"باطل الأباطيل باطل.. كل شيء باطل"
كان قد لفت انتباهي توظيف محمود درويش لعبارة ""باطل الأباطيل باطل.. كل شيء باطل""، والتي أخذها من سفر الجامعة، وأعاد صياغتها شعريا ونثريا في أكثر من مناسبة، ليزج بها معاني جديدة كنوع من لعبة خطرة مع العدم.
قد يكون المكان الأول الذي وردت فيه العبارة هو نصه ""ذاكرة للنسيان: سيرة يوم الزمان - بيروت المكان - آب"". وهو النص الذي يرسم فيه ويستعيد حصار بيروت، والموت العبثي والمجاني أمام صمت العالم بأسره من المحيط إلى الخليج. رغم أن النص مشبع برائحة الموت، إلا أن اللحظة التي تحضر فيها العبارة، هي سياق حديثه عن ذلك الشاب الباكستاني الفقير، الذي ترك بلده ""لاهور""، باحثا عن لقمة عيشه في بيروت ليصطاده الموت في عاصمة لا شأن له فيها. يكتب درويش:
""استدرجه الرغيف من ""لاهور""،
جعله يلهث آلاف الكيلومترات
كي يلامس المعجزة الإنسانية،
رغيف الخبز، رغيف الخبز الذي قد يقتله
في حرب لا شأن له فيها، فلا يعود
حيا أو ميتا إلى أي مكان، لا يعود إلى أي قبر.
باطل الأباطيل باطل، الكل باطل.
وأفكر في الطرائق المعدة لنهاية جسد كافح
حتى النضج ليحترق أو ليختنق.
باطل الأباطيل باطل. والكل باطل.""
ذاكرة النسيان، دار الاسوار عكا ص 104.
أمام هذا الموت العبثي يصبح كل شيء باطلا. شاب يبحث عن الحياة في شكل، رغيف خبز، ليتحول الرغيف إلى قذيفة منفجرا في وجهه، وبدل أن يجسد الرغيف الحياة أصبح تجسيدا للموت.
إلا أن التوظيف المكثف والمعاد لمقولة ""باطل الأباطيل باطل، كل شيء زائل"" تجد تجليها الأوضح والمركب في ""الجدارية""، بعد أن ذهب إلى زيارة الموت وعاد منه إلينا، ليكتب عن تلك المنازلة، وعن هذا اللقاء بينهما وجها لوجه.
في هذا النص، كما في نصوص أخرى، يأخذ درويش مسافة من نموذج النبي والنبوة، ومن كل الذين يعتقدون أن لديهم القدرة الفائقة على تسيير العالم، وتحقيق المعجزات، والتحكم في المستقبل؛ ولذلك نراه يكتب في الجدارية: ""لا غيمة في يدي، ولا أحد عشر كوكبا على معبدي""، في إشارة واضحة بأنه هو ليس النبي إيليا الذي يستطيع استحضار المطر على شكل غيمة بحجم اليد (سفر الملوك الأول، (18:44، وهو ليس بيوسف الذي يسجد له أحد عشر كوكبا (سفر التكوين، (37:5. ويمضي ليؤكد ذلك تكرارا عندما يقول ""مثلما سار المسيح على البحيرة، سرت في رؤياي، لكني نزلت عن الصليب لأني أخشى العلو، ولا أبشر بالقيامة.""
درويش لا يبشر بالقيامة ولا بثقته بالمستقبل ولا يعد بالخلاص، لأنه أدرك بتجربته ومسيرته أن التاريخ لا يسير بنا إلى أي مكان، ولا غاية له، وأن العالم والأحداث تكاد تفتقر إلى أي معنى أو مغزى.
مقابل عزيمة الأنبياء الذين ينظرون إلى المستقبل بثقة ويصنعون التاريخ تاركين أثرهم في العالم، يختار درويش أن يتماثل مع حكمة الجامعة، أي حكمة الملك سليمان في آخر عهده عندما تقدم به السن لينظر إلى الوراء ليكتشف أن كل شيء زائل وباطل. لذلك يسال درويش الشاعر:
""من أنا؟
أنشيد الأناشيد
ام حكمة الجامعة؟
وكلانا أنا...
وأنا شاعر
وملك""
كما نعلم فإن من كتب ""نشيد الأناشيد"" هو الملك داود، وأما حكمة الجامعة، وهو سفر من أسفار التوراة – العهد القديم، فهي تنسب إلى الملك سليمان المعروف بحكمته، وهكذا يرى درويش أنه مزيج من الاثنين: من فتوة داود وحكمة سليمان. لكنه لا يتماهى بأي شكل من الأشكال مع نموذج الأنبياء الذين يغيرون مجرى الحياة والقادرين على صياغة المستقبل والذين يعتبرون أن التاريخ والزمن يسيران باتجاه مستقيم نحو التقدم والخلاص. لذلك يعود درويش ويكرر عدة مرات في جداريته مقولة سفر الجامعة ""كل شيء باطل"" فيكتب:
""ضاق بي جسدي
ضاق بس أبدى
وغدي
جالس مثل تاج الغبار
على مقعدي
باطل، باطل الأباطيل.. باطل
كل شيء على البسيطة زائل""
ويكرر درويش عبارته تلك مستحضرا النص الأصلي لسفر الجامعة، والذي يدور على فكرة الزمن الدائري. والزمن الدائري يعني أن ما كان سوف يكون، وأننا لا نستطيع القول إننا نسير للأمام، ولا أن المستقبل يعدنا بأي نوع من الخلاص. وهذه الدائرية تشبه نوعا من الكابوس لأنها تنفي أي منطق غائي (أي ذي غاية) للوقت أو التاريخ فتبدو الأمور عديمة المغزى، ويبدو العالم كصحراء هجرها المعنى، ويكتب:
""لا شيء يبقى على حاله...
كل نهر سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن،
لا شيء يبقى على حاله
كل حي يسير إلى الموت
والموت ليس بملآن""
ويعبر عن هذه الدائرية للزمن الذي ضل طريقه، والتاريخ الذي أضاع غاياته في قصيدته المهداة إلى إدوارد سعيد ""طباق"" حين يكتب:
""لا غد
في الأمس، فلنتقدم إذن
قد يكون التقدم جسر الرجوع
إلى البربرية...""
وعندما يصبح التقدم مثل الرجوع، والأمام مثل الوراء، نكون قد دخلنا مرحلة العبث، حيث يكون كل شيء باطل وزائل. ماذا عسانا نفعل إزاء غد هو أشبه بالوهم وإزاء عالم عبثي؟
يقترب درويش من العبث، يحلق فوقه تماما، لكنه لا يسقط فيه، وإن كان يبدو كذلك لأول وهله، فيكتب:
""تحرك قبل أن يتكاثر الحكماء حولي
كالثعالب: {كل شيء باطل، فاغتنم
حياتك مثلما هي برهة حبلى بسائلها،
دم العشب المقطر. عش ليومك لا
لحلمك. كل شيء زائل. فاحذر
غدا وعش الحياة الآن في امرأة
تحبك. عش لجسمك لا لوهمك}""
بحذر عصفور دوري يدور حول إغواء حبة القمح في المصيدة، ورجل السيرك الذي يسير على حبل رفيع يمتد فوق وادي جهنم يدور درويش حول النص، يكاد يقول لنا ""عش ليومك لا لحلمك. كل شيء زائل"" لكنه لا يقول ذلك تماما ويضع الجملة على لسان ""الحكماء"" الذين يتحركون حوله كالثعالب، كما يصفهم وقد يكون هو أحد هؤلاء الثعالب بنفسه. درويش يعي تماما هذا الإغراء المنطقي النابع من الإدراك العميق بأن كل شيء باطل وزائل، لكنه يخشى أن يضع النصيحة ""عش يومك"" على لسانه، إنما يضعها على لسان الثعالب، الذين يتربصون بأصحاب الأحلام، ليقصفوهم بحكمة العدم.
إلا أن درويش الشاعر، لا يستطيع أن يختصر حكمته بتلك الجملة البسيطة الواحدة والوحيدة والمختزلة: ""عش ليومك""، وتحرر من أحلامك. ماذا يبقى من الشاعر إذا تنازل عن أحلامه تماما؟ درويش يحملق في العدم ويرى الإغراء الكبير والمنطقي في السقوط نحو الهاوية إلى مكان تستوي فيه الأشياء وتفقد الأمور معانيها ويصبح الخير شرا والشر خيرا، لكنه يقاوم بما تبقى من داء الأمل كي يعبر فوق الهاوية دون السقوط فيها.
لذلك من المثير للانتباه، أن المناسبة الأخيرة التي وظف درويش فيها عبارة ""باطل الأباطيل باطل"" أو كاد أن يوظفها، كانت في نصه الرثائي لصديقه إبراهيم أبو اللغد الذي ولد في يافا وشرد عنها وعاش في الغربة وعاد ليموت فيها. كان أبو اللغد في أيامه الأخيرة وهو على سرير الموت ينتظر بتلهف طفل قدوم صديق عمره وتوأم روحه إدوارد سعيد كي يراه قبل أن يفارق هذا العالم، إلا أن الموت اختطف أبو اللغد قبل وصول سعيدا، وكان درويش شاهدا على حادثة الاختطاف هذه التي حالت دون هذا اللقاء.
عندها كتب درويش: ""وحدها، صورة يافا على الجدار منعتنا من القول: ""باطل، باطل الأباطيل..."".
صوره يافا وحدها… ولكل يافاه وصورته ولحظته الخاصة بالحزن والفرح التي تحول في لحظه معينه بينه وبين القول باطل الاباطيل باطل.