ثقافة السّياقة وثقافة السّائق ما بين التّربيّة والقانون

لدراسة ثقافة السّياقة في المجتمع العربي لا بد من التّطرق إلى عوامل نفسية، واجتماعية وتربوية، وسياسيّة عدة تميز هذا المجتمع وتترك بصمتها ليس على سلوك أفراده في الشّارع، وإنما على سلوكه بشكلٍ عام.

بداية من المهم التّأكيد أنّ السّلوك يعبّر عن حالة تفاعل الشّخص مع ذاته الدّاخليّة ومع العالم الخارجي. هذا التّفاعل ممكن أنّ نراه بمجالات عدة وأشكال عديدة، ولكن من الممكن أيضًا أنّ نتوقعه. بكلمات أخرى، نحن نستطيع أنّ نتوقع من خلال مراقبتنا سياقة شخص ما كيف يبدو سلوكه في البيت، وكيف يكون في المناسبات الاجتماعية وفي النشاطات المختلفة؟ وأيضًا كيف يظهر وقت الأزمات؟

الشّخص الذي يقود مركبته بهدوء ويتعامل مع ازدحامات الشّارع وأزمة السّير بنظام، سيتعامل مع النّاس أيضًا بهذا الشّكل.

الشّخص الذي يقود مركبته بتهور ويتجاهل اللافتات وينعطف بشكل مخالف للقانون ليتفادى أزمة مروريّة، هو نفس الشّخص الذي سيأخذ دورك في البنك أو البريد، وهو نفس الشّخص الذي سيلقي القمامة في الشّارع، وهو نفس الشّخص الذي سيعتدي على الحيّز العام.

الشّخص الذي يقود سيارته بسرعة ليسبق سائقًا آخر قام بتجاوزه أو ليستعيد ""أحقيته"" على الشّارع بعد مفترق طرق، هو نفس الشّخص الذي سيلجأ للعنف للحصول على أي شيء آخر يرى بنفسه أهلًا أكثر من غيره به.

والشّخص الذي يرى بالشّارع ميدانًا لسباق السّيارات، من المتوقع أنه لم يجد مكانًا آخرًا يعبر فيه عن نفسه وامكانياته.

احدى النّظريات في علم النّفس لفهم سلوك الإنسان وهي النّظريّة الذّهنيّة– السّلوكيّة، تقول إنّ طريقة تفسير وفهم الحدث الذي يصادفه الشّخص، هي التي تحدّد نوع مشاعره ولاحقًا تحدّد طريقة تعامله وسلوكه. بكلمات أخرى، حين نفسّر (نفهم) على سبيل المثال: سلوك الآخرين وكأنه موجّه ضدنا خصيصًا للمس باحترامنا وكرامتنا (وهذا كثيرًا ما يحدث)، ونرى أنفسنا عنوانًا شخصيًا لهذا الاستفزاز المقصود، حينها قد نشعر بالغضب، ونقوم برد فعل يناسب هذا التّفسير وهذا الشعور، وعادة ما يكون رد فعلنا هو الهجوم والعنف بشكلٍ فوري تجاه هؤلاء الأشخاص ، أو لاحقًا تجاه الذّات أو تجاه أشخاص آخرين من الشّرائح الأضعف.

التّفسير السّلبي (غير المنطقي) لسلوك الآخرين والذي يتمخض عنه سلوكًا عنيفًا بشكل عام، هو فعل عابر للشهادة العلميّة، والدّرجة الأكاديميّة، وللموقع الاجتماعي، وهو عابر للجنس وللثقافات. هذا ال ""فيروس"" ممكن أن يصيب كلّ إنسان. ولكن كلما كانت درجة الوعي للذات أكثر والنضج النفسي، والثّقة بالنفس أكبر، وكلما طوّر الشّخص آليات لمواجهة الأزمات الحياتيّة اليوميّة خلال عمليّة التّربية في البيت وفي المدرسة، كلما كانت مناعة الفرد لهذا الفيروس أقوى.

وهنا وصلنا للتربيّة...

هناك اجماع بين العلماء من المجالات المختلفة في الطب، والاجتماع، وعلم النّفس، أن للتربيّة دور مهم جدًا في تطور وصقل الشّخصية، وفي بناء الدّماغ أيضا.

وحين أتحدث عن صقل الشّخصية فإنني أقصد مركباتها ومميزاتها النّفسية والسّلوكية وكذلك وسائل دفاعها ومواجهتها.

إذا اعتبرنا أنّ السّياقة هي ثقافة، فما هي مصادر هذه الثّقافة؟

وهنا سأتوقف على نظرية أخرى في علم النّفس، ألا وهي النّظرية السّلوكية.

تقول هذه النّظرية أنّ السّلوك الإنساني في الغالب هو متعلم أو مكتسب. وبهذا فمن الممكن إكساب الشّخص السّلوك الإيجابي، وتعديل السّلوك السّلبي لديه، أو إلغاؤه واستبداله بسلوك إيجابي.

وهذا يسير حسب قانونين أساسيين:

1. قانون التّقليد والاقتداء: أي أنّ الصّغير يقلد سلوك الكبير أو كلاهما يقلدان السّلوك الذي يشاهدانه ببث حي ومباشر، أو في وسائل الإعلام أو الأفلام والخ... وإذا تحدثنا عن السّياقة، فإنّ الطّفل أولًا يقلد الكبار القريبين منه ويقتدي بهم. أو يقوم بتقليد مشاهد يراها في الشّارع. الطّفل أيضًا يشاهد ردود فعل النّاس على هذه المشاهد، ويرى أيضًا التّشجيع والإعجاب الذي يبديه البعض بنوع السّيارة، وبسرعتها، وبقدرات السّائق الخارقة والخ... وهنا نأتي إلى النّقطة الثّانيّة، وهي التّعزيز.

2. قانون التّعزيز: أي أنّ كلّ سلوك يحقق الهدف ويؤدي المهمة يتعزّز ويذوّت ويصبح جزءًا نشطًا وفعالًا، من منظومة دفاعات الفرد النّفسية في حالات الضّغط أو الاحباط. إذا حصل الشّاب على حاجته النّفسية بالتقدير وبنيل الإعجاب ممن حوله بعد قيامه بعمل معين خلال سياقته، فإن هذا السّلوك سيتعزّز. وهذا الشّاب سيكرّر هذا السّلوك كلما احتاجت نفسه ذلك.

إذا أخذنا هذه العوامل النفسية– التّربوية المباشرة أعلاه، وأضفنا إليها عوامل مهمة أخرى تخص المجتمع العربي في البلاد، فإننا سنحصل على صورة أكثر خطورة.

1. غياب رادع وعقاب وعدم تطبيق القانون بشكل كاف في البلدات العربية : من المعروف أن الإنسان يحتاج ومنذ طفولته، إلى حدود لتطوره النّفسي، والاجتماعي، والسّلوكي السّليم. الإنسان بحاجة لأن يلتزم بهذه الحدود لتسير الحياة أيضًا بشكل منظم وصحي. هذه الحدود صيغت بعد ظهور مؤسسة ""الدّولة"" بشكل نظم وقوانين تم الاتفاق عليها وتم الاتفاق أيضًا على طرق للردع والعقاب في حالة الاخلال بها. القانون والعقاب يكملان بعضهما البعض ولا تأثير لأحدهما دون وجود الآخر. لكن للأسف ما نراه في المجتمع العربي هو غير ذلك.

2. حسب الاحصائيات المختلفة هناك بين 30-40% من الشّباب العرب بأجيال من 18 إلى 25 عامًا لا تتعلم ولا تعمل (النسبة لدى العرب في المدن المختلطة تصل إلى 50%). هذه الشّريحة هي الأكثر تعرضًا لحوادث الطّرق ولظواهر العنف على أشكالها.

الأمر الذي يزيد خطورة هنا هو عدم وجود أطر لا منهجيّة كافية من نوادي، وملاعب وفعاليات تحتضن هذه الشّريحة من الشّباب بالذّات في هذه الفترة الحرجة من حياتهم، حين يحتاجون للتعرف على أنفسهم أكثر وتعزيز هويتهم الذّاتية وتحديد وجهتهم نحو المستقبل.

3. وجود عوامل تخص البيئة الاجتماعيّة، والضّغط الجماعي، والمسايرة المجتمعيّة، وعوامل بيئية تخص البنى التّحتية، ومظاهر انتهاك الملك العام في البلدات العربيّة ممكن أن تعزز الشعور بالاغتراب عند الشّباب، وبفقدان الشّعور بالانتماء وأن تشرعن عندهم السّلوكيات السّلبيّة ليس فقط في السّياقة وإنما بشكلٍ عام.

للخلاصة أقول أنَّ ثقافة السّياقة يتعلق شكلها بعوامل ذاتية وعوامل أخرى خارجية تخص المؤسسات القضائيّة، والتّنفيذيّة في الدّولة.

تنميّة الثّقة بالنّفس ورفع الوعي الذّاتي، وإدراك الشّخص لقدراته وتقبل ذاته هي أمور بديهيّة يجب أن يتربى عليها كل شخص في بيته أولًا؛ وفي مدرسته ثانيًا ومجتمعه. خلق هذه البيئة الدّاعمة هو أمر ممكن. والتّغيير كذلك. ولكننا يجب أنْ ندرك أنّ هذا التّغيير يتعلق كثيرًا بثقة الفرد بمؤسسات الدّولة وبقناعة الفرد أنها تعطيه الحماية، والأمان الشّخصي والجمعي. وهذا الدّور ملقى على هذه المؤسسات بشكلِ حصري.

د. علي بدارنة

اختصاصي نفسي ومعالج بالهيبنوزا (التنويم المغناطيسي) ومدير عام "الرازي للتشخيص والعلاج والتأهيل"

شاركونا رأيكن.م