أمهات من اجل الحياة: حراك متعدد النضالات

يتناول هذا المقال قضية العنف والجريمة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، لكنه على خلاف الكثير مما كتب في هذا الصدّد، فأنه يتطرق للحراك النسائي المتصاعد في هذه القضية وتحديدًا للمبادرة الخاصة التي انطلقت مؤخرًا من قبل أمهات فقدن أولادهن في دائرة العنف والجريمة في السّنوات الأخيرة وشكلّنَ منتدى يجمعهن كإطار ضاغط وفاعل ضمن الحراك الشّعبي المتصاعد تدريجيًا داخل المجتمع. يحاول هذا المقال الإجابة عن خاصية هذا الإطار وآفاق تأثيره في واقع يبدو أن العنف والجريمة وصل به لذروات غير مسبوقة، عدد القتلى بلغ السنة الماضية 113 قتيلا، ومنذ بداية هذا العام وصل العدد لإثنين وثلاثين قتيلًا. مئات الآلاف من قطع الأسلحة منتشرة في البلدات العربية، منظمات الإجرام تتحكم وتسيطر في مختلف مناحي الحياة وشعور عارم بالعجز والإحباط يطبق على الجمهور الواسع بمختلف شرائحه.

من قلب هذا الواقع المركب تشكل منتدى الأمهات الثكالى- أمهات من أجل الحياة. هو منتدى أُعلن عن تأسيسه بشكل رسمي في العاشر من آذار 2021، ليضم مجموعة من الأمهات الثكالى، ثمة علاقة جدلية في هذا العنوان الذي يجمع بين الموت والحياة، وبين النهاية والبداية وبين الألم والأمل. هذه المجموعة من النساء قررت كسر الصمت وأخذ دور فعّال في القضية الأولى والأكبر التي يواجهها المجتمع اليوم والمشاركة بشكل فاعل في تحريك الرأي العام، وضع هذه القضية على الأجندة المجتمعية والضّغط على المؤسسة الإسرائيلية من أجل العمل على وقف هذا النّزيف المستمر. في الحقيقة هن مجموعة من النساء المتألمات اللواتي حوّلن ألمهن الشّخصي لمقولة سياسية ولفعل شعبي من خلاله يوظفن فقدانهن الفردي بتفاصيله ""الصغيرة"" التي قلّما يتسع لها الحيز العام، ويضعن هذه التفاصيل بشكلها القائم. يتناولن الفقدان والألم بما يتجاوز التغطية الإعلامية المألوفة ويضعن أمام الجمهور الواسع هذا التفاصيل بعيدات عن حسابات ومصالح وموازين القوى الذكورية التي عادة تسيطر في التعاطي مع هذه القضية.

يتشكل هذا المنتدى اليوم في ظلّ حراك شعبي ضد العنف والجريمة المنظمة، بدأ يتصاعد في السنتين الأخيرتين، أحيانًا كردِ فعل على جرائم قتل كالمظاهرات القطرية التي جرت في مجد الكروم وطمرة وبلدات عربية عدة، إلى جانب مسيرتين قطريتين للسيارات انطلقتا من الشمال وصولًا للقدس شلتا حركة شارع "" عابر إسرائيل""، وحراكات شعبية محلية في بعض البلدات العربية من بينها حراك لافت في أم الفحم يستمر بشكل أسبوعي منذ أكثر من ثلاثة شهور. كل ذلك يجري في ظلّ سياسات حكومية تتقاعس وفي العديد من المستويات تتواطأ مع منظمات الإجرام. لا يتسع الحديث في هذا السياق عن الديناميكيات المتشابكة بين العنف والجريمة وبين سياسات الإفقار، ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت وخنق البلدات العربية. لكن هنالك من يرى أن هذا التواطؤ للمؤسسة الحاكمة, ليس خللًا عرضيًا بل هو سياسة ممنهجة لتفتيت المجتمع الفلسطيني وتركه نازفًا وغارقًا بدمائه. في قلب هذه الوضعية الكابوسية لمجتمع يتخبط بين الخوف والعجز أحيانًا والتّصميم والمواجهة في أحيان أخرى نشهد تحركات نسائية وشبابية لافتة في النشاطات الشّعبية، وهو أيضًا ما يحفز على فهم خاصية هذه الحراكات، مواطن قوتها والتحديات التي تقف أمامها من وجهة نظر نسوية قادرة على تحليل التشابك بين عنصرية الدّولة وبطريركية المجتمع والحيز الذي تتحرك به النساء كمبادرات وقياديات في هذه المواجهة.

في العودة للبداية فلا بد من الإشارة للمرأة الطلائعية التي بواسطتها انطلق هذا الحراك. هذه المرأة تدعى منى خليل من سكان حيفا والقاطنة في حي الحليصة الذي تشهد بناياته على عمق التهميش والإقصاء لمدينة تحاول كل الوقت الإحتفاء بما تسميه "" التعايش"" العربي اليهودي، لكن حكايات أحياء حيفا العربية تأتي باستمرار لتزيل القناع وتكشف المزيد من مستويات التّهميش والتّغييب. قتل ابن منى في شجار قبل حوالي سنة وما زال القتلة طلقاء أحرار. منى امرأة مكافحة أحادية الوالدية (توفي زوجها قبل سنوات عدة)، فهي تمثل الشّريحة العريضة من نساء مجتمعنا، لم تنشأ منى في عائلة استطاعت أن تؤمن لها تعليما عاليًا ومهنة رفيعة، بل قاست من ظروف صعبة واستطاعت بمثابرتها وبقلبها الدافئ تربية خمس بنات وابن واحد فقدته بلمح البصر. رفضت منى الاستكانة وقررت إطلاق صرختها والمطالبة بتحقيق العدالة وإلقاء القبض على القتلة. منى كانت مستعدة للسير مشيًا على الأقدام من حيفا للقدس وصولًا لمكتب رئيس الدولة لإعلاء صرختها ومطالبته بالقبض على قاتل ابنها.

انضمت لمنى خليل أيضًا المرأة والأم المكافحة وطفة جبالي من الطيبة، (لا يتسع هنا سرد حكايتها لكن لا بد من الإشارة إلى أن حكايات النساء الشجاعات تمثل خيطًا جامعًا يعكس سياقات التهميش السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي وتأثيره على مسارات حياتهن). منى ووطفة سارتا معًا في صيف 2020 برفقة مجموعة من السياسيين والناشطين، لتنضم إليهما في الطريق نساء أخريات ثاكلات تشجعن لهذا الحراك وخرجن للانضمام للمسيرة. سارت المجموعة خمسة أيام متواصلة، دون كلل وبالكثير من الإرادة والعزيمة. ومنذ ذلك الوقت تشجعت أمهات أخريات وأبدين استعدادهن للانضمام للمنتدى على الرّغم أن من بينهن نساء لم يكسرن هذا الصمت منذ أن فقدن أبناءهن، واليوم لأول مرة يجدن أنفسهن يتحدثن أمام الكاميرات ويخرجن للشوارع مشاركات في الحراكات الشعبية، ويقدمن الدّعم والتّشجيع لأمهات أخريات يتزايدن باستمرار مع التّزايد المؤسف للقتل والموت والفقدان.

لا يمكن المرور من هذه المحطة دون الالتفات لخصوصيتها. لأوّل مرة يتم طرح قضية العنف والجريمة من وجهة نظر النساء أنفسهن ومن خلال لغتهن وأسلوبهن. هذه الأصوات المغيبة عن الحيّز العام التي يسيطر في غالب الأحيان عليها أصوات الرجال، متجاهلة النّساء اللواتي في غالب الأحيان هن من يتحملن العبء الأكبر من تبعات هذا القتل. فالنساء هن اللواتي يعتنين بالأطفال اليتامى للمقتولين، كأمهات وزوجات وأخوات وقريبات، هن من يتعاطين يوميًا بتفاصيل الحياة اليومية وبتحدياتها ما بعد الفقدان، وهن في الغالب من يبقين في الصّفوف الخلفية داخل البيوت المظلمة. أصواتهن ومواقفهن مغيبة ومكانها يحتل الرّجال المشهد. وعلى الرّغم من أنَّ النّساء في الغالب لسن جزءًا من ماكينة القتل هذه، فإن من يتابع النّقاشات المشتعلة التي تنتشر على شبكات التّواصل الاجتماعي وفي الإعلام عامة، يلتفت بلا شك لإصبع الاتهام الذي يوجه في العادة للأمهات ولأهمية التّربية ولدور الأم تحديدًا في التنشئة الصّالحة ويصل الحد في بعض النّقاشات تحميل الأمهات المسؤوليّة الأساسيّة عن القتل والجريمة. هذه المواقف هي جزء من نتاج البطريركية المترسخة التي غالبًا ما تعفي الرّجال من أدوار التّربية والرّعاية ولا تدرك تبعات غياب الأب فعليًا ومجازيًا في حياة الأولاد وتأثيره على احتياجاتهم ووجهات حياتهم وتحمل النّساء عبء هذه المهمة. ولكنها في الأساس تعكس أيضًا حالة التّخبط والضّياع وعدم القدرة على التّعامل مع القضية بنظرة شمولية قادرة على رصد العوامل الخارجية والداخلية والديناميكيات كافة الحاصلة فيما بينها, وهي تعكس أيضا حالة الفشل والعجز عن مواجهة الواقع القائم بتعقيداته الكثيرة.

إقامة هذا المنتدى من الممكن أن يشكل محطة فارقة في مسيرة الحراك النّسائي للفلسطينيات في الدّاخل، لأنها تحمل في طياتها الكثير من الرّسائل المباشرة في التّعاطي مع قضية العنف والجريمة المنظمة، وفي موضعة النّساء الأمهات صاحبات الشّأن كقائدات مباشرات. لكنها أيضًا تحمل الكثير من الرّسائل الخفية الّتي على مجتمعنا أن يفكّك شيفراتها وهذا هو التّحدي الأكبر والأصعب. أولى هذه الرسائل تتلخص في أن إنقاذ هذا المجتمع وتحرره من العنف والجريمة ومن أشكال القهر والظلم والتهميش كافة، لا يمكن أن تتم إلا بتحرر أفراده بنسائه ورجاله وبانخراطهم جنبًا إلى جنب (وليس في الخلف)، في مختلف القضايا الحارقة وبتذويت قيم الحرية والعدالة والمساواة لشرائح المجتمع كافة. خروج النساء للحيّز العام وتصدر هذا النّضال هو بمثابة إعلان صريح ومباشر للمجتمع قبل المؤسسة الحاكمة. هذا الإعلان مفاده أن النساء لن يكتفين بأن يكن وقودًا لأية مواجهة، بل يتقن لأن يتقدمن ويقدن هذه المواجهة بمعاييرهن وبنظرتهن الشّمولية وبتصديهن لمختلف آليات وميكانيزمات القمع الدّاخلية والخارجية، وأنّ هذين الخطين اللذين يسيران معًا هما شرطان أساسيان وضروريان للنجاح في هذه المواجهة. منتدى الأمهات الثكالى بذلك لا يشكل آلية ضغظ على المؤسسة الإسرائيلية فحسب، أنه إطار نسائي يحمل في طياته ميلًا في زعزعة موازين القوى القائمة وتمردًا على كافة أشكال القهر السّياسي والمجتمعي على حد سواء. توسعه واندامجه في الحراك الشّعبي وعلى المستوى السّياسي المجتمعي التربوي، سيشكل رافعة مهمة للتحشيد والتعبئة نحن في أمس الحاجة لها في هذه المرحلة الحرجة.

ريهام أبو العسل

عاملة اجتماعية وباحثة نسوية ورئيسة نعمات في لواء الناصرة ومن مؤسسات "منتدى الأمهات الثكالى"

شاركونا رأيكن.م