الفلسطينيون في إسرائيل بين تحديات المرحلة والخيارات المتاحة
مدخل
مع قيام دولة إسرائيل، هجر جزءٌ كبيرٌ من النّخبة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في المجتمع العربيّ، وكذلك طبقة المتعلمين والطبقة الوسطى من العرب من وطنهم أو طردوا منه، وهكذا أصبح المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل مجتمعًا مبتورًا، أغلبيته من القرويين غير المتعلمين من الطبقة الدنيا، وأصبح عدد العرب الفلسطينيين في إسرائيل- سنة 1948 حوالي 156.000 نسمة - أقلية نائية، مستضعفةً وفئة مقصيه. وفي شهر كانون الأول سنة 2019 بلغ عدد العرب الفلسطينيين في إسرائيل حوالي 1,566,000 نسمة لا يشمل شرقي القدس والجولان المحتليّن ،(دائرة الإحصاء المركزية).
حدث الكثير من التّغييرات في جميع مجالات الحياة في المجتمع العربيّ- الفلسطينيّ في إسرائيل، بما في ذلك المبنى الاجتماعيّ والعائليّ، الاقتصاد والتربيّة، ومكانة المرأة والمزيد، وبعض هذه التّغييرات تم فرضها على المجتمع، على سبيل المثال عملية التّمدن أو العصرنة فرضت دون التّنسيق مع قيادة الأقليّة الفلسطينيّة ودون عمليات اِنتقال تدريجيّة من مجتمع تقليديٍ لمجتمع معاصر.
بدأ التّغيير الأكثر أهميّة الّذي حدث للمجتمع العربي الفلسطينيّ بالفعل عام 1948، إِنقلاب المراكز، السّكان العرب الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون أغلبيّة حتى عام 1948 أصبحوا أقليّة عرقيّة قوميّة، مهزومين وضعفاء بدون قيادة وطنيّة ودينيّة ، ويشتبهون في عدائِهم للدولة حديثة العهد. اما من كانوا اقلية - اليهو د- فقد تحولوا الى أكثرية مسيطرة وثقافتها مهيمنة.
المواطنون العرب الفلسطينيين في إسرائيل هم أقليّة عرقيّة ودينيّة ولغويّة وثقافيّة وقوميّة منفصلةٌ غير معنية بالانصهار الاجتماعي والثقافي، وغير مرحب بها للصهر او للاندماج بالدّولة الحديثة، ومع ذلك لا تُعَرَف هذه الأقليّة الّتي بقيت داخل حدود دولة إسرائيل كأقليّة قوميّة في القوانين الأساسيّة لدولة إسرائيل. وإنَّ تعريف إسرائيل ""كدولة يهوديّة"" أو ""دولة الشعب اليهوديّ"" يجعل عدم المساواة واقعًا عمليًّا، سياسيّاً وأيديولوجيًا من وجهة نظر مواطني إسرائيل الفلسطينيين، وغالبًا ما تنظر إليهم مجموعة الأغلبية على أنهم ""الطابور الخامس""، وهي رؤيةٌ تستند على هُويتهم الفلسطينيّة وعلى روابطهم القوميّة، الدينيّة، العرقيّة والثقافيّة مع إخوانهم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والدّول العربيّة والإسلاميّة المجاورة، وهذا التوجه يزداد قوة وقد تعزَّزَ هذا التوجه بعد تشريع قانون القوميّة في شهر تموز 2018.
يعاني العرب الفلسطينيين في إسرائيل من التّمييز الفرديّ والجماعيّ في أغلبيّة مجالات الحياة، حقوقهم في الأرض، الموارد التعليميّة، مكانة اللّغة العربيّة، والاندماج في عالم العمل، توفر رأس المال والائتمان المصرفي ومكانة الثقافة العربيّة في الدّولة، والاستثمار في البنى التحتيّة بشكل عامّ والمناطق العامة بشكل خاص، والحصول على الخدمات الصحيّة والتمثيل السياسيّ، وإتاحة الحصول على المعلومات والمخصَّصات والميزانيات بشكل عام. يعتبر مستوى معيشة المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل أدنى من المجتمع اليهوديّ في الدّولة.
وعلى الرَّغم من كل ذلك استطاعت هذه الأقليّة من إحْداث تغييرات جوهريّة ونوعيّة ضخمة في حقل التّعليم والتّعليم العالي ومكانة المرأة وبناء طبقة وسطى آخذة بالاِتّساع، وكان لأفراد هذه المجموعة نجاحات فردية واسعة بكافة مناحي الحياة.
محطات مهمة في تطور الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل
تمت بلورة وتطور الأقليّة الفلسطينيّة في الدّاخل ثقافيًا واجتماعيًا وقوميًا، وحتى في حَيّز المواطنة عبر مجموعة من المحطات الرّئيسية الّتي عاشها الجمهور الفلسطينيّ في الدّاخل ومن أبرزها:
1948: النكبة
1948-1966: الحكم العسكري
1967: النّكسة (الإذلال) وبدء مأسسة وضع الأقليّة
1976: يوم الأرض وتفرده
1979 السّلام مع مصر وفتح باب العالم العربيّ
1987: الاِنتفاضة الأولى
1993: اِتّفاقيات أوسلو
2000: اِنتفاضة الأقصى (ثانية)
2006: وثائق الرّؤية المستقبليّة
2015: إنشاء القائمة المشتركة
في هذه المقالة المقتضبة لن نعرج على أهمية كل محطة منها واثقين من وعي وفهم القراء الأفاضل لأهميتها، ما يهمنا هنا توصيف وتحليل التّحديات المفروضة على مجتمعنا والمنعطفات الخطيرة الّتي يمر بها كمجتمع اِنتقالي في سيرورة ما بين التّقليد والحداثة، بين التّقوقع والاندماجية الخاصة، بين تقديس الحضارة الخاصة والتّعددية الثّقافية.
تحدّيات المرحلة
يعصف بالمجتمع الفلسطينيّ عواصف متعددة أهمها:
عواصف اجتماعيّة
يصعب اليوم وصف الأجندة العامة للمواطنين العرب في إسرائيل دون التطرُّق لحوادث العنف المتواصلة في بلداتهم، إذ يحطّم العنفُ والجريمة الأجندة العامة ويهددان أمنَ كلّ من المجتمع والفرد، العنف تجاه الفرد الّذي ينتمي لمجموعة دينيّة، اجتماعيةّ، عرقيّة- قوميّة، ثقافيّة أو جندريّة ليس بالظاهرة الجديدة، وهو موجود منذ الأزل
بالنسبة لمجتمعنا لا يمرُّ يومٌ في المجتمع العربي دون حوادث عنف، أو إطلاق نار، أو قتل، أو اعتداءٍ على أشخاص، أو تدمير ممتلكات أو سطوٍ مسلح، وأصبح العنفُ ظاهرةً يوميّةً في قرى ومدن وأحياء هذا المجتمع، وتنتشر هذه الظاهرة بوتيرةٍ عالية، لدرجة أنها تعرّض الأمن الشخصي والجماعي للخطر، حتى أنها تؤدّي لإضعاف المجتمع وتفكيكه ويصح لوصفها ما عرفناه بالإرهاب المدني.
عواصف ثقافية
يُعرف المجتمع الفلسطيني في الدّاخل على أنه مجتمع اِنتقاليّ. وفي علم الاجتماع يشير مفهوم المجتمع الانتقالي إلى تحول المؤسسات الاجتماعية من التقليد إلى سلطة المكاتب (البيروقراطية) وخاصة المؤسسات التربويّة والقانونيّة والسّياسية والاقتصاديّة، وحصول تطور في القوى العاملة وتغيّر وتحول في البناء السّكاني واتجاهاته. أما في حالنا فالاِنتقالية هي من حالة المجتمع التقليدي - المحافظ إلى حالة المجتمع المعاصر، وما زال مجتمعنا بحال الاِنتقاليّة منذ عشرات السّنين حتى أصبحت من أهم مميزاته، هذه السّيرورة خلقت عدم انسجام بل والتضارب في المنظومة القيميّة والمعياريّة لمجتمعنا وقد زاد التناحر واحتدت المعركة بين التّيار المحافظ والتّيار المعاصر.
قد يرى البعض بهذا التوصيف مبالغ فيه على أنه عاصفة، ولكن بالحقيقة نحن نراه أحد أهم الأسباب لتفكّك القائمة المشتركة.
عواصف سياسية
تطور المجتمع الفلسطيني في الدّاخل بمراحل عدة في أنماط تصويته، بداية من التّصويت للأحزاب الصهيونيّة والدّينية اليهوديّة بنسب قاربت ال 80% من المصوتين إلى حالٍ عكسي بحيث أكثر من 80% من المصوتين صوتوا لقوائم عربيّة في انتخابات 2020. وبين المصوتين للقوائم والأحزاب العربيّة والمصوتين للأحزاب الصُّهيونيّة والدّينيّة اليهوديّة هناك مجموعة المقاطعين للمشاركة بالانتخابات للبرلمان الإسرائيليّ، أما من دوافع أيديولوجيّة أو دوافع أخرى.
ترشحت الأحزاب العربيّة الأربعة للكنيست لأوّل مرة على قائمة واحدة في عام 2015. فازت الأحزاب العربيّة بمتوسط 10 مقاعد عندما ترشحت بشكلٍ منفصل مقارنة بـ15-13 بشكلٍ مشترك. كانت نسبة إقبال النّاخبين العرب في انتخابات 2013-2006 56-53٪، وفي أبريل 2019 اِنخفضت إلى 49٪ عندما خاضت الأحزاب بشكل منفصل واِرتفعت إلى 65-59٪ عندما خاضت الانتخابات معًا. يؤيد الرأي العام العربي الوحدة الوطنيّة ويؤيد قائمة مشتركة واحدة تمثله وتعطيه شعورًا بالقوة والفاعليّة، وعاقب بشدة الأحزاب العربيّة لتفكيكها القائمة المشتركة في انتخابات أبريل 2019، وعلى خطابها قبل الانتخابات الّذي عبروا من خلاله عن شكوكهم فيما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى تحالف أزرق وأبيض لتشكيل كتلة، لقد كافأهم بسخاء عندما أعادوا تأسيس القائمة المشتركة في انتخابات سبتمبر 2019 و2020 وشاركوا في الخطاب العام لكسب النّفوذ من خلال التّعاون لإنشاء كتلة مانعة وربما شيء أوسع. السّؤال المحيّر الآن هو أنماط تصويت العرب الفلسطينيين بعد فكفكة القائمة المشتركة، وهل ستنتصر مرة أخرى قائمة المقاطعين لانتخابات 2021؟ أو هل يعاقب المجتمع العربيّ قيادته السّياسية مرة أخرى؟
ولكن بالحقيقة، ما يقلقني أكثر من أنماط التّصويت عند الأقليّة الفلسطينيّة ظاهرة التّكفير والتّخوين في العمل السّياسي القطريّ الّتي عادت بقوة بعد تفكُّك القائمة المشتركة في الانتخابات الحالية. نلاحظ في الآونة الأخيرة مجموعات سياسية تخون كل من عارض أو خالف رأيها السّياسي أو تُكَفِرْ من خالف رأيها في قراءة الموروث الدّيني والثّقافي.
عواصف اقتصاديّة
يعيش الدّاخل الفلسطينيّ حالة من الفقر النّسبي الواسع نتيجة أسباب بنيوية وأخرى، حيث تُصَنَف نصف العائلات من إجمالي العائلات العربيّة في إسرائيل كعائلاتٍ فقيرة، وتقريبًا يعيش ثُلث الأولاد العرب أسفل خط الفقر، وتُدرَج البلدات العربيّة أسفل السّلم الاقتصاديّ- الاجتماعيّ وتعاني الكثير من القرى والمدن عدم تطور ملحوظ، اِنتشار البطالة، وانظمة تعليم ورفاه ضعيفة وبنى تحتية سيئة.
لحالة الفقر هذه إسقاطات على اجتماعيات وسلوكيات الأفراد من تفشي العنف وثقافة العنف وعدم التّسامح وعدم احترام القانون والغير، والاعتداء على ممتلكاته وتغليب الخاص على العام وغيرها.
والخيارات المتاحة: ثقافة التعدّدية الثّقافية
يتركب المجتمع الإسرائيلي من ثقافات عدة ولكن أيديولوجية هذا المجتمع اختارت الهيمنة الثّقافية وجعلتها حالة تفردية وحصرية. فهل أصابنا عداء جائحة الثقافة الحصريّة المهيمنة؟
في سردنا للعواصف الّتي يمر بها مجتمعنا يتبين أنَّ هناك إشكالات بنيويّة وضعتها الدّولة الّتي نحن جزء من أقلياتها، والأقليّة القوميّة الوحيدة فيها، وهناك إشكالات لها علاقة بتطور سيرورتنا الثّقافية والاجتماعية والسّياسية. وسؤالنا هنا هل تبني النهج اللّيبرالي للتعدّدية الثّقافية قد يحصن أو يساعد في تحصين مجتمعنا من هذه العواصف؟
تُشير التعدّدية إلى التنوّع في وجهات النظر والمواقف حول نهج أو فكرة معيّنة، يدخل مفهوم التعدّدية في مختلف المجالات ولها أقسام عديدة، حيث نجد أنَّ هناك تعدّدية سياسيّة، تعدّدية اقتصاديّة، تعدّدية دينية وتعدّدية ثقافية. تعبّر كلّ من التعدّدية السّياسية والاقتصاديّة عن وجود أكثر من نظام سياسيّ أو اقتصادي في البلد الواحد، في حين تعبّر التعدّدية الدّينية عن وجود توجهات دينيّة عدة في المجتمع الواحد مع تقبّلها وتشجيع التّعايش السّلمي بينها. أمّا التعدّدية الثّقافية فهي تعبّر عن الجماعات الصغيرة الّتي تعيش ضمن مجتمع أكبر وتحتفظ بهُوياتها الثّقافية، وقيمها وممارساتها حيث يتم تقبل هذه الممارسات والقيم من قبل الثّقافة السّائدة مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ ثقافة الأقليّة لا تتعارض مع قانون الدّولة ونظامها.
تعتبر التعدّدية الخطوة الأولى ليس فقط للتسامح مع الآخر وإنما لتقبّله تمامًا من خلال التواصل المتنامي مع أشخاص جدد يحملون أفكارًا مميزة، ومن خلال التعامل المستمر معهم سيكتشف كلّ فرد أنَّ هنالك الكثير من النقاط المشتركة بينه وبين الآخرين، ربما أكثر ممّا كان يتوقع، وفي أحيان أخرى قد يكتشف أنَّ الاختلاف لا يزال كبيرًا ولا مشكلة في ذلك إطلاقًا. التكيف مع هذه الاختلافات يعرّض الفرد لوجهات نظر مختلفة، الأمر الّذي يقلّل من إطلاق الأحكام المسبقة ويصحّح الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تغذّي العنصريّة والعدائيّة.
ما يحتاجه مجتمعنا كأقليّة خاصة هو تعدّدية ثقافيّة بمعنى التّنوع الثقافي، نعني بها ثقافة الخصوصيات والتعدّد والتّنوع في إطار الوحدة، الوحدة الّتي لا ترفض الاختلاف وتقبل بالآخر كما هو، هذا المبدأ إلزاميّ ليس فقط لمجموعة الأكثرية بل وبالأخص للثقافات الفرعيّة الّتي بعضها يكثر من مناكفة الأكثريّة، مع الأخذ بعين الاعتبار حالتنا الخاصة في إسرائيل.
د. نهاد علي
رئيس قسم التعددية الحضارية بكلية الجليل الغربي وجامعة حيفا ورئيس قسم المجتمع العربي بمؤسسة "صموئيل نئمان" في معهد "التخنيون"