمل في طياته بشرى للشرق الأوسط.

إن كأس العالم في قطر حدث كروي وإنساني، وقد يكون سببا في قلب الموازين والرؤى. ولا تقتصر هذه المناسبات على الدول الأوروبية، بحيث في نهاية المطاف، الاسم يجب أن يكون على مسمى، فكأس العالم للعالم، وليس حِكرًا على شعوب دون غيرهم.


كاتب المقال: ياسر عاصي وهو طالب ماجستير في برنامج الدراسات الاسرائيلية في جامعة بيرزيت، وخريج علم نفس وإعلام من "الجامعة العبرية" في القدس.

 

استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

ياسر عاصي

طالب ماجستير في برنامج الدراسات الاسرائيلية في جامعة بيرزيت، وخريج علم نفس وإعلام من "الجامعة العبرية" في القدس

رأيك يهمنا