ازدياد الطابع الاستهلاكي ودور التربية في ظل التطور التكنولوجي

يَتَمَيَّز عالَمنا الْحالِيّ بِتَحولاتٍ جَذرِيَّة شَمَلِتْ جَميعَ الْمجالاتِ، تَنْفَتِحُ فيها الأَسواقُ وَتُلغى الْحُدود، وَيَتَعاظَمُ دورُ التِّكنولوجيا الْحَديثَة في إِحداثِ هَذِهِ التَّغيُّرات؛ إِذْ تَسعى الْعَديدُ مِنَ الْمُنَظماتِ في مَناطِق مُخْتَلِفَة بِتَطويرِ أَعمالِها وَنَشاطَاتِها استِجابَةً لِلسُّرعَةِ الْكَبيرة لِلتَّغيراتِ التِّكنولوجيّة، فَقَد لَعِبَت هَذِهِ التَّغيرات زِيادَةً في الإِنتاجِ وَتَنَوُّعِه، وَارتِفاعِ مُستَوى الثَّقافَةِ وَالْوَعيّ لَدى الْمُستَهلِك وَتَنَوُّعِ حاجاتِهِ وَرَغباتِه، مِمّا ساهَمَ في زِيادَةِ الْمُنافَسَةِ بَيْنَ الْقائِمين على التَّسويقِ لِتَلبِيَةِ رَغباتِ وَحاجاتِ الْمُسْتَهْلِك، فَمُنْذُ الثَّورَةِ الصِّناعيِّة وَمَا نَجَمَ عَنها مِن تَطَوُّر تِكنولوجيّ الَّذي يُشَكِّلُ أَهَمّ عُنصِرٍ لإِحداثِ التَّنميةِ الإِقتصاديَّة الشَّامِلَة، فَظَهَرت فَجْوَةٌ واضِحَة وَتَراجعُ كَبير بَينَ الْعَديد مِنَ الْبُلدانِ الْمُختَلِفَة مُقارنَة مَعَ الْبُلدانِ الَّتي عاصَرَت وَسارَت مَسارَ التَّقدُّمِ وَالتَّصنيع.

وَقَدْ أَدّى التَّطوُّرُ الْعِلميّ وَالتّغيير الثَّقافيّ، إِلى تَطَوُّرِ حاجاتِ النَّاس وَتَغَیُّر مَلامِحِ السُّوقِ وَالتَّسوُّق في الْعالَمِ بِرُمَّتِه وَفي مُجْتَمَعِنا خاصَّة؛ بِسَبَب تَأثيرِ التَّغيير الإِجتماعيّ وَالثَّقافيِّ الْمُتسارِع وَغَيْرِ الْمُنَظَّم الَّذي أَلقى ظِلالَه على الْحاجاتِ، فَجميعُ الإِنجازاتِ الْحَديثَة مِنَ التَّقَدُّمِ الْعِلمِيّ وَالتِّكنولوجِيّ في الآوِنَةِ الأَخيرَة ساهَمَت وَبِشَكْلٍ مَلحوظ بِغَزارَةِ وَتَنَوُّعِ الأَسواق، مِما ساهَمَ بِزيادةٍ كَبيرَة بِمُستَوى ثَقافَةِ الْمُستَهلِك وَتَنَوُّعِ حاجاتِه، فازدادَت الْمُنافَسَةُ بَيْنَ الْمُسَوقين؛ لِسَدِّ حاجاتِ النَّاس وَالإِرتقاءِ بِمُستوى عالٍ لِلمُستَهْلِك، بِاستِخدامِ الأَنشِطَةِ التَّرويجيَّة عَبْرَ وَسائِلِ الإِتِصال الْمُتاحَة (صمادي، 2005).

وَمَع هذا الإِنفتاحِ التِّجاريّ وَتَطَوُّر وّسائِلِ الإِتصالِ وَالتَّواصُل، أَصبَحَت ظاهِرَة الإِستِهلاك ظاهِرَة كَونِيَّة تَحوِّلُ الإِستِهلاكِ مِن كَونِهِ وَسيلَةً لِسَدِّ حاجاتِ النَّاسِ إِلى حاجَةٍ بِحَدِّ ذاتِها، لِيُصبِحَ مَركَزَ رَأس الْمالِ الْعالَميّ هَدَفَه التَأثيرُ عَلى الْمُستَهْلِك وَتَشجيعُه على الإِستِهلاك، بِسَبَبِ تَنامي الطَّاقاتِ الإِنتاجِيَّة بِما يَفوقُ الطَّلَب، فَتراكُم رَأس الْمالِ يَحتاجُ لِسوقٍ أَكبَر يَسْتَوعِبُ الْكَمَّ الْكَبيرَ مِنَ الْمُنْتَجاتِ (أبو هنطش، 2013).

وَمِمّا لا شَكَّ فيه، أَنَّ الإِستِهلاكَ يُشَكِّل إِحدى الأَهدافِ الأَساسِيّة لِلأَنشِطَةِ الإِقتصادِيَّة، حَيْثُ يَرتَبِطُ الإِستِهلاكُ بِالإِنتاجْ، كَما يَلْعَبُ دَوراً أَساسيّاً في التَّركيبِ الإِقتصاديّ وَتَحريكِ عَجَلَةِ الإِقتِصاد، حَيْثُ يَتَأَثَّرُ الإِستِهلاكُ بِالْعوامِلِ الإِقتِصادِيَّة؛ وَيُعتَبَرُ مُستَوى الدَّخلِ أَحَدَ أَهَمِّ هَذِهِ الْعَوامِل، فَالْعلاقَة بَيْنَ الدَّخلِ وَالإِستِهلاكِ علاقَةٌ تَرابُطيَّة طَردِيَّة قَوِيّة، بَينَما يُشَكِّلُ الْمَستَوى الْعامّ لِلأَسعارِ عامِلاً آخَر يُؤثِّر على الإِستِهلاكِ؛ فارتِفاع الأَسعار يَدْفَعُ السُّلطات وَالْحُكومَة لِرَفعِ مُستَوى الدَّخلِ لِلحِفاظِ على استِقرارِ الإِستِهلاك.

كَما تَتَأثَّرُ نَوعِيَّةُ وَأَنماط الإِستِهلاكِ بِالْمَكانَةِ الإِجتِماعِيَّة لِلأَفراد (الْقُدرات الشِّرائيّة)؛ فالسُّلوكُ الإِستِهلاكيّ لِلفَرد تَتَحَكَمُ بِهِ عوامِل اجتِماعِيَّة تَتَمَثَّل بِالْعاداتِ وَالْقِيَم وَالْمَكانَةِ الإِجتماعيّة، كَما يَلعَبُ الإِعلامُ دَوراً مَركَزِيّاً في التَّسويقِ، حَيْثُ يَجِدُ الْمُستَهلِكونَ أَمامَهُم مَزيداً مِنَ الْخياراتِ لِلسـلَعِ وَالْخَدمـات، مِمّا يُثْقِلُ عَلى كاهِلَهُم بِالْمَصروفاتِ أَكثر مِنْ ذِي قَبْل، فَقَد أَدَّت التّكنولوجيـا إِلى تَسـارُعِ حَرَكَـةِ الْبَضـائِعِ وَتَنَـوُّعِ الْخَدمـاتِ الْمُتاحَـة لِلمُسـتَهلِكين في جَميـعِ أَنحـاءِ الْعـالَم.

وَلا يَخْفى بِأَنَّ التّكنولوجيا ساهَمَت بِتَرويجِ الْبَضائِعِ وَالْمَعلومات لِلنّاسِ في جَميعِ أَنحاءِ الْعالَم، وَزادَت مِنْ خَدَماتِها الْمُقَدَّمَة لِلمُستَهلِكين، حَيْثُ ظَهَرَت ""التِّجارَةُ الإِلِكترونَيَّة"" عَبْرَ شَبَكاتِ الإِنترنِت وَالتَّواصُلِ الشَّبَكيّ، وَتَبادُلِ الْمَعلومات وَتَنسيق الْمُشتَريات وَالْمَبيعاتِ بَينَ الْمُنَظَّماتِ الْمَعنِيَّة بِالتَّنمِيَةِ الْمُستَدامَة (المَجلِس الإِقتصادِي وَالإِجتماعي، 2001; Natalina & Mark, 2016).

وَمِنْ أَهَمِّ الْمُبادراتِ الَّتي سَعَت لَها تُكنولوجيا الْمَعلوماتِ وَالإِتصالاتِ الْحَديثَة في مَجالِ الأَعمالِ لِلمُجتَمَع هُوَ الإِنتقالُ إِلى ما يُسَمّى ""بِالْمُنَظَّمَةِ الرَّقميّة""، وَتوظيفِ الإِختراعاتِ الإِلكترونيّة في خِدْمَةِ مُوَظَفي الْمُنَظَّمَة لِلتَّزامُنِ مَع التَّطوّراتِ الْجَديدَة وَتَحقيقِ الْجَودَةِ الشّامِلَة؛ لِتَقديمِ الْخَدماتِ بِكفاءَةٍ عالِيَة، فَجميعُ أَنظارِ الْعالَم الْيوم مُنصَبَّة وَمُتَرَكِّزَة نَحْوَ ""الإِقتصادِ الرَّقميّ""، فَأَصْبَحَت التِّكنولوجيا السِّلاحَ لِلتَّنافُس الْقَوِيّ بَينَ مُؤَسساتِ الأَعمالِ كَيّ تُؤَثِّر على الْبيئَةِ التَّنافُسِيَّة لِلخروجِ بِنتائِجَ ذاتِ جَودَةٍ عالِيَة (اللَّجنة اللإِقتصاديّة وَالإِجتماعيّة لِغَربيّ آسيا، 2019).

في عَصْرِنا الَّذي يَشهَدُ ازدِهاراً لِلتِّجارَةِ الإِلكترونيَّة، تُشيرُ الْمُعطياتُ أَنَّ الْقيمَـةَ الْكُليَّـة لِلمُعـامَلاتِ عَـن طَريـقِ التِّجـارَةِ الإِلكترونيَّــة وَصَلَت إِلى(١٤٧) بِليـون دولار عـــام (١٩٩٩) وَارتَفَعت عام (2003) إِلى (4.1) تريليون دولار، كَما وَصَلَت الْمَبيعاتُ عَبْرَ الإِنترنِت وَالتِّجارَة الإِلكترونِيَّة الْعالَميَّة عام(2020) وَصَلَت إلى (26.7) تريليون دولار ؛ لِذَا نَلمسُ لإِاستِثمارات الْهائِلَة مِنْ قِبَلِ الشَّرِكاتِ الْعالَمِيَّة وَالإِقليميَّة وَالْمَحليَّة بِما يَتَعَلَّقُ بِالدِّعايات التِّجاريَّة عَبْرَ الإِنترنت بِوسائِلِه الْمُختَلِفَة، لَتَأثيرِ الدِّعايَة عَلى الْمُستَهكلين خاصَّة فِئَة الشَّبابِ وَالنَّاشِئَة، مِمّا يَسْتَدعي لِلتَّرشيدِ وَالتَّربِيَة للإِستِهلاكِ الْحَكيم.

بِناءً على ذَلِك، وَمِنَ النَّاحِيَةِ التّربويّة فإنَّ الإستِهلاكُ يَرتَبِط بِالتَّربِيَة، لِيُشَكِلَ أَحَدَ أَنواعِ السُّلوكِ الإِنسانيّ الّذي يُطْلَقُ عَليهِ ""السُّلوكَ الإِستِهلاكيّ""، لِتَلْعَبَ التَّربِيَة دَوراً مُهِمَّاً في تَحَمُلِ الْمَسؤولِيَّة لِتَنمِيَةِ السُّلوكِ الإِنسانيّ وَتَطويرِه وَتَغييره، كما يَرْتَبِطُ الإِستِهلاكُ بِالتَّربِيَة بِعِدَّةِ جَوانِب: التَّربِيَة الْعَلمِيَّة، التَّربِيَة الأَخلاقِيَّة وَالتَّربِيَة الْبيئِيَّة (سليمان، 2000).

وَمِنَ الْجَديرِ بِالذِّكر أَنّ تَوَفُّر السِّلع وَطريقة عَرضِها بِشَكلٍ مغرٍ عَبْرَ وسائِلِ التَّواصُلِ الإِجتماعيّ، تُؤَدّي بِكَثيرين إِلى مُمَارَسَةِ الشِّراءِ الإِندفاعيّ، مِما يَحْدو بِكَثيرينَ لاستِهلاكِ سِلَعٍ دونَ الْحاجَةِ لَها أَو امتِلاكِ ثَمَنِها، وَرَغبَةً مِنْهم بِتَوفيرِ الْمالِ لِشراءِ هَذِهِ السِّلَع بَأَيّ طَريقَة، كَأَخْذِ قُروضٍ لا يَستَطيعونَ تَسديدَها مِنْ عِصاباتِ الإِجرام، وَقَدْ يَنتَهي بِهِم الْمَطاف لِلتِّجارَةِ بِالأَسْلِحَةِ وَالْمُخَدَراتِ وَغَيْرِها مِنَ الْمَمنوعاتِ، مِمّا يَزيدُ مِن مُستَوى الْعُنْفِ وَالْقَتلِ في الْمُجْتَمَع.

لِذا، فإنَّ التَّربية تَلْعَبُ دَوراً جَليّاً مِنْ خِلالِ تَعاوِنِ جَميعِ الْمُنَظَماتِ الرَّسميَّة وَغيرِ الرَّسميَّة في عَملِيَّةِ التَّربِيّة؛ لِتَحقيقِ الْهَدفِ الْمَطلوبِ وَتَعديلِ السُّلوكِ الإِستهلاكيّ لِلأَفراد (السّالم، 2002)، وَتُشَكِّل الْمَدرَسَة أَحَد أَهَمِّ وَسائِطِ التَّربيَة الرَّسميَّة الْقادِرَة عَلى تّغييرِ الْوَاقِعِ الإِستِهلاكيّ الْمُعاصَر، لِأَنَّ دَورَها يَقومُ بِتَقديمِ التَّدريبِ لِكُلِّ طالِب لِمُواجَهَةِ الْمُشكِلاتِ وَحَلِّها، والمُساهمة بِوَضْعِ آليّات عَمَلِيّة لِلحَدِّ مِنْ انحرافاتِ الإِستهلاك مِنْ خِلالِ عَناصِرِ الْعَمَلِيَّة التَّعليميّة (عجاج، 2007)، وَهذا يَستَدعي وَضْعَ مَناهِج تَرْبَويَّة حَديثَة لِتَشجعِ تَنْمَيَةِ الثَّقافَةِ الإِستِهلاكيَّة الصَّحيحَة وَاعتِمادها بِشَكْلٍ رَسْمّي في جِهازِ التَّربيَة وَالتَّعليم.

إحالات

• أبو هنطش، إبراهيم وصلاح، عبيدة (2013). الإسكان والقروض العقارية في فلسطين، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية والاجتماعية (ماس).

• السالم، البندري بنت سعد بن عبد العزيز (2002). تربية طفل المدرسة الابتدائية(رؤية مستقبلية). رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية التربية.

• عجاج، عبير بنت محمد عبد الله(2007). الاستهلاك من منظور تربوي اسلامي. رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية التربية.

• صمادي، سامي (2005). أثر أسلوب الإعلان الدعابي على سلوك المستهلك الأردني: دراسة ميدانية لاتجاهات عينة من طلبة جامعة اليرموك "" مؤته للبحوث والدراسات""، المجلد(20)، العدد(4).

• سليمان، أحمد علي(2000). سلوك المستهلك بين النظرية والتطبيق مع التركيز على السوق السعودية، الرياض: مركز البحوث بمعهد الادارة العامة.

• اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا(2019). نشرة التكنولوجيا من أجل التنمية في المنطقة العربية آفاق عالمية وتوجهات إقليمية. أسترجع من الموقع

https://www.unescwa.org/sites/default/files/pubs/pdf/technology-development-bulletin-arab-region-2019-arabic.pdf

• المجلس الاقتصادي والاجتماعي(2001). لجنة التنمية المستدامة بوصفها اللجنة التحضيرية لمؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة الدورة التنظيمية.

• Natalina Zlatevska, Mark T. Spence,(2016). Parsing out the effects of Personal Consumption norms and industry in fluencies on food consumption volume European Journal of Marking, Vol.50Issue: 314,pp.377-396.

بروفيسور خالد أبو عصبة

محاضر في الدراسات العليا في الجامعة العربية الأمريكية في جنين ومدير معهد مسار للأبحاث الاجتماعية والتربوية

شاركونا رأيكن.م