عن السكّان الأَصلانيّين – تجربة إيرلندا وفلسطين
في البداية أودّ إعطاء شرح مقتضب عن السكّان الأصلانيّين في العالم، فحسب موقع الأمم المتّحدة فإنّ هناك ما يزيد عن 476 مليون فرد من السكّان الأَصليّين يعتبرون ك ""شعوب أصليّة"". ويمثّلون نسبة 6.2 في المئة من إجماليّ عدد سكّان العالم. مكوّنين من حوالي خمسة آلاف مجموعة مختلفة من أعراق وألوان وثقافات متنوّعة تعيش في القارات جمعاء. هذه المجموعات تعيش في دول ""عصريّة"" إلّا أنّها يعيشون في عالمهم الخاصّ ويتكلّمون لغتهم الأصليّة ويمارسون تقاليدهم، معتقداتهم، وثقافاتهم الخاصّة بهم رغم ""التطوّر"" والتغيير الّذي تعيشه هذه الدّول ومجتمعاتنا اليوم وعصر التكنولوجيا و""القرية الصّغيرة"".
في هذه المدوَّنة سوف أطرح أسئلة عن مجتمعين وشعبين أَنتمي إليهما، الفلسطينيّ والإيرلنديّ، وهنا لن أدّعي ""الموضوعيّة"" العلميّة والبحثيّة، لأَنّنا في أخر الأمر بشر صقلتنا تجاربنا وتجارب أهلنا وأجدادنا. كما وأنّ ما يميّز علاقة السكّان الأصلانيين مع أرضهم هو استمراريّة تاريخية تسبق الاستعمار الحديث وتشبّثهم بأَرضهم. بالإضافة إلى إرادة قويّة لحفظ هوّيّتهم ونقلها إلى الأَجيال القادمة. ففي حالتنا الفلسطينيّة فإنّ شعبنا في العالم أجمع ما زال يعاني نكبته المستمرّة تبعاتها الّتي لا تنتهي. فرغم ""التَطوّر"" الّذي نعيشه وعالم الانترنت والتكنولوجيا إلّا أَنّنا، وخاصّة قسم من الأَجيال الشابّة من الجيل الرابع والخامس للنكبة. يدأبون على أهمّيّة نقل الرواية والتاريخ، سواء من خلال مواقع تواصل مختَصّة أو من خلال تدريس تراثنا وتطريزنا الفلاحيّ والأغاني التراثية المختلفة. أهمّيّة نقل الرواية تكمن في وسائل وآليّات ولغات مختلفة وهي أبعد من الحدود الجغرافيّة. فشعبنا الفلسطينيّ، سواء اللاجئ، النازح، المُغترب، أو الباقي والصامد في أرض الأَجداد، مهمّ له رفع الوعي حول قضيّتنا سواء على المستوى الخاصّ، المحلّيّ، والدوليّ. طبيخنا الفلسطينيّ والمجدّرة والملوخيّة وفطور المناقيش من أساسيّات البيت الفلسطينيّ أَينما تواجد، سواء كون الوالدين أو أحدهما فلسطينيّ. وهنا أتكلّم عن تجربتي الخاصّة وتجارب صديقاتي في أوروبا.
إذا نظرنا إلى إيرلندا الّتي عانت الاستعمار البريطانيّ لأكثر من 300 سنة، وما زالت إيرلندا الشماليّة بمقاطعاتها الستّة مستعمرة من المملكة المتّحدة. ورغم اتفاقيّات سلام وتعاون وغيره بين الجمهوريّة الإيرلنديّة وبريطانيا منذ 1920 إلّا أنّه ما زال هنا مجموعات في جزيرة إيرلندا تطالب باستقلال كامل للجزيرة بمقاطعاتها العديدة. إنّ المجاعة الكبرى، الّتي تعرف بمصطلح مجاعة البطاطا، والتي حلّت على الشعب الإيرلنديّ بين 1845 و 1852 زمن الاستعمار البريطاني تعتبر من أهمّ معالم هويّة الشعب الإيرلنديّ. فقد سبّبت هذه المجاعة جوع، مرض، وهجرة جزء كبير من الشعب الإيرلنديّ من بلدهم الأم إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبعدها العالم أجمع. إنّ البطاطا الإيرلنديّة معروفة بنوعيّتها الفاخرة وهي مصدر غذاء أَساسيّ للمطبخ الإيرلنديّ، وبسبب الفقر الّذي عاشه الإيرلنديّون وقت الاستعمار فلقد كانت البطاطا مصدر غذاء وحيد لأكثر من ثلث الشعب الإيرلنديّ. لقد أصابت محاصيل البطاطا جرثومة قاتلة، ولكن بسبب قانون ملكيّة الأراضي الاستعماريّ، فإنّ محاصيل البطاطا غير المصابة أُرسلت إلى بريطانيا لإطعام شعبها وتجويع الإيرلنديّين، ممّا أَدّى إلى موت حوالي مليون إيرلنديّ نتيجة المرض والجوع. هجرة الإيرلنديّين هذه تشرح العلاقة بين الإغلبيّة من الشّعب الأمريكيّ بجذوره الإيرلنديّة، فأغلبيّة الرؤساء الأمريكيّين ينحدرون من عائلات مهاجرة إيرلنديّة، وأشهرهم جون كينيدي، وجد أوباما لوالدته، وأخرهم جون بايدن.
لقد مارس الاستعمار البريطانيّ لإيرلندا الكثير من القوانين والممارسات العنصريّة للعديد من العقود، كملكيّة الأراضي، تجريم زواج الكاثوليك من البروتستانت، الإذلال والإساءة إلى المُعتقدات الكاثوليكيّة. ومنذ عام 1704 طُبق قيود وقوانين أكثر صرامة، ففي عام 1719 تمّ سن قوانين وعقوبات على الكهنة الكاثوليك غير المسجّلين، بالإضافة إلى حرمان الكاثوليك من التصويت. هذا الهجوم الديني الذي مورس على الإيرلنديين أثر على تعزيز الهُويّة الجماعيّة بين الكاثوليك وانتمائهم الإيرلنديّ، لذلك فقد شرعوا بإنشاء مدارس كاثوليكيّة خفيّة في الحقول والبيوت لحفظ هويّتهم ولغتهم الإيرلنديّة ودينهم الكاثوليكيّ.
بالإضافة إلى الطغيان الدّينيّ ومحاولة تجريد الكاثوليك الإيرلنديّين من دينهم، فقد كان هدف الاستعمار البريطاني وممارسته المنحازة إلى الأقلّيّة الإيرلنديّة البروتستانيّة إلى سلب الشعب الإيرلنديّ من حقوقه وأهمّها الحقّ في الأرض، حظر اللّغة الإيرلنديّة، في محاولة لإنشاء إيرلندا بروتستانيّة خاصّة بهم. لقد اعتقد الإنجليز بأَنّهم بطغيانهم هذا سوف يقضون على عزّة نفس الايرلنديَين وطمس الشعور الوطنيّ والدّينيّ لدى الكاثوليك. لكن ما لم يدركه الإنجليز بأَنّهم بهذا قاموا بتعزيز الهويّة الإيرلنديّة وروح المقاومة وهذا ما شهدته البلاد لمدّة عُصور، في عمليّات مقاومة شعبيّة وتنظيمات كفاحيّة كاثوليكيّة لتمرّد 1798 وبعدها انتفاضة الفصح في نيسان 1916 وما كان من الاستعمار البريطانيّ إلّا إعدام ستّة عشر من قادة الانتفاضة في أيّار 1916 . هذه الانتفاضة كانت نقطة الانطلاق نحو اعتراف الاستعمار البريطانيّ بالشعب الإيرلنديّ ومطالبه بالاستقلال، بالإضافة إلى تعزيز مكانة الجيش الجمهوري الإيرلنديّ وحزبه شين فين بين الإيرلنديّين، ففي كانون ثانٍ 1919 شكل الحزب حكومة إيرلنديّة وأعلن استقلال الجزيرة. مسيرة الاتفاقيّات بين الإيرلنديّين وبريطانيا، وبين الكاثوليك والبروتستانت، وبعدها الجمهوريّة وشمال إيرلندا طويلة وغزيرة بالمعلومات، لكنّي لن أدخل هنا لهذه التفاصيل.
في النهاية، ووفقََا لموقع الأُمم المتّحدّة، فعادة ما يتمّ قصدََا استبعاد الشّعوب الأَصلانيّة في عمليّات صنع القرار في الأمور المختَصّة بها، بالإضافة إِلى تهجيرهم واقتلاعِهم من أَراضي أبائهم وأجدادهم بهدف الاستيلاء على الموارد الطبيعيّة الّتي عليها. كما وأنّ من بين التحديّات الّتي تواجه الشعوب الأصلانيّة، إنكار حقوقهم في التحكّم في جوانب التنمية وفقََا لقيَمهم واحتياجاتهم وأولوياتهم، الافتقار التمثيل السياسيّ أَو ضعفه، والافتقار إلى الخدمات الاجتماعيّة.
الغرض من سرديّ جزء من تاريخ معاناة الشعب الإيرلنديّ مع الاستعمار البريطانيّ هو التشابه الّذي خاضه شعبنا الفِلسطينيّ مع الانتداب البريطانيّ وبعده الاحتلالِ الإسرائيليّ. لم تتحرَّر جزيرة إيرلندا بعد ولم تتحرّر فلسطين، لكن الشعبيّين حافظوا على لغتهما الأصليّة، رغم الصعوبات الّتي تواجه اللغة الإيرلنديّة هنا. استيلاء الإنجليز على الأراضي الإيرلنديّة وتجويع الشعب يشبه اقتلاع أراضينا من قبل المحتلّ، تجريم الزواج المختلَط بين الكاثوليك والبروتستانت يذكّرنا بقانون الجنسيّة وزواج الفلسطينيّ\ة من أراضي ال 48 مع الفلسطين، وغيره من أمثال. لذلك نرى التقارب والتضامن الذي يكنه الشعب الإيرلندي لقضيّتنا الفلسطينيّة، فالشعب الإيرلنديّ عانى وما زال من هول الاستعمار البريطانيّ.
نورا منصور
مربية وناشطة من عكا، تعمل في الشبكة الأستراليّة لمناصرة القضيّة الفلسطينيّة، حيث تعيش حاليًّا مع زوجها وولدَيها في "نارم" (ملبورن)، أستراليا