العلاقة بين معالجة النُّفايات والبيئة الصحيِّة
على مدى العقود القليلة الماضية، تم اعتبار إدارة التخلّص او التّقليل من النُفايات الصلبة أحد التحدّيات البيئيّة الرئيسيّة.
عادة ما تكون النُّفايات العضويّة، وخاصة نُفايات الطعام، أهم عنصر في النُّفايات البلديّة الصلبة حيث تمثّل النُّفايات العضويّة بشكل عام حوالي 35٪ - 57٪ من وزن النُّفايات الصلبة في أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط، وقد تم تصنيف عمليّة التّقليل منها في المرتبة الثالثة من بين 100 حل للحدّ من تغيّر المُناخ [1]، ومع ذلك فهي في معظم البلدان أقل المواد التي يُعاد تدويرها واستخدامها.
معالجة النُّفايات المنظّمة حاليًا
يتم التخلّص من النُّفايات البلديّة الصلبة في إسرائيل بشكل أساسيّ عن طريق طمر النُّفايات (حوالي 80٪)، يعتبر طمر النُّفايات طريقة معالجة رديئة تؤدّي إلى مخاطر بيئيّة مثل تلوّث الأرض والمياه وخاصّة المياه الجوفيّة في حالة حدوث ضرر بالمادّة العازلة الذي يؤدّي لتسرّب الملوّثات للمياه الجوفيّة، إضافة لاستهلاك مساحات شاسعة من الأرض والمخاطر المترتّبة عن هذا الاستعمال، زد على ذلك الإنبعاثات المحتملة لغازات الدفيئة المتسرّبة إلى الغلاف الجويّ (الميثان بشكل أساسي) بسبب التحلّل اللاهوائيّ للمواد العضويّة في مكبّات النُّفايات، علاوة على ذلك فانه من المتوقع إغلاق المواقع الموجودة في إسرائيل وحينها سيتعيّن على السلطات المحليّة إيجاد مواقع بديلة، خاصّة في جنوب البلاد، نتيجة لذلك ستزداد تكاليف نقل النُّفايات ومعالجتها المُكْلفة اصلًا، لذا فاننا نَلمَسُ في العَقدين الآخيرين اهتمامًا متزايدًا لتحسين إدارة وعلاج النُّفايات العضويّة.
إعادة التدوير أمر طبيعي، إنتاج الطاقه أمر طبيعي أيضا، نحن فقط نهندسه
تحلّل المواد العضويّة مثل النبات وفضلات الطعام والمُنتَجات الورقيّة بطرق بيولوجيّة هو أمر طبيعيّ، ومن الممكن تسريع تحلّل المواد العضويّة بواسطة التحلّل الهوائيّ واللاهوائيّ وهناك طرق هجينة بين الطريقتين السابقتين.
يُستخدم التحلّل الهوائيّ للمُخلّفات العضويّة لإنتاج الكمبوست (Compost) أو بالعربية السِباخ أو السماد العضوي، اذ يتطلّب التّسميد جمع مزيج من النُّفايات الخضراء والنُّفايات البُنيّة، بحيث أن النُّفايات الخضراء عبارة عن مواد غنيّة بالنيتروجين، مثل الأوراق والعشب، بقايا الطعام، بقايا المحاصيل، الخضار والفواكه التالفة، والنُّفايات البُنيّة وهي مواد خشبيّة غنيّة بالكربون، مثل السيقان ،الورق ونجارة الخشب.
تتحلّل المواد إلى سماد عضويّ بواسطة البكتيريا الهوائيّة والفطريات وينتج أيضا غاز ثاني أكسيد الكربون والأمونيوم.
يمكن تقسيم أنظمة التّسميد إلى قسمين: "نظام أكوام السماد " او ما يسمّى " التّسميد بالتّكويم" الذي يتم تطبيقه في البيئة الخارجيّة في عملية مراقبة لضمان درجة الرطوبة والتهوئة المناسبة بواسطة قلب الخليط ومزجه وتوزيعه بانتظام في عملية تستغرق شهورًا.
النظام الثاني يُسمّى " نظام داخل المُفاعل" حيث أن عملية التحلّل تحصل بداخل وعاء مُحْكَم الإغلاق ومُراقَب بطرائق علميّة، لذلك نرى في الآونة الأخيرة انتشار هذه التقنيّة وهذا النوع من الأنظمة .[2]
يُستَخدم السماد العضويّ بهدف تحسين بُنْيَة التربة وخواصها مثل زيادة قدرة الأرض الرمليّة على الاحتفاظ بالمياه، والأراضي الطينيّة في تحسين النفاذيّة وتعديل درجة الحموضة والتّخفيف من تأثير الأملاح بالتربة على الجذور ورفع درجة ومنسوب خصوبة التربة.
التحلل اللاهوائيّ هو عملية تحلّل حيويّ بطريقة طبيعيّة للمواد العضويّة باستخدام الكائنات الحيّة الدقيقة في غياب الأكسجين، يحصل التحلّل اللاهوائيّ في المستنقعات والرّواسب للموادّ العضويّة والجهاز الهضميّ لبعض الحيوانات متعدّدة المعدة، تتضمن العمليّة إنتاج الغاز الحيويّ والذي يتألف بأغلبيته من الميثان وثاني أوكسيد الكربون، يمكن أن يُستخدَم الغاز الحيويّ كوقود لمحرّكات الغاز التي تُنتِج الحرارة والطاقة[3] ، الأمر الذي لاحظه الفارسيّون القدماء حين رأوا أن الخضروات المتعفّنة تُصدر غازًا سريع الإشتعال.
إن التحكّم في العمليّات الميكروبيولوجيّة الطبيعيّة وإمكانيّة تسريعها يَسمح لنا بإعادة استعمال وتدوير فضلات الطعام والمخلّفات العضويّة (الصلبة والسّائلة) بهدف إنتاج الغاز المستخدَم كمصدرٍ للطاقة المتجدّدة، ولاستخدام الموادّ الصلبة الناتجة كسماد، يمكن أيضا تحسين وتجويد الغاز الحيويّ ليصبحَ بجودةٍ مشابهةٍ للغاز الطبيعيّ الأحفوريّ وبهذا تزداد إمكانيات إستعماله.
من المعروف ايضًا أن تأثير الميثان الموجود في الغاز الحيوي أقوى بعشرين مرة من غاز ثاني أكسيد الكربون كغاز الاحتباس الحراري، لذلك فإن غاز الميثان غير المُحتوى من مطامر النُفايات والذي يتسرّب للغلاف الجوي قد يُسهم بشكل كبير في آثار الاحتباس الحراري، بالإضافة لتأثيره على الاحتباس الحراري، تساهم المُرَكّبات العضوية المتطايرة الموجودة في ذلك الغاز (VOCs) في تكوين الضباب الدخاني الضوئي.
النُّفايات والصّحة
إن الإدارة المتكاملة للنُفايات الصلبة في البلاد تدعو إلى تخفيض كمّية النُفايات والتّقليل من طمرها من خلال 4 وسائل: التّخفيض بالمصدر، إعادة الاستخدام، إعادة التّدوير وإنتاج الطّاقة.
بالنسبة لإنتاج الطّاقة المراقب فهو ممكن بواسطة منشأة حرق النُفايات التي تعتمد العلاج الحراري للنُفايات مثل تحويل النُفايات إلى غازات، والتّحليل الحراري (البيروليزا)، وبواسطة البلازما أي الغاز المتأيّن، وكل هذه الطرق آخذة في التطور.
إن هذه الوسائل التكنولوجيّة تتم من خلال مراقبة مُحْكَمة كي لا تُطلَق ملوّثات إلى الجو، في حين أنه من الممكن وربما أيضا من المغري التخلّص السريع من النُفايات والمخلّفات بواسطة حرقها في الحيّز العام، الأمر الذي يُعَرِّض صحّة البشر والبيئة للخطر من خلال إطلاق ملوّثات سامّة الى البيئة، لا سيما أن تلوّث الهواء لا يبقى في مكان محدّد بل ينتشر بحسب ظروف الطّقس المُناخ وحركة الرّياح.
في تقرير وزارة حماية البيئة حول سجّل انبعاث ونقل الملوِثات إلى البيئة سنة 2021[4] ، اتّضح فيه أن الزيادة في انبعاث الموادّ المشبوهة في التسبّب بأمراض السرطان قد بلغت 1.5% أكثر من العام 2020. كما أن 76% الإنبعاثات المسبّبة للسرطان أو المشتبه في كونها مسرطنة في إسرائيل في العام 2021 كانت بسبب الحرق غير القانونيّ للنُّفايات، وخاصة النُّفايات المنزليّة والزراعيّة.
قد يؤدّي التّعرض لتركيزات عالية من الملوّثات المنبعثة في الهواء خلال حرق النُفايات على المدى القصير إلى حرقان في العين والأنف والحنجرة والصّعوبة في التنفس، وقد يثير الصداع وينتهي بالقيء، على المدى الطويل قد يتسبب حرق النُفايات إلى أعراض في الجهاز التنفسيّ منها نوبات الربو والتهاب الشُعَب الهوائيّة الحادّ والمزمن، بالإضافة إلى ذلك فإن حرق بعض المنتجات الّتي تحتوي على الكلور ومتعدّد كلوريد الفينيل (PVC) وهي مادة بلاستيكيّة كثيرة الإستعمال يتسبب في انبعاث ملوّثات تسمى الديوكسينات والفيوران التي تم تحديدها كمواد سامّة جدا وتعريفها على أنها مسبّبة للسرطان حتى من تركيزاتها المنخفضة في الهواء .[5]
في حين أن العالم يسير نحو الإستدامة والإقتصاد الدائري، مجتمعنا المسؤول عن جزء كبير من حرق النُّفايات لا يزال يستخدم نمط الإقتصاد الخطي الذي بحسبه نستهلك الطعام ونُنتج النُّفايات ونتخلّص منها بطريقة ملوّثة للبيئة، بينما من الممكن التخلّص من النُّفايات المتراكمة، على الأقل العضويّة منها لإنتاج الطاقة والسماد وبالتالي تحسين أحوالنا الصحيّة والبيئيّة.
لا أريد أن يُفهم من حديثي أنني أُكيل التهم فقط لمجتمعنا بتدني أحوالنا الصّحيّة، لكن للمجتمع ووعيه دور هام في هذا المقام، كما وأنه هنالك العديد من الآفات البيئيّة الأخرى المقلقة والتي تؤثر على الصّحة، منها تلوث الهواء الناجم في معظمه عن وسائل النقل وانبعاث غازات الوقود على انواعه من عمليات توليد الطاقة الكهربائيّة والإنبعاثات الصناعيّة والزراعيّة وأنظمة التدفئة، نتيجة لاستخدام الوقود الصلب داخل المساكن، فكل هذه المسبّبات تزيد من خطر الإصابة بمجموعة متنوّعة وخطيرة من الأمراض منها أمراض الجهاز التنفسيّ ، السكتات الدماغيّة وأمراض القلب، لا سيّما أن جزءً كبيرًا من بيوتنا وشوارعنا يجاور المناطق الصناعيّة ومحطات الوقود القابعة في قلب البلدان العربيّة وشرايينها الرئيسيّة.
في تقريرٍ أخيرٍ لوزارة الصّحة يمكننا أن نرى أنه في ثلاث مناطق جغرافيّه: عكا ، مرج بن عامر، الخضيرة (حيث يشكل السكّان العرب حواليّ نصف السكّان)، نسبة الإصابة بسرطان الرئة أعلى بكثير من المتوقّع، بالرغم من أنه لا يمكن استخلاص استنتاجات متعلّقة بالعوامل البيئيّة من البيانات، فإنه بحسب الوكالة الدوليّة لأبحاث السرطان التابعة لمنظّمة الصّحة العالميّة، ترتبط العوامل التي تعتبر مسبّبة للسرطان بأنواع مختلفة من السرطان، على سبيل المثال يرتبط تلوث الهواء البيئيّ بسرطان الرئة وسرطان المثانة[6] . هذا مثير للاهتمام حقًا بالنسبة لي، ويؤكّد على الحاجة الماسّة لتكثيف الدراسات في علم الأوبئة البيئيّة والذي يركّز على فحص العلاقة بين مجموعة متنوعة من التعرّضات البيئيّة الضّارة والمفيدة التي نتعرّض لها وتأثيرها على الصّحة خاصةً في المجتمع العربيّ، وبالذّات في الوقت الذي لا توجد فيه محطّات مراقَبة جويّة كافية لملوِثات البيئة في منطقة الجليل [7]. وبهذا أوصي وأدعو الباحثين للعمل على دراسة مسبّبات السرطان والأمراض المزمنة في مجتمعنا ومنها البيئيّة، والضّغط على مؤسّسات الدولة المعنيّة للعمل على زيادة عدد محطّات المراقَبة الجويّة للملوِثات في داخل التّجمعات السكنيّة العربيّة، كي نصل لاستنتاجات هامّة بما يخصّ الصّحة في الوسط العربيّ وبشكل عام.
كاتبة المقال: د. كيتي برانسي-كركبي، باحثة في مجال العلوم البيئيّة في معهد البحوث التطبيقيّة – جمعيّة الجليل، متخصصة في العمليات الفيزيو-كيميائيّة والبيولوجيّة للأنظمة والتطبيقات البيئيّة المُهندَسَة، وتشمل مجالات البحث التالية:
الجمع بين العمليات البيولوجيّة والفيزيو-كيميائيّة لمعالجة مياه الصرف الصحيّ، مع التركيز على استخدام الأغشية بدون أوكسجين في المُفاعلات الحيويّة لتطبيقات مياه الصرف الصحيّ المتقدّمة، واستعادة الطاقة بشكل غاز حيويّ في ذات الوقت.
رفع مستوى الغاز الحيويّ البيولوجيّ باستخدام نهج بيولوجيّ مبتكر يتم فيه تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى ميثان بواسطة الميثانوجينات الهيدروجينيّة.
الجمع بين عمليات الأكسدة المتقدّمة (advanced oxidation processes) وعمليات الإمتزاز (adsorption) للحدّ من المركبات السامّة من الماء، وأيضا تطوير تقنيات تطهير مبتكرة تعتمد على التحفيز الضوئيّ غير المتجانس .(heterogeneous photocatalysis)
تطوير إطار جديد لإدارة النُفايات العضويّة يدمج أنظمة التدمين اللامركزيّة في المنزل والمجتمع (Home & Community Composting) مع الزراعة الحضريّة.
الإحالات:
[1] Hawken, P. (Ed.) Drawdown: The Most Comprehensive Plan Ever Proposed to Reverse Global Warming; Penguin: London, UK, 2017.
[2] Bruni, Cecilia, et al. "Decentralized community composting: past, present and future aspects of Italy." Sustainability 12.8 (2020): 3319.
[3] Ward, Alastair J., et al. "Optimisation of the anaerobic digestion of agricultural resources." Bioresource technology 99.17 (2008): 7928-7940.
[4] https://www.gov.il/BlobFolder/reports/prtr_report/he/prtr_prtr-book-2021.pdf
[5] https://www.gov.il/ar/Departments/General/dangers_of_burning_waste
[6] https://www.health.gov.il/PublicationsFiles/Cancer_in_Israel-2011-2015_2016_2019.pdf
د. كيتي برانسي- كركبي
باحثة في مجال العلوم البيئيّة في معهد البحوث التطبيقيّة – جمعيّة الجليل، متخصصة في العمليات الفيزيو-كيميائيّة والبيولوجيّة للأنظمة والتطبيقات البيئيّة المُهندَسَة