تعليم وتعلّم العربيّة كلغة أم: من المحكيّة الى الفصيحة
تبنّت الأمم المتحدة عام 2015 ميثاق ""تحويل العالَم: أجندة 2030 للتنمية المُستدامة"". وقد تضمّن هذا الميثاق هدفًا لعام 2030 هو أن ""يتمكّن جميع الأطفال من تحقيق نموّ ذي نوعيّة جيّدة، رعاية، وتربية في الطفولة المبكرة، بحيث يكونون جاهزين للتعليم الابتدائيّ"" (الهدف 4.2). يتطلّب النموّ ذو الجودة في مرحلة الطفولة المبكرة والاستعداد للتعليم الابتدائيّ أساسًا جيّدًا في المهارات المطلوبة لاكتساب القراءة والكتابة، خصوصًا القدرات اللغوية والوعي الميتا-لغويّ باللغة التي يتحدث بها الأطفال. فيما يمكن أن يكون اكتساب تلك المهارات سهلًا في بعض السياقات، تبيّن أنه يشكّل تحدٍّ للأطفال الذين ينشأون في ظلّ ازدواجيّة لغويّة ويختبرون فجوة ملحوظة بين اللهجة الدارجة-المحكية التي يكتسبونها بشكل طبيعيّ ويستخدمونها في حديثهم اليوميّ وبين اللغة الفصيحة-المعياريّة المكتوبة (للمراجعة، انظر Saiegh-Haddad, 2022).
إذا لم يتمّ التعامل معها بشكل صحيح، يمكن أن تكون للازدواجيّة اللغويّة عواقب وخيمة على نموّ القدرات اللغوية والميتا-لغوية ومن ثم الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الطفل، وبالتالي رفاهة العامّ النفسي والعاطفي والاجتماعي. لذلك، يجب أن يُعتبَر التعامل مع الازدواجيّة اللغويّة في تعليم القراءة والكتابة من شواغل الصحّة العامّة. كما أنّ اعتبارالازدواجيّة اللغويّة في تخطيط محتويات وطرائق التربية اللغويّة العربيّة هي مسألة تكافؤ ثقافي واجتماعي، فإلى جانب كونها لغة القراءة والكتابة الوحيدة اليوم، فإنّ الفصيحة هي أيضًا الوسيلة الوحيدة التي يمكن للأطفال العرب من خلالها أن يقاربوا الإرث اللغوي والثقافيّ الثريّ المميّز لأسلافهم، بالإضافةً إلى المصادر العربيّة المطبوعة المعاصرة. من ثمّ، فإنّ حرمان الأطفال من القدرة على تطوير مهارات القراءة والكتابة باللغة الفصيحة يؤدي إلى عوَز في الهويّة اللغوية، الدينية، الثقافية، والوطنية.
من المعروف أنّ مستويات الإلمام بالقراءة والكتابة بين الأطفال الناطقين بالعربيّة منخفضة. فوفق تقرير حديث للبنك الدولي، نحو 60% من الأطفال في العاشرة من عُمرهم في الدول الناطقة بالعربية يجاهدون لقراءة نصّ أساسيّ وفهمه. ورغم عقود من الاستثمار في التربية، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تزال تعاني ممّا يدعوه التقرير ""فقرًا في التعلُّم"" (The Economist, Sept, 2021). يحاجّ الباحثون أنّ أساس هذه المشكلة قد يكمن في تدنّي جودة التدريس، التشديد المفرط على الدقّة النحوية والتعلُّم عبر التلقين، والمحتوى المملّ والقديم (Taha-Thomure et al., 2021. لكنّ بعض الباحثين تطرّقوا مؤخرًا إلى عامل محتمل آخر - الازدواجيّة اللغويّة، أي السياق اللغويّ الاجتماعيّ للّغة العربيّة ودورها في تعليم وتعلّم القراءة والكتابة (Saiegh-Haddad, 2018, 2022).
المسافة اللغوية بين المحكية والفصيحة ودورها في اكتساب اللغة والقراءة
أحد الأوجُه البارزة للازدواجيّة اللغويّة بالعربية - وجه لديه تأثيرات هامّة على اكتساب القراءة والكتابة - هو المسافة اللغوية الملحوظة بين اللهجات المحكيّة التي يتحدث بها الناطقين بالعربية وبين العربيّة الفصيحة. هذه المسافة اللغويّة واضحة في جميع مجالات اللغة، وخصوصًا في المباني الصوتيّة، الصرف، والمُعجَم. قد يكون التجلّي الأبرز للمسافة اللغويّة، الذي ينطبق على جميع اللهجات المحكيّة، هو ترميز الحالة الإعرابية بالفصيحة؛ تتضمن الفصحى علامات إعرابية لجميع الأسماء والأفعال، فيما تغيب علامات الإعراب عن اللهجة المحكيّة باستثناء بعض القوالب اللغوية الجامدة مثل ""شكرًا"" و ""أهلًا وسهلًا"". يشكّل ذلك جانبّا هاما من المسافة اللغويّة الذي يتخطى جميع اللهجات المحكيّة. وإلى جانب العلامات الإعرابيّة، تُظهر اللهجات المحكيّة المختلفة اختلافات متنوّعة في مبان لغوية عديدة أخرى. على سبيل المثال، خلافًا للفصيحة، لا تتضمن الأفعال في معظم اللهجات العربيّة الفلسطينيّة المدنيّة في إسرائيل صيَغ التثنية مثل ""كتبا"" والجمع المؤنّث مثل "" تكتبن"".
تتفاوت المسافة الصوتيّة بين الفصيحة والمحكيّة بين لهجة محكيّة وأخرى، وهي تنطوي على اختلاف في المخزون الفونيميّ-الصوتي وفي المبنى المقطعيّ والإيقاعيّ للكلمات (Watson, 2002). كما أنّ مفردات الفصيحة واللهجات المحكيّة تختلف اختلافًا كبيرا، نظرًا إلى إنّ مفردات اللهجات ديناميكيّة وأكثر انفتاحًا على الاستعارات من لغات أخرى. وفي مسعًى لإجراءِ تقييمٍ كميّ للمسافة المعجميّة ، قاست صايغ - حدّاد وسبولسكي (2014) المسافة اللغويّة بين الفصحى وبين اللهجة المحكيّة العربيّة الفلسطينية في وسط إسرائيل لدى أطفال روضة بعُمر 5 سنوات. وقد أظهرت الدراسة أنّ نحو 60% من الكلمات التي استخدمها أطفال الخامسة في لعبهم الحرّ كانت كلمات ""مُشترَكة"" أي تستعمل في اللهجة وقي الفصيحة أيضا. لكن الأهمّ من ذلك أنّ هذه الكلمات المشترَكة كانت من نوعَين: الكلمات المتطابقة، التي تحافظ على مبناها الصوتي في المحكيّة والفصحى (مثلًا: ""نام""، ""جنوب"" بغض النظر عن علامات الإعراب)، والكلمات المتشابهة التي تتقاطع جزئيّا في المبنى (مثلًا في الفصحى""وَقَع"" مقابل ""وِئِع"" في العاميّة؛ ""ذَهَب"" في الفصحى مقابل ""دَهَب"" في المحكيّة و""عائلة"" مقابل ""عيلة"" بالمحكية). كشفت الدراسة أيضًا أنّ الكلمات المتطابقة والمتشابهة كانت مختلفة في انتشارها في مفرَدات الأطفال، بحيث شكّلت الكلمات المتطابقة 21.2% فقط من العدد الكلي للكلمات والكلمات المتشابهة شكلت 40.6% . أمّا باقي الكلمات (%38.2) فتكوّنت من كلمات تنفرد بها المحكيّة (غير مُشترَكة)، أي لا تُستخدَم في الفصيحة إطلاقًا وليس لديها أملاء متعارف عليه (مثل ""قشاط"" و ""شَنتة"" باللهجة الفلسطينية). تشير هذه المسافة المعجميّة - الصوتيّة إلى فجوة شفويّة - قرائيّة كبيرة لدى الأطفال تصعب الانتقال من اللغة بشكلها الشفوي الى شكلها المكتوب حيث أن 80% من الكلمات في لهجة الطفل المحكية تغير من مبناها الصوتي اما جزئيا او بشكل كامل عندما تستعمل بالفصيحة. هذه الفجوة تتطلب شكلًا خاصًّا من التربية اللغويّة المبكرة وبيداغوجيّة لغة, قراءة وكتابة خاصّة تساعد الأطفال على بناء تمثيلات معجمية-صوتيّة جديدة في قاموسهم اللغوي وتطوير وعيهم الميتا-لغوي الذي يساعدهم على الربط بين أشكال ومعاني الكلمات في لهجتهم المحكية وفي اللغة الفصيحة.
تنطوي المسافة اللغويّة بين المحكيّة والفصيحة مع الاختلاف الوظيفيّ الحاد لصيغتَي اللغة على تحدٍّ هام في اكتساب أسس القراءة والكتابة (Saiegh-Haddad, 2012, 2018). واحدة من تلك الأسس الهامة هو قدرة الطفل على بناء تمثيلات معجمية-صوتية ذات جودة عالية أي واضحة وثابتة للكلمات في القاموس اللغوي للطفل فالتمثيلات ذات الجودة العالية تمكن الطفل من استلال معاني الكلمات والتعرف عليها بشكلها المكتوب بدقة وبسرعة. فحصت صايغ - حدّاد وحاج (2018) جودة التمثيلات المعجميّة لكلمات الفصحى المتطابقة، المتشابهة، والمختلفة في الروضة، الصفّ الأول، الصفّ الثاني، والصفّ السادس لدى أطفال فلسطينيين ناطقين بالعربية. كما اختبرت الدراسة جودة التمثيل المهجمي-الصوتي لأنواع مختلفة من الكلمات المتشابهة التي تتفاوت في درجة المسافة الصوتيّة بين اللهجة المحكيّة والفصيحة (1 - 3 معايير مسافة صوتيّة) والتي كانت كلها مألوفة للأطفال. طُوّرت مهمّة تحديد دقّة نُطق مُحوسَبة طلبت من الطلّاب أن يقرّروا إذا كانت كلمة مُقدَّمة شفهيّا ترافقها صورة، صحيحة أم لا. أظهرت هذه المهمّة أنه، في كل الفئات العُمريّة، تفاوتت جودة التمثيلات المعجميّة-الصوتية بحسب نوع الكلمة، الكلمات المتطابقة أظهرت التمثيلات الأكثر دقّة، تليها الكلمات المتشابهة، ثمّ الكلمات المختلفة. كما أظهرت الدراسة أن جودة التمثيل المعجمي- الصوتي لأنواع مختلفة من الكلمات المتشابهة والتي تتفاوت في درجة المسافة الصوتيّة من اللهجة المحكيّة (1 - 3 معايير مسافة صوتيّة) اختلفت مع درجة المسافة الصوتية فكلما كانت المسافة اللغوية أكبر كان التمثيل الصوتي أضعف.
كما تبيّن أنّ المسافة اللغويّة تؤثّر في المُعالَجة الصوتيّة في الذاكرة العاملة التي لها دور أساسي في الفهم (Saiegh-Haddad & Ghawi-Dakwar, 2017) ، دقّة وطلاقة قراءة الكلمات (Saiegh-Haddad & Schiff, 2016; Schiff & Saiegh-Haddad, 2017). كما تبيّن أنّ المسافة اللغويّة تؤثر في اكتساب الوعي الصوتيّ (Saiegh-Haddad, 2003, 2004, 2007; Saiegh-Haddad et al., 2011, 2020)، إضافةً إلى الوعي الصرفيّ والوعي الصرفيّ - النحوي (Khamis-Dakwar, Froud, & Gordon, 2012; Schiff & Saiegh-Haddad, 2018) وتعلم الحروف ((Boudelaa, et al., 2021. مع ذلك وبالرغم من تأثير المسافة اللغويّة، تبيّن أنّ مهارات الوعي الصوتيّ والوعي الصرفيّ في المحكيّة تنبّأت بدقّة وطلاقة قراءة الكلمات بالفصيحة (Schiff & Saiegh-Haddad, 2018). وهذا الأخير مهم جدا أخذه بعين الاعتبار في التربية اللغوية فهو يُظهِر الاستمراريّة بين المحكيّة والعربيّة الفصيحة، ويشير إلى المقاربة التي تعتمدها في هذه الورقة وهي الاعتراف بالازدواجيّة اللغويّة وبالتداعيات النفسيّة – اللغويّة للازدواجيّة اللغويّة بالنسبة لاكتساب اللغة والقراءة والكتابة، والبحث عن طرق يمكن فيها إحباط هذه الصعوبات المحتمَلة أو تخفيفها في أبكر وقتٍ ممكن عبر تدريس مبنيّ على البراهين. تمّ اختبار هذه المقاربة في دراسة تدخّل تجريبيّ حديثة. وقد أظهرت هذه الدراسة أنّ من الممكن تعزيز اكتساب اللغة، الوعي الميتالغوي، والقراءة والكتابة قبل المدرسة لدى الأطفال عبر برامج تدخّل مبنيّة على الازدواجيّة اللغويّة وتستفيد من اللهجة المحكيّة في تعزيز أسس القراءة والكتابة باللّغة الفصحى (Saiegh-Haddad, 2022b). بكلمات أخرى من الممكن تعزيز الفصحى من خلال وليس رغما عن اللهجة المحكيّة.
لكن هل فعلا تقوم العملية التربوية باستثمار لغة الطفل المحكية في تعليم وتعلم العربية الفصيحة؟
صحيح ان المحكية يمكن أن تتداخل وتؤثر سلبا على اكتساب الفصيحة في بعض الأحيان لكن هل يكون ذلك التأثير دائما سلبا؟ وهل يكون التعامل معه من خلال تجاهله؟ الإجابة على هذين السؤالين هي كلا!
فبالرغم من المسافة اللغوية بين الفصيحة والدارجة هناك مبان مشتركة كثيرة يجب الإشارة إليها في عملية التعليم من اجل تسهيل عملية التعلم. كذلك, فتجاهل الدارجة في عملية التعليم لا يلغي تأثيرها في عملية التعلم لأن المحكية جزء لا يتجزأ من المخزون اللغوي للطالب وتتفاعل في كل عملية معالجة لغوية يقوم بها وتجاهلها يمكن أن يعرقل عملية التعلم.
اكتساب وتعلم اللغة هو واحد من أكثر العمليات الذهنية تركيبا والقدرة على استعمال اللغة بشكل جيد للقراءة والكتابة هو واحد من أهم أعمدة التعلم بشكل عام في مجالات العلوم والتاريخ والرياضيات وغيرها ومن هنا أهمية إيجاد السبل في تنجيع وتسهيل عملية تعلم اللغة خاصة في المراحل الأولى حينما تكون قدرات الطفل الذهنية مثل الذاكرة العاملة وضبط الانتباه والوعي الميتا-لغوي محدودة, وكذلك التشديد في تعليم اللغة على ما يحتاجه الطالب من أجل تطوير القدرات الوظيفية التي يحتاجها لكي يستعمل اللغة وأهمها فهم المقروء والتعبير الكتابي. تحقيق تلك الأهداف لا يكون إلا بإعادة النظر في محتويات وطرائق تعليم اللغة العربية وبالاستفادة من علوم اللسانيات-النفسية واللسانيات-التربوية في فهم العوامل اللغوية والذهنية والنفسية والإدراكية التي تتداخل في التربية اللغوية وفي عملية تعليم وتعلم اللغة في المراحل العمرية المختلفة.
بروفيسور اليانور صايغ – حدّاد
محاضرة في قسم اللسانيات والأدب الانجليزي، جامعة بار ايلان وباحثة في اكتساب اللغة والقراءة في سياقي الثنائية والازدواجية اللغوية