الوعي القومي والدوافع الاجتماعية والنفسية لدراسة الطب
كن طبيبا حتى أراك!
هذا هو حال العرب الفلسطينيين في البلاد في السياق القومي- السياسي والعلاقة العربية – اليهودية.
هذا هو سلاح الأقلية في مواجهة محاولات تضييق الخناق عليها ونزع الشرعية عنها.
كن طبيبا حتى تُسكت الأصوات التي تتنكر لحقك في الوجود!
في الوقت الذي تكون فيه الأوضاع الأمنية في هذه البلاد على المحك، حيث تتأزم وتحتد فيه العلاقة بين المجتمعين العربي واليهودي، يأتي صوت من يدعون السلام مذكّرا: "".. انظروا إلى نسبة الأطباء العرب الكبيرة في المستشفيات، إنهم ينقذون حياة البشر، اليهود والعرب.. بدونهم سينهار جهاز الصحة.. أو يأتي أحيانا الخبر، بأن من قام بإنقاذ اليهودي فلان هو بالذات الطبيب العربي علان!
وفجأة، تخف علنية حدة اللهجة العنصرية ويخدّر صوت هتاف ""الموت للعرب"" أو يهدأ ""خجلا"" ربما لبعض الوقت.
فلا صوت يعلو فوق صوت الحياة وصوت منقذيها.
وفي هذا قوة!
فهذا الطبيب الاإسان الذي يُعتبر ""تهديدا أمنيا"" حين يحطّ أرض المطار مثلا، يصبح منقذا، ربما لنفس الأشخاص الذين أوقفوه وحققوا معه، حين يلبس رداء الطبيب. فرداؤه الأبيض ""السحري"" لا يشرعنه ويعطيه حصانة فحسب، بل يطهره من الشكوك ويضعه موضع ثقة عمياء، تماما.
هذه هي قوة العمل بالمواضيع الخدماتية والإنسانية التي تعنى بالصحة خصوصا، حيث تصل رسائلها مباشرة الى الناس متلقي الخدمة وتؤثر على من يحيط بهم أيضا.
حين تأتي هذه القوة وتكون متاحة لشخص يكون عرضة لتعامل عنصري خارج إطار عمله، فإنها أولا تساهم في رفع معنوياته وثقته بالنفس في التعامل اليومي مع الناس، وخاصة مع ممثلي الأغلبية القومية، وثانيا تكون بمثابة وسيلة راقية لمواجهة ""الإحباطات القومية"" وتعزيز الشعور بالقدرة على التأثير، بعد أن كان الشخص بموضع العجز حين كان خارج إطار عمله.
أكاد أقول إن هناك متعة بتبادل الأدوار القطبي اليومي هذا.
من هنا، فالعمل بمجال الطب لا ينقذ البشر فقط، بل يحسن من صورة الأقلية ويرفع أسهمها في المجتمع عامة ويحمي وجودها. وكلما أدركت الأقلية لهذه القوة واستغلتها بمهنية وبمسؤولية كلما ازدادت ضمانات مستقبلها.
من هنا، فلتهافت الشباب العرب على دراسة موضوع الطب خاصة، هناك خلفية ورسالة وطنية وجودية ووعي انساني وقومي مهم.
كن طبيبا حتى أراك!
هذا هو أيضا، حال الشباب العربي في السياق الداخلي، العربي -العربي في البلاد.
يتعرض الشباب العرب خلال الثانوية وقبل اختيار مسار الدراسة الأكاديمية لاختيار موضوع المستقبل لضغوطات اجتماعية مباشرة من الأهل والعائلة والمقربين، ولضغوطات غير مباشرة أيضا.
هناك شبه إجماع في المجتمع العربي أن للطب هيبة خاصة حيث يحظى ممتهنوها بتقدير اجتماعي يتميز عن ممتهني المجالات أخرى، حتى وإن كانوا من حملة ألقاب أكاديمية متقدمة. فالطبيب الدكتور يحظى بتعامل يختلف عن حامل لقب الدكتوراة في موضوع مثل الرياضيات أو الهندسة. هذه الهيبة لا يحصل عليها الأطباء فقط، بل يصل صداها إلى أفراد العائلة الآخرين.
هذه العوامل الاجتماعية التي تعطي للطبيب وللعائلة موقعا خاصا في المجتمع، تساهم أيضا في تحفيز وتعزيز ثقة الشخص بنفسه وتفتح له المجال بلعب دور ريادي في هذا المجتمع. وكلما كان هذا الطبيب ناجحا في اجتماعياته وفي مهنته، أصبح قدوة لشباب آخرين يقلدونه ويتمثلون به. ليس هذا فقط، وإنما يساهم أيضا في تفعيل الضغط من قبل الأهالي على الأبناء للسير بمسار مشابه، ربما تكون لهذا دوافع ورغبات أخرى لدى الأهل مثلا، في تحقيق حلم لم يستطعوا تحقيقه هم لأنفسهم في الماضي أو دوافع اجتماعية أخرى.
العوامل الاقتصادية والتشغيلية تساهم هي أيضا وبشكل كبير في دفع الشباب لدراسة موضوع الطب. ففي ظل التقييدات التشغيلية في المؤسسات الحكومية وفي المجتمع اليهودي بشكل عام، يأتي الطب مساهما في اختراق هذه التقييدات وليعطي الأمان الاقتصادي أيضا: فمجال العمل هو حرّ وإمكانيات العمل مضمونة تقريبا والمردود المالي أيضا جيد.
أما الضغوطات غير المباشرة لدراسة الطب فنراها مثلا في حفلات التخرج من الجامعات خارج البلاد بالأساس. فعلى مدار سنوات قام مسؤولو ورؤساء سلطات محلية بالسفر خصيصا خارج البلاد للمشاركة في حفلات تخرج طلاب الطب من مدنهم وقراهم. رافقت هذه الزيارات تغطية شاملة في الأخبار المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. وقُدمت التهاني الجماعية لخريجي الطب من النشطاء السياسيين والمحليين. وانتشرت الصور وأقيمت أمسيات تكريم حال وصول الخريجين الى البلاد حتى قبل أن يتقدموا لامتحانات الترخيص. إضافة الى طقوس الفرح وإطلاق المفرقعات وإلخ، احتفاء بهذه المجموعة من الخريجين دون غيرهم.. كل هذه المظاهر، تؤدي إلى التأثير على اللاوعي الجمعي والشخصي وبث رسائل بأن الطب هو الموضوع وبأن لا مجال آخر يفوقه أو ينافسه، مما يساهم بازدياد الإقبال عليه.
في النهاية، قد يلجأ الطلاب لدراسة الطب بسبب نقص في التوجيه المهني وشح المعلومات حول مواضيع أخرى. نسبة كبيرة من الطلاب الثانويين العرب لا يعرفون ماذا يدرسون وما يريدون العمل به مستقبلا ويواجهون صعوبة في اتخاذ القرار. من هنا، وفي ظل الواقع الذي ذكرته أعلاه، نرى البعض يلجأ لدراسة الطب كحل في ظل انعدام أو نقص المعلومات حول مواضيع أخرى. المثير أن البعض يكتشف حبه للموضوع خلال دراسته له ولكن البعض الآخر يقع ضحية حيث يستمر بدراسة موضوع لا يرغبه مما يؤدي إلى صعوبة أيضا في التأقٌلم في المجال لاحقا.
فتح المجال أمام تعلم موضوع الطب وسهولة قبول الطلاب لدراسته في بعض الجامعات خارج البلاد فتح المجال أمام العديد من الطلاب لتحقيق هدفهم. إضافة لذلك فإن وجود العديد من الطلاب العرب في جامعات معينة خارج البلاد، يعطي أيضا الشعور بالأمان الاجتماعي والنفسي ضمن المجموعة ذات نفس الخلفية الثقافية مما يعزز الشعور بالأمان الدراسي أيضا والدعم بمجالات عدة وقت الحاجة.
لا شك أن موضوع الطب هو مهم وحيوي وضروري للحفاظ على الحياة وتحسين جودتها. ولا شك أن دراسة الشباب والشابات العرب لموضوع الطب وممارسته بنجاح ومسؤولية مع إدراك الرسالة المجتمعية الكبيرة التي يحملها، يساهم في خدمة هذا المجتمع ليس فقط في المجالات الصحية وإنما في فرض واقع وجودي قومي وانساني قوي ويعزز الثقة المجتمعية بالنفس.
د. علي بدارنة
اختصاصي نفسي ومعالج بالهيبنوزا (التنويم المغناطيسي) ومدير عام "الرازي للتشخيص والعلاج والتأهيل"