السُويداء تُخاطِب حِمص
عزيزي القارئ، سيبدأ مقالي هُنا، وقد لا يَنتهي، إذ سيَحمل أسئلةً قد لا يستوعبها العقل البشري إلا بَعد قراءاتٍ متعدّدةٍ له! ولا أدّعي لا سمح الله، أن لديّ من البلاغة، ما يكفي لحَملك على قراءة هذا المَقال أكثر مِن مرّة، بل إنني أحاول أن أَنقُل لك، ألمَ رأسي وصداعَه المتكرر في الأسبوعين الماضيين مِن كثرةِ القراءة عن السُويداء وحِمص، ما جَعلني أُفكر في اختراعِ وطنٍ عربيّ جديد!
حسنًا، هذه بداية تقليدية، لكنّها مُهمة، إذ وُلد سميح شقير، الفنان السوري الشهير، في محافظة السُويداء في سوريا عام 1957، ويَعيش الآن في فرنسا مَنفيًّا. ووُلد عبد الباسط الساروت، ولَقَبه "بلبل الثورة"، في حمص عام 1992، وقتله النظام السوري عام 2019. وما بين شقير والساروت، والسُويداء وحمص، كان هناك خِطاب ثَورجي على شكلِ كلماتٍ يهتفُ بها الساروت في المظاهرات، وألحانٍ يصدَح بها شقير في عروضه الفنية. وأنا الفلسطينيّ الذي ترعرعتُ على الهتافات والأغاني الثوريّة الوطنية، فُتنت ببلاغة الساروت وشقير وأغانيهما خلال الثورة، لدرجةٍ جعلتني أتخيّل أن الساروت كان يَهتف في حمص، ويردّ عليه سميح مِن السويداء.
ولأزيدَ تشويقَكم أكثر، فإن سميح شقير الفنان المشهور، كتَبَ مُعظم أغانيه ولحّنها جميعها، ولم ينتَمِ لأيّ حزب سياسي، وبقي مستقلًا يقدّم الأغاني الإنسانية والثورية. إذًا تستطيع تخيّل سميح على أنّه مؤلف وملحن وموزّع ومخرج، ومغنٍ، وثوري، وإنسان، والأهم بأنه سوري.
ولزيادة الحَماس أكثر، فإن عبد الباسط الساروت كان معروفًا بموهبته الرياضية كحارسِ مرمى لفريق نادي الكرامة ومنتَخب سوريا للشباب، ولكن ككثيرٍ من الشباب، لم يلقَ شغفه في رياضة كرة القدم، فاتّجه لرياضة "قيادة المظاهرات" والغناء فيها. وهذه الرياضة تتطلب قلبًا قويًا لا عضلاتٍ مفتولة، وإيمانًا عاليًا بقضية ما، لا قفازاتِ حارس مرمىً ذهبية.
وما بين شقير والساروت، وما بين السُويداء وحمص، وما بين التأليف والتّلحين، وحراسة المرمى وحراسة المظاهرات، خَرَجَت أغنيتان، جعلتاني أشعر كأنني أعيش في حقبةٍ إبداعيةٍ مِن وصف الأحداث التي دارت في سوريا بدقّة متناهية.
يبدأ الساروت في مطلع أغنيته التي تحمل عنوان: "طيب إذا بنرجع" بقوله:
طَيّب إذا بنرجع........
بتوعدنا تسمعنا؟ ماشي يللا اسمع، هاي مطالبنا...
وكأن الساروت يُخاطبُ صديقه معاتبًا... بأن يسمع لهُ في حال قرّر الرجوع، وأن يلبّي مطالبه..
ويردّ هنا شقير في مطلع أغنيته بعنوان: "يا حيف"، ويقول:
يا حيف آآآخ... ويا حيف، زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف،
وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف،
وإنت ابن بلادي تقتل بولادي.
وكأنّ شقير يردّ على الساروت ويقول.... "طيب إذا بترجع" هذا ما ستجده
ويستكمل السّاروت مطالبه ويقول:
1. بدنا أصابع نصر، نرفعها فوق القصر
2. بدنا الصبح والعصر، تمرق وتفقدنا
3. بدنا دم الشهداء، يرجع نهر بردى، والقصة مع سردى، ليش كنت تدبحنا
4. وتلم كل دمعة، نزلت بكل جِمعة
5. كل أصبع بشمعة يضوي لوجهتنا
6. بدي وتبدّلنا اللمزة…. والقاف بالهمزة
7. ورجعلنا حمزة …. وهاجر وإخوتــنا
8. حبل الصدق مدّو …. من كل بلد ردوا
9. ولسا الشعب بدّو …. ترحل وتتركنا
ويستكمل في مطالِبه المعاتبة الشديدة، إذ يطلب بشكلٍ واضح، أن يتفقدهم "راعي الرعية" صبحًا وعصرًا، وأن يعيد لهم حمزة وهاجر، الطفلين اللذين قتلا بداية الثورة، ونُكّل بجسديهما.
وباعتقادي أن السّاروت فَهِم أن مطالبه مستحيلة، فاختتم رائعته بالتأكيد أن الشعب مازال يُريدك أن "ترحل وتتركنا".
وبهذه الكلمات البسيطة العميقة، صدَحت حنجرة الساروت في المظاهرات، قبل أن يَقتل النظام كلّ إخوانه، وأفرادًا من عائلته وأصدقائه، ليختتم مسيرَته، بقتل الساروت نفسه!
أما سميح، فلم يتوقف، بل استكمل الردّ على عبد الباسط وقال:
وظهرك للعادي وعليي هاجم بالسيف، يا حيف ياحيف،
وهذا اللي صاير يا حيف، بدرعا ويا يما ويا حيف،
سِمعت هالشباب يما الحرية عالباب يما... طلعو يهتفولا، شافو البواريد يما.
قالو إخوتنا هنّ ومش رح يضربونا،
ضربونا يما بالرصاص الحي..... متنا..... بايد إخوتنا باسم أمن الوطن،
وحنا مين إحنا واسألوا التاريخ...... يقرا صفحتنا.....
مش تاري السجان، يما كلمة حرية وحدا هزتلو اركانو،
ومن هتفت لجموع يما أصبح كالملسوع يما، يصلينا بنيرانو.....
واحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبو، خاين..... يكون من كاين، والشعب
مثل القدر، من ينتخي ماين، والشعب مثل القدر، ........ "
تخيّل معي عزيزي القارئ هذه الحوارية الجميلة، التي تدعوك مجددًا لقراءتها لفهم حوارٍ غير مقصودٍ بين سميحٍ وساروتٍ... بين مطالبٍ بالحرية، وبين معاتبٍ "يا حيف" لإخوانه. حوارٌ بينَ مَن ترك بلده قبل عقودٍ هربًا من وَقْع كلماته، ومَن ترك ملاعب كرة القدم هربًا من تأنيب ضميره.
لك أن تأخذ كلمات شقير الآن وتعيد التفكير بها مجددًا وتُسقطها على أي سياقٍ عربيٍ ترغب به، لتجدها ملائمةً وتصف حالة هذا السياق بدقّةٍ عبقريةٍ متناهية. ولكَ أيضًا أن تأخذ مَطالب الساروت، وتفكرَ بها مليًا، لتجد أنها مطالب أغلب الشعوب العربية، إن لم تكن كلّها.
ومن هُنا فإنني أُعلن عن نشيدٍ وطنيٍ عربيٍ موّحدٍ، يحاكي رغبات الشعوب وآمالها وتطلّعاتها وطموحها من أقصى شمال إفريقيا هناك عند المحيط الأطلسي ومضيق جبل طارق، لإقصى جنوبها هناك عند بحر العرب والخليج العربي. وإن هذا النشيد، يعود فضله لشقير والساروت، وسيتم استعماله في كلّ المحافل الوطنية والدولية والثورية، وكل الأعياد الرسميّة وغير الرسميّة. وسيكون موجودًا في كلّ المناهج، وعلى كلّ أبواب المنازل، وفي كلّ القنوات التقليدية وغير التقليدية، وعندها لن يستطيعوا الزجّ بكلّ سكان هذا العالم العربي المَقيت في السجن...
يقول النشيد:
" طيب إذا بنرجع... توعدنا تسمعنا؟ ماشي يللا اسمع، هاي مطالبنا..
أطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟؟
بدنا دم الشهداء...
وزخ رصاص على الناس العزل يا حيف!...
ضربونا يما بالرصاص الحي..... متنا..... بايد إخوتنا باسم أمن الوطن
بدنا الصبح والعصر، تمرق وتفقدنا...
واحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبو.... خاين... يكون مين كاين....
ولسّا الشعب بدّو... ترحل وتتركنا".
عزيزي القارئ، لا خاتمة لهذا المقال إلا بعد تبنّي النشيد الوطني المرفق أعلاه.
صورة بوابة الجامع الأموي الكبير في دمشق، موقعة ومؤرخة بالنص: "ج. باورنفايند/دمشق/ميونخ 1890"، زيت على لوحة خشبية. تم رسمها في ميونخ عام 1890.
أحمد ياسين
ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.