طب الأطفال - حالة مميزة ومؤشر لمدى تقدم أو تخلف الدول

في السنوات الأخيرة بدأ العالم بالنظر لمجال طب الأطفال كمجال متفرد له ميزاته الخاصة ويحتوي على مركبات تجعل منه حالة مميزة في الطب الحديث على صعيد جميع الدول – يؤثر على أفرادها ويرسم بكثير من المعايير مدى تقدم او تخلف الدول.

""انت لا تعالج مريضا بل تعالج عائلة كاملة""، لربما يبدأ أي تأهيل بطب الأطفال بهذه الجملة، فأمام طبيب الأطفال يوجد طفل, أهل وجدة قلقة او اثنتان, عليه أن يرى ويشخّص المريض ويتطرق الى العوامل الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية له ولأفراد العائلة ليستطيع ان يرسله مع العلاج السليم للمناخ السليم.

بالاضافة لجمال الأطفال وضحكاتهم عند كل لقاء, انت تتذكر أنك تعالج طفلا لم يتعدى عمره البضع سنوات له بمخيلته وبذهن اهله والحياة، سنوات عديدة لم يحن وقت النقاش بها حتى، فما بالك باضطرار ذكرك للموت احيانا. يضيف كل هذا جرعة اضافية من الحيطة والتوخي عند كل زيارة.

طب الاطفال يتدرج على 18 سنة – منذ الولادة فالطفولة فالمراهقة وحتى مراحل البلوغ الأولى، لكل مرحلة مميزاتها وصفاتها الخاصة التي تستطيع ان تحوي جميع انواع وعائلات الامراض المختلفة كالميكروبية والهرمونية والقلبية والوراثية وإصابات الحوادث وغيرها من الاختصاصات والمجالات.

ان اكبر شريحة للمرضى بمجال طب الاطفال هم أصحاب العدوى، أولئك اللذين أصيبوا بميكروب ما كفيروس او جرثومة او طفيلي، مثلا التهاب فيروس كورونا او التهاب الحلق الجرثومي وغيرها. يبدو أن هذه القاعدة صحيحة لكل شرائح الجيل ولكنها الأكثر شيوعًا عند الاطفال بسنوات حياتهم الأولى ويعود ذلك لأسباب عديدة منها ان جسم الطفل يحتاج لبضع أشهر حتى ""يستقل"" عن جسد أمه تماما وقت الحمل، فجهاز المناعة مثلًا يبدا باكتساب هذه الاستقلالية بعد نصف سنة تقريبا ويستمر لاكتسابها تماما حتى السنوات اللاحقة في النمو. بالإضافة عدم انهاء خطة التطعيمات القطرية حتى جيل بضع سنوات وتواجد الاطفال بأطر تعليمية وتربوية يجعلهم عرضة للفيروسات والجراثيم والطفيليات، أضف إلى ذلك فللأطفال بهذه الشرائح جسم هش واعضاء قيد النمو ومركبات نفسية وشخصية قيد البناء والمزيد من العوامل التي تجعلهم عرضة ""لعيش"" تجربة المرض بطريقة مختلفة.

تستمر هذه القاعدة لتكون المركزية في جميع الشرائح كما ذكر سابقا، ومع مضي السنوات واكتساب الطفل القدرة على المشي والركض ورمي الكرة يصبح من السهل ايضا تعرضه للإصابات، وبالتالي للجروح والكسور والكدمات التي تحتاج علاجًا فوريًا بكثير من الأحوال نظرًا لكون العظام والعضلات وغيرها من الانسجة بمراحل نمر تسارعية بجيل الطفولة والمراهقة.

الكثير من الأطباء يرددون مقولة ""الطفل هو بالغ صغير"". هذه الجملة خاطئة بشكل عام، فللطفل مميزاته عن البالغ ولكنها تحوي بعضًا من الصحة، فنظرًا لإمتداد طب الاطفال على 18 سنة فإن جميع الامراض التي تميز البالغين كامراض القلب والرئة والكلى والمفاصل وغيرها من الممكن أن تظهر أيضا بالسنوات الأولى. بالإضافة لأمراض خاصة من كل فئة ومجال ""يتميز"" بها الطفل عن البالغ حتى أن بكثير من المشافي قد تجد طبيب اطفال يعالج ابن 30 لأنه يعاني من مرض خاص بطب الأطفال فلهذا الطبيب – وليس غيره – التميز والتفرد بالخبرة والعلاج.

أحد المجالات المركزية التي تتبوأ حيزًا كبيرًا بطب الأطفال هو طب الجينات والوراثة، بحيث أن كثيرا من الحالات المرضية والتشوهات الخلقية من جميع المجالات قد تنتج من مسبب او عامل جيني كمؤدي للمرض أو كعامل مضرّ. اكتشاف هذا المسبب، بمساعدة تقنيات تكنولوجية آخذة بالتطور بدالة تصاعدية في السنوات الأخيرة، يساهم ببناء خطة عمل وعلاج شخصية ومناسبة أكثر للمريض وأيضا يساهم بمساعدة الأهل بتخطيط عائلي بكل حمل مستقبلي بغية محاولة ضمان طفل سليم او التهيؤ لولادة طفل مريض والتعاطي مسبقا مع حيثيات العلاج المبكر.

هذه الاعتبارات، وغيرها الكثير، صحيحة لطب الأطفال عامة وبكافة المجموعات المجتمعية ولكن هذا لا ينفي ان لكل مجموعة مجتمعية مركبات ومميزات عرقية واجتماعية تضيف للصورة العامة لذات المجموعة، فعلى سبيل المثال يعتبر المجتمع العربي في الداخل مجتمعًا خاصًا له مركباته الوطنية والسياسية والعرقية التي تجعله بالضرورة مجتمعًا خاصًا عن المجتمع اليهودي الاسرائيلي أيضا من ناحية طبية.

بالإمكان رؤية هذه الخصوصية بكثير من المواضع:

بدءأ من النظرة الدينية والاجتماعية السائدة بأن المرض قضاء وقدر ويجب التعامل معه بهذه الصورة فتجد مصطلحات كالموت الرحيم او الاجهاض بعيدة عن أغلبية المجتمع العربي.

ثانيا، يرى المريض العربي او العائلة العربية بالطبيبة والممرض جسمًا مسؤولًا يقرر ما هو الأفضل لهم، وغالبا ما يعطي المريض هذه الصلاحية لطبيبه باتخاذ القرار عنه، هذا التوجه أصبح قديمًا قليلًا بكثير من المجتمعات بالأخص الغربية منها التي ترى بالطبيب والجهاز الصحي مستشارًا للأمور الصحية والمريض او عائلته هم أصحاب القرار.

ثالثا، لا يمكن تجاهل ان المجتمع العربي في الداخل هو مجتمع خاضع لاحتلال ""غير حربي"" بل مبني على تفرقة عنصرية بكل المجالات ومنها المجال الصحي فكمية الخدمات الطبية التي يتلقاها المواطن العربي هي بالتأكيد أقل من الخدمات الطبية التي يتلقها غير العربي، بالإضافة لذلك فإن جميع المجالات مترابطة بعضها البعض فالقرى والمدن العربية المكتظة والمزدحمة الخالية من الحدائق والتي تعاني من خطأ مبنوي هيكلي في خرائطها لن تملك القدرة لتوفر الخدمات الصحية اللازمة، فتصبح بالتالي مناخًا أوسع للأمراض وانتشارها.

رابعًا، الكثير من الامراض الوراثية منتشرة بشكل كبير نسبيًا بالمجتمع العربي وذلك للخصوصية الديموغرافية والجغرافية للمجموعات العرقية والطائفية بهذا المجتمع، أضف الى ذلك ظاهرة زواج الأقارب والتي لا زالت ليومنا منتشرة بالمجتمع العربي وتشكل عامل خطر لظهور مرض وراثي عند الأجنة والأطفال.

للخلاصة، طب الأطفال يعتبر مجالا مميزًا جدًا بكل مفاهيمه الفيزيولوجية والنفسية ولطب الأطفال بالمجتمع العربي تحديات ومعالم خاصة تجعل منه دائرة ذات لون خاص وسط دائرة طب الاطفال وسط دائرة ساحرية كبىرى اسمها الطب العام والصحة.

د. خالد عثمان

مختص في مجالي طب الأطفال وطب الجينات والوراثة

شاركونا رأيكن.م