صراع البقاء ما بين التدمير والبناء
للصراعات والتناقضات دور وأهمّية مركزية بتكوين وتنشئة، وتطوير، وبقاء الأفراد والمجموعات.
لذلك نرى أن هذه الصراعات هي نتاج وإفراز حتمي لكل مرحلة من مراحل التكوين والبناء والتطوّر وهي تنتقل من محور إلى آخر في كلّ مرحلة ومرحلة.
هكذا هو الأمر عند الشخص الفرد وهكذا هو الوضع عند المجموعات الصغيرة والكبيرة والمجتمعات المختلفة عند هذه الأمّة وعند تلك.
وسيرورة التطور والبقاء والبناء والارتقاء تحكمها نتيجة حلول الصراعات المرحلية لصالحها.
أمّا التراجع والتدهور والتدني والتقهقر هي نتيجة حلول الصراعات المرحلية نحو التدمير وليس التصحيح والبناء.
الفرد الواحد مسؤول عن نفسه بحلول صراعاته الداخلية، تلك الواعي لها وتلك التي ليس واعٍ، بهذا أم بذاك الاتجاه، نحو البناء أم نحو التدمير.
والمجموعات الصغيرة والكبيرة والشعوب تكون المسؤولية الكبرى لحل هذه الصراعات لهذا أم لذاك الجانب بيد القيادة أو القيادات العديدة.
وهذا الأمر ينسحب علينا كأقلية قومية عربية فلسطينية داخل هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه ولأننا قرّرنا البقاء والارتقاء على تراب فلسطين بالرغم من كلّ المؤامرات العديدة وبالرغم من النكبة التي دفع وما زال يدفع شعبنا الفلسطيني أغلى الأثمان بالدم وبالأرض.
تعيش الأقلية العربية في البلاد الكثير من التناقضات والصراعات الداخلية هذا بجانب الصراع الأكبر مع الدولة التي لا تعتبرنا مواطنين متساوي الحقوق والحرية والكرامة مع الأغلبية اليهودية.
وبالرغم من كلّ القواسم المشتركة بيننا نحن أبناء الأقلية العربية بالبلاد أرى أنّنا أصبحنا في حالة شرذمة واغتراب وشتات وبعض طوائف وفئات ويعمل هذا على نقض ورفض ومحو شرعية ذاك، وأصبح ينهش الآخرُ في لحومنا ونحن نلتهم الفتات ويفقد الكثيرون عِزَّة النفس واحترام الذات.
وأصبحنا نرى توزيع صكوك الوطنيّة التي لا تحمي الوطن، بل تجعل من استباحته الطريق الأسرع نحو التدمير عن طريق التضخّم في سيولة وسهولة التخوين والإقصاء وإباحة الدم المهدور وإلغاء الذات بدلا من تدعيم وتحقيق الذات تماهيا مع محاولات المؤسسة الحاكمة الداعية إلى إحباطنا وإلغائنا التام كأقلية قومية ذات هوية وكرامة وطنية.
لن أتطرق هنا عن دور الدولة في محاولات إلغاء ذاتنا الجمعية، بل إلى ما تفعله قياداتنا (أو أغلبها) المختلفة والعديدة تلك السياسية وغيرها من قيادات ومراكز قوى وتأثير متنفّذة من الناحية الاجتماعية والأكاديمية ورأس المال.
لا يختلف اثنان بأن الأقلية العربية في البلاد تمرّ بحالة مأزومة بعمق شديد لم تعرفه من ذي قبل وفيما بعد النكبة.
وهذا الوضع أفرزته بوضوح أكثر دورات الانتخابات الخمس خلال السنوات الثلاث ونصف الأخيرة حيث انتقل عمق الصراع الحاد داخل المجتمع الإسرائيلي الى أعماق النسيج الوطني العربي المحلي مما آل إلى تعميق التشرذم والتفكك والتفتت والتدمير الذاتي من ناحية والعمل على تأجيل حلّ الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي والاستفادة لوجوده بحلّ الصراعات الداخلية عندنا كأقلية قومية لصالح البناء الذاتي والبقاء وهذا كان بإمكانه أن يسهم بالعمل على حلّ الصراع الاسرائيلي الفلسطيني لصالح الحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا وعودة اللاجئين وإقامة دولته المستقلة هذه الحقوق المهضومة لغاية الآن.
لا أبالغ إن قلت بأن غالبية "قياداتنا" المحلية لا ترى سيرورة الصراعات المرحلية هذه وتدير ظهرها لحلها المنشود وتعمل على التوتير الداخلي وتأزيم الصراعات بيننا بدلاً من التكافل والضمان المتبادل، تعمل على تأجيل حلّها مما أعاق حلّ الصراع الذي بيننا وبين المؤسسة الحاكمة الذي من المفروض أن يكون لصالح البناء والبقاء.
نعم، هذه القيادات جمعاء تتحمّل، بتفاوت ما، المسؤولية الكاملة وبالشراكة، ولكل طرف حصّته بهذه الشراكة التي عملت على تدمير البيت من الداخل بتبنّي المنطق المغلوط: إمّا أنا الأول والأكبر والأحقّ وإمّا علي وعلى شركائي، وإن شئت، على إخوتي أعدائي …
نعم، نحن أمام صراع البقاء: إمّا تدعيم وتحقيق الذات أو إلغاء الذات، إمّا التدمير أو البناء.
والمسؤولية هنا تقع قبل كل شيء آخر على كلّ القيادات على حدٍ سواء.
كاتب المقال: د. نبيل جرايسي وهو طبيب نفسي ومدير قسم الصحة النفسية بالمستشفى الإنجليزي في الناصرة.