في سؤال انتزاع حق الناجيات والمتعرضات للتحرش الجنسي!
توصَف أفعال المتحرشين بصمت أو بهمس بدوائر صغيرة جدًّا أو شبه معدومة؛ لأن خياراتنا تتأرجحُ بين الصمت والمعارك الرابحة فقط، بمعنى إثبات فعل الاعتداء وفق المتطلبات القانونية وزّج المعتدي بالسجن أو الصمت على هذا الألم بينما تتآكل كرامتنا شيئا فشيئا، وصحتنا النفسية، واتزاننا. في واقع كهذا الذي يحيطنا من قمع واضطهاد، وأشكال تمييز لا تٌحصى، تُحصر خياراتنا بانتزاع الحرية والعدالة الاجتماعية بمواجهة ظالمينا دون سياق، واختيار معاركنا بشكل عشوائي. فإننا حين يتعلق الموضوع بالعنف الجنسي نقف أمام هذين الخيارين، وكما يُقال: أحلاهما مرٌ، فللصّمت تبعات مخيفة، فمن يدفع ثمن الجريمة نحن المتعرضات أو المتعرضين بينما يبقى المعتدي حرًّا طليقًا، أو سنقتحم منظومة خُلقت وبُنيت على أساس قهرنا وتشريدنا ونتوجه لها لحمايتنا وعلى عاتقنا إثبات الجريمة، وعلى أكتافنا وزرها وأثمان هذا الخيار من إثباتات غُيّب بعضها بعقلنا، وبتقديم دلائل لا نملكها، والخوض بمسارات إقناع وتبرير في غالب الأحيان.
هذا الحصر يجعل آليات المواجهة للنساء تقريبا معدومة أو مَحُوطَة بهالة من التساؤلات ومعادلات الربح والخسارة وما ينجم عن كلا الخيارين من إسقاطات صعبة وشائكة تحملها الناجية وحدها. من هنا تتخذ مسارات كسر الصمت أشكالًا مُختلفة، غير منوطة بمسارات واضحة تنساب مع شكل الاعتداء، وهوية المعتدي، وحجم الأثمان التي من المرجّح أن تعيَ المتعرضة أثرها.
الخروج عن الصمت
أخذت النساء منذ عدة سنوات وفي المجتمعات الأكثر تقدمًا في العالم قرارًا بانتزاع حقها بيدها، فبدأت بحملات إلكترونية لفضح المعتدين جنسيًّا عن طريق كتابة شهادتهن والتصريح بهوية المعتدي أحيانا تحت شعار ""وأنا أيضًا""، آنذاك كنا في الوطن العربي لا نزال بعيدات عن هذا النموذج، حتى بدأ يتدحرج صوبنا ملتئمًا مع الرغبة بالصراخ بوجه المعتدي وانتزاع شعور التذنيب والصمت القاتل. على هذا الأثر انتشرت في العالم العربي العديد من الحملات لفضح المتحرشين منها في مصر والأردن وتونس ودول أخرى بتغريدات ومسميات مختلفة وكل مجموعة اختارت لها الطريق الأنسب لاجتياز حاجز الصمت ورفع سقف الخطاب بما يتعلق بمواجهة الاعتداء.
في تركيبة مُجتمع يقبع تحت الاحتلال، لا توجد مسارات صحيحة أو صحيّة لوقف الاعتداءات، كما لا توجد مسارات قاطعة لمواجهة أي شكل وأي نمط مجتمعي نتج بسبب الاحتلال، فنحن لم نخض كأفراد وكمجموعات، مسارا طبيعيا في التطور حتى نتبنى منظومات ثابتة لتعاملنا مع الآفات المجتمعية وإسقاطات الاستعمار علينا، كون سيكولوجية هذا المجتمع متخبطة، تقع بخانة رد الفعل أكثر من الفعل نفسه، وبالمواجهة أو التحرّك حسبما تفرض السياسات التي يضعها المحتل والتي تتسارع يوميا وتتغيّر بوتيرة أسرع من أن تسنح لنا حتى أن ننظّم بمعزل عنها، فنخوض مُجتمعيا سيرورات عديدة نحو التفتّت، ولربما هذه الصورة الوحيدة الآن التي ستضطرنا لإعادة البناء وتنظيم المجتمع والمنظومات الاجتماعية من الصفر مجددا.
التنظم المجتمعي
تنظمنا مجتمعيا يعني أن تكون لدينا أعرافٌ اجتماعية تحمينا كأفراد، وأن نتفق على آليات عقاب ومسارات مٌحاسبة ثابتة، وأن نخلق أنماط وعي تُخرجنا من قوالب التذنيب والتبرير للعنف الجنسي والإنكار، وأن نتعامل مع العنف الجنسي كآفة مجتمعية موجودة، وعليه، أن نتبع خطوات نحو القناعة أصلًا بضرورة اجتثاثها من بيننا وأن نقوم بمحاسبة المعتدين وأن نصدق ونحمي المتعرضات والناجيات.
هذا التنظيم لن يحصل بين ليلة وضحاها، وهو ليس من مسؤولية النساء فقط. التنظيم هو إعادة ترتيب أوراق لمجتمع كامل، وبناء مصفوفات مقاوِمة لمنظومة احتلال تقبع هنا منذ سنوات وتصحب معها تأثيرات على السلوك الاجتماعي كونها تملك الصلاحية والنفوذ في القانون والمحاسبة، وهو مسار يجب أن تخوضه ركائز المجتمع بدءا بالقيادات والنخب السياسية والاجتماعية بغالبيتها كونها جزءا من هذه المنظومة ونتاجًا لوجودها، وتملك سلم أولويات محصورًا بردة الفعل الموسمية، ولا يرى في الذكورية والعنف ضد النساء والفئات المهمشة قضية لها حيّز من النضال في هذه المرحلة.
شهدنا في فلسطين حملات عدة لمحاولة تغيير الخطاب المجتمعي الدائر حول العنف الجنسي، وزعزعة مفاهيم تلويم المتعرضين للنساء وتبرير الاعتداء، ومن آخر هذه المحاولات كانت إطلاق صفحة لمجهولات الهوية من غزة لنشر شهادات وقصص تحرّش مرت بها العديد من النساء بدون أسماء عام 2019، وحملة"" 16يوم 16 شهادة"" لجمعية السّوار التي نشرت ست عشرة شهادة منها مع أسماء المتهمين بالتحرش ومنهم شخصيات معروفة مجتمعيا وذات رصيد سياسي وجتماعي مما أجّج النقاش مجتمعيا حول القضية، ومن ثم انطلاق حراك ""طالعات"" والذي أعاد للشارع قضية التحرر الوطني وارتباطها الأخلاقي والمصيري بالتحرر من الفكر الذكوري.
جميع هذه النضالات وغيرها الكثير تسعى لتطبيع الحديث المجتمعي عن العنف ضد النساء، والعنف الجنسي خاصة، ولعل أبرز ما نتج عن هذه المعارك هو الحاجة لتنظيم آليات احتضان وحماية للنساء اللواتي يخترن عدم التوجه للمنظومة القضائية لما تحويه من شعور بالغربة وعدم الثقة والمهادنة، ومن لا تريد أن تبقى مع صمتها، ففي ظلّ منظومة ترسّخ العنف بشكلٍ بنيوي وممنهج ضدّ النساء والفئات المهمشّة بسياساته، تلجأ الناجيات اليوم إلى خلق أدوات جديدة ومنصّات بديلة للاستمرار في مواجهة التحرّش وفضحه، وكسر سلطة المتحرّش الاجتماعية التي تبيح له الاستمرار في اعتدائه.
هذه القراءة البسيطة لواقعنا تضعنا كنساء أمام خيارات محدودة لوقف الاعتداءات المستمرة علينا، إما الحرب أمام المنظومة القانونية، وجهاز الشرطة، والمجتمع والعائلة وغالبيتها طبقات قمع أصلا تقف كحواجز أمامنا مع وبدون اعتداء، وإما فضح المتحرشين، والإدلاء بشهاداتنا لحماية غيرنا من النساء وتحذيرهن وافتعال الضجة حول المعتدي والتأثير ولو بشكل بسيط على سلطته، وقوته وشرعيته في دوائره. ولكن هذه الخيارات عمليا تعني أمرًا واحدًا، وهو الحرب بكل الاحوال.
قياس النجاح
الفعل النسوي كمعطى، ليس ثابتا ولا يقاس بشكل قطعي بالسؤال هل نجح هذا النضال وفشل ذاك؟، أو هل حققت هذه الحملة أو تلك الوقفة إنجازا عينيا؟ بل إن الفعل النسوي لماهيته هو طيف ديناميكي يتحرّك بكل الاتجاهات، يُراكم نضالات متدحرجة ليس بإمكاننا قياسها آنيا، بسؤال الفشل والنجاح، الفعل النسوي يرتقي لأبعد من ذلك فهو يلتحم مع ماضٍ طويل، ويتقاطع مع قصص فردية، ويتعاظم مع آلام وانتصارات وهبّات صغيرة وكبيرة.
مجرّد زخم التساؤل وطرح النقاش والحديث عن العنف الجنسي من الممكن أن نعده انتصارا فهو من بين الجدران الصامتة قد يتمكن من إنقاذ امرأة وإلهامها القوة في مكان ما، ولربما يكون الفعل الذي نراه اليوم صغيرا فعلًا، الشرارة لجيل قادم أو لفعل مقاوم في أي بقعة ظالمة على الأرض.
إن جمالية النضال النسوي هو أنه يتنفّس تضامنًا ومناصرة، ودعمًا والتحامًا، فجميعنا كنساء موجودات على طيف التعرض للعنف الجنسي، كل بقصتها وحجم ألمها، ولكننا جميعا في الدوامة نفسها، مما يجعل نضالنا بخطوات مختلفة أحيانا مكملا لنضال أخريات، وبخاصة في المجموعات الأكثر قمعا والتي تحارب طبقات عديدة من العنف والاضطهاد.