تجربتي مع الترجمة.. إتاحة الأدب الدنماركي للقارئ العربي
أدركت حين وصلت الدنمارك قبل ثلاثة عقود، أن تراث هذا المجتمع شكّل جزءً من ثقافتنا، كأطفال، عبر قصص هانس كريستيان أندرسن وما جادت به علينا ""المكتبة الخضراء"" من حكايا، مثل قصة ""ملابس الإمبراطور الجديدة"" و""حبة الفاصوليا"" وغيرها الكثير.
لكني سرعان ما رأيت أن متاحف ومكتبات العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، تزخر بالآثار والفنون والمخطوطات العربية والمشرقية، وأن الدنماركيين يعلمون عنا الكثير ومنذ قرون، وتزداد معرفتهم بنا مع الوقت، خاصة مع موجات اللجوء المتتابعة إلى هذا البلد الشمالي. بالمقابل، فإن الترجمات عن اللغات الاسكندنافية إلى العربية لا تزال خجولة، كما يبدو.
مع بداية الربيع العربي، شعرت بالحاجة إلى ترجمة رواية ""زيارة طبيب صاحب الجلالة"" (لم تصدر ترجمته إلا سنة 2015، عن دار المُنى)، التي تتحدث عن الملك كريستيان السابع، ذلك الملك المجنون الذي أحبت زوجته طبيبهُ، لكنه كان، بفضل طبيبه التنويريّ، الملك الذي عمل انقلابًا على دستور البلاد الذي يمنح الملك سلطة مطلقة. المفارقة أن الكاتب طرح من خلال هذا ""الربيع"" الدنماركي سؤالًا مركزيًّا حول التغيير وفُرص نجاحه وفق الظروف الموضوعية مجتمعيًّا، والتي قد تنقلب على أصحاب التغيير فيتحولون إلى ضحايا ويُنظر إليهم على أنهم ""أعداء"" للوطن والشعب حين تُفسّر نواياهم على عكس ما رمت إليه.
لاقى الكتاب إقبالاً كبيرًا من القراء والنقاد على حدّ سواء. ورغم أن تجربتي الأولى هذه في الترجمة لم تأتِ من منطلق دراستي للموضوع بل من منطلق الرغبة في الإسهام في نقل الفكر والأدب الدنماركييّن إلى القارئ العربي في محاولة لخلق بعض التوازن فيما يعرفه الغرب عنّا – وتحديدًا الدنماركيون في هذه الحالة- إلا أنها أتاحت لي المجال للمزيد من البحث والغوص في الأدب الدنماركي، خاصة الذي يتعلق بنا بشكل أو بآخر. وهكذا، أتت ترجمة كتاب ""مجرد أنثى"" للصحفية والكاتبة الدنماركية الأشهر، ليز نورغورد. ما لفت انتباهي في هذا الكتاب هو أن هذه الكاتبة التي وُلدت في نفس السنة التي ولدت فيها الكاتبة الفلسطينية فدوى طوقان (1917)، وفي مدينة مركزية من مدن وطنها (روسكيله/نابلس)، ولأب من الطبقة البرجوازية، تفتتح كتابها بنفس الطريقة كما ابنة نابلس. تستهل كلاهما الكلام قائلة بأن الوالد كان ينتظر ولادة الصبي وليس البنت، وأن الأم أصيبت بالإحراج الشديد من ولادة الأنثى، حتى أن والدة فدوى عملت جهدها في محاولات الإجهاض مخافة ولادة البنت التي لم تتذكر الأم حتى في أي تاريخ وُلدت، بينما غطت أم ليزا وجهها باللحاف كي لا يرى الوالد الذي أشاح بوجهه عن البنت، وجه الأم النَّفاس.
أتت بعد ذلك ترجمة كتاب ""العربية السعيدة"" (2018) التي تتحدث عن أول رحلة علمية غربية إلى بلادنا - من مصر إلى تركيا مرورًا باليمن وعمان وبلاد الشام-. ومن بعدها ""خيرة أولاد الله"" (2021)، التي تتحدث عن عصابات الشباب الدنماركيين والعنصرية التي تدفعهم إلى التعرض للأحداث والشباب من أبناء الجاليات المشرقية. وتكشف الكثير عن المجتمع الدنماركي المعاصر والآفات التي تجتاحه، كما صراع الأجيال داخل العائلات المهاجرة. صدر في نفس السنة كتاب ""الوجع الدفين"" للدكتور حاتم كناعنة، وكانت الترجمة عن الإنجليزية هذه المرة، ولكاتب محلي وعن موضوع محليّ، فالكتاب يروي حكايات طبيب من الجليل. من الجدير بالذكر أن الجائحة التي حجزت حريتنا ومنعتنا من التواصل الاجتماعي المباشر والسفر، أتاحت لي الوقت لترجمة كتاب إضافيّ في هذه الفترة القصيرة نسبيًّا – فترجمة الكتاب الواحد تستغرق مني السنة والسنة والنصف عادة. وكان الكتاب بعنوان ""نساء الملك""، التي تتحدث عن أهم ملك في الدنمارك وأطولهم حُكمًا، إلى جانب أهمية هذه الفترة في تاريخ أوروبا، حيث دارت حرب الثلاثين عامًا. اللافت أن الكاتبة، ماريا هيليبيرج، المناصرة لقضايانا، قد كتبت هذا الكتاب من وجهة نظر النساء في حياة الملك وفي إدارة شؤون القصر، وبالتالي البلاد، بشكل أو بآخر.
كما أسلفت، فإن الترجمة لم تكُن ضمن دراستي الأكاديمية، والتي اقتصرت على دراسة تاريخ الفنون والأدب الإنجليزي إلى جانب الأدب العربي. لكني اكتشفت أن ما ندرسه في الوطن من لغات (العربية والعبرية والإنجليزية)، بالإضافة إلى دراستي الفرنسية والإيطالية لمدة سنتين لكّل، لا بل ودراسة تاريخ الفنون بشكل خاص، كانت بمثابة الحقيبة الملآى بالزاد التي أعانتني في رحلة الترجمة. كما لا بدّ من الاعتراف بأن أساليب البحث الأكاديمية التي نكتسبها من خلال مدراسنا، والجامعات المحلية على وجه الخصوص، تلعب دورا أساسيًّا في تمكيننا من البحث. هذا إلى جانب المطالعة والقيام بجولات في البلد المعنيّ - والحديث هنا عن الدنمارك، والعاصمة كوبنهاغن تحديدًا- والتي اضطررتُ، ربما من منطلق وجوديّ والحاجة إلى التفاعل مع المكان وإيجاد نفسي فيه، أن أتعرف عليه وعلى تاريخه ومعالمه وأطّلع على ما مرّ على هذا البلد عبر العصور. أقول هذا لكي أتطرق هنا إلى الترجمة كمهمة تتطلب الكثير من المعرفة والبحث والتدقيق. فحين نقرأ كتابًا ما، قد نمر على بعض التفاصيل ""مرور الكرام""، ولا حرج في ذلك. أما حين نتولى مهمّة الترجمة، فإن دقّة النقل تستوجب منا، إلى جانب التزام النص ومحاولة نقل روحانيته إلى اللغة التي نترجم إليها، معرفة ما يعرفه الكاتب وما يتصوره ويريد أن ينقله إلينا. بمعنى آخر، فإني، من منطلق تجربتي وطريقتي في الترجمة، أضطر إلى انتعال حذاء الكاتب والوقوف حيث وقف والنظر إلى المشهد من موقعه. يتطلب ذلك الغوص في مترادفات الكلمات وفك ألغاز بعضها وما فيها من تورية حين ترد، ودراسة تفاصيل المكان من حيث التاريخ والجغرافيا والشخصيات، إلى جانب كل ما يتعلق بالنصّ، سواء كان ذلك عن شكل البيوت وما تحتوي عليه، أو تفاصيل المأكل والمشرب والأزياء، أو الأمراض التي اجتاحت تلك الفترة أو النواحي الدينية أو حتى السفن وتفاصيل بنائها وأشرعتها ومحركاتها وأجهزتها، أو العواصف بأسمائها ومواسمها أو الطيور والكواكب والأنهار وما إلى ذلك. من هنا، فإن الترجمة بحر لا أجمل من الإبحار فيه، لكنه يحتاج إلى العدة اللازمة لمواجهة العواصف إن هبت، وضمان الوصول إلى برّ الأمان، والذي تأتي بالنسبة للمترجم، كما للكاتب، من خلال ردود فعل القرّاء والنقاد على حدّ سواء.
سوسن كردوش - قسيس
حاملة للقب الأول في الأدب الإنجليزي وتاريخ الفنون من الجامعة العبرية في القدس واللقب الثاني في الأدب العربي من جامعة حيفا. تقيم في الدنمارك منذ ثلاثة عقود، حيث أسست "البيت الفلسطيني" سنة 2006، وفي سنة 2011 بدأت العمل على ترجمة الأدب الدنماركي إلى العربية. ترجمت حتى الآن سبعة كتب تتناول الرواية والسيرة الذاتية، من ضمنها كتاب للاطفال وآخر سيصدر في نهاية هذا العام. كما ترجمت حتى الآن كتابًا واحدًا عن الإنجليزية بعنوان "الوجع الدفين" للدكتور حاتم كناعنة