مهما كانت النّتائج فقد اعتدنا مواجهة الصعاب
من باب التّحليل، لا يبدو هناك رأي عام إسرائيلي شامل معني بتغيير نتنياهو ولا نهجه، كما لا توجد قوة معارضة مؤهلة لإحداث هكذا تحوّل، وفي حال سقط نتنياهو شخصيًا سيبقى النّهج الحاكم مع تعزّز لقوة اليمين الصّهيوني الاستيطاني -وهذا قد يحصل. في حال جرت انتخابات خامسة وبقي نتنياهو في حكومة انتقالية، سيدخل عامل قوة كبير الأثر على السّاحة الإسرائيليّة ولحساباته الخاصة الجيوسياسيّة المتعارضة مع أولوياته، وأقصد الإدارة الأميركيّة برئاسة بادين، لتسعى إلى إسقاط نتنياهو كما فعلت في حينه مع شمير، مع التأكيد أنّ العلاقات الأمريكيّة الإسرائيليّة ثابتة متحيّزة وأقوى من أنّ تحدّ منها الإدارات. في هكذا وضعيّة سيكون نتنياهو أكثر قابلية للابتزاز من حزبيّ "بينيت" و"سموطريتش-بن غفير"، ومهما كان، فلا نتوقع أي تحول إيجابي من الحالة الإسرائيليّة لا تجاه قضايانا في الدّاخل ولا حقوق شعبنا الفلسطينيّ، ومهما حصل سنعتمد على قوتنا التي لا نستهين بها.
لكن ما يشغلني حقيقةً ليس النّتائج الإسرائيليّة العامة، الّتي مهما كانت فلا يمكن التعويل عليها. يشغلني الوضع المقلق في الدّاخل الفلسطيني، إذ إنَّ هناك مسعى متكامل ومتعدّد الأطراف في إحداث شرخ مجتمعي لتسهيل محاصرة التّيار الوطني بشقيّه سواء الّذي يعتمد العمل البرلماني أم الّذي يقاطعه. تم حظر الحركة الإسلاميّة برئاسة الشّيخ رائد صلاح وسجنه، وهناك من اعتبر أنَّ هذا هو العصر الذّهبي بالنسبة له ليتحدث سياسة باسم الدّين والتّقاليد والمجتمع، وأنه في حلٍّ من التّقاليد الكفاحية التّاريخية الّتي تسير عليها الجماهير العربيّة طرحًا وممارسة، وتنشغل المؤسسة الصّهيونية باستمرار في السّعي لنزع شرعيّة القيادات العربيّة بين جمهورها، والتّرويج لنموذج مخالف من القيادات والنّهج.
ما نشهده اليوم هو مسعى منظم لإحداث انقلاب في النّخب العربيّة القياديّة، وفيه تلتقي مصالح نخب غير قليلة ومصالح الدّولة وعقيدتها الصّهيونيّة الحاكمة، ومع هذا لا أقبل لا بخطاب التّخوين ولا التّكفير ولا الإلغاء، لكن تصويب المسار وتثبيت وتعزيز النّهج الوطني ومن يراهن على الدّولة، ستردعه الدّولة من مراهنته لكن بعد حين، وحيث لا ينفع النّدم لأنَّ الثّمن تدفعه الناس. وضعيتنا كفلسطينيين مواطني إسرائيل ليست نتاج سوء تفاهم أو أداء! ولذلك فإنَّ من يتحدث عن تغيّير الأداء يحيل مسؤوليّة وضعنا على هذه الجماهير ضحية الواقع الاستعماري الاحتلاليّ الاستيطاني العنصريّ.
إنَّ التقاء المصالح بين قوى داخل الجماهير العربيّة الفلسطينيّة ممثلة بالنهج غير المسبوق في المجاهرة به من قبل رئيس القائمة العربيّة الموحدة د. منصور عباس، وبين سياسة الدّولة الّتي يقودها نتنياهو، واعتقد أنه منحى بدأت تتضح مؤشراته منذ العام 2013 وانتخابات بلدية النّاصرة في حينه. التّحدي أمامنا كمجتمع وأبعد من الانتخابات هو أن لا نرتضي ولا بأية حال بأنّ نطبّق على أنفسنا نموذج أحزاب ونخب الحرديم، الّتي تتساوق مع الفكر الصّهيونيّ وتحاصر جمهورها في الكنس والمدارس الدّينية وتتلخص طلباتها بالميزانيات، نحن لدينا قضية شعب، أما المؤسسة الإسرائيليّة الحاكمة فإنها تنظر إلى الصّورة الواسعة، وهدفها من إضعاف قوة جماهير شعبنا هو مركب من مشروع أوسع، أي القضاء على أية إمكانية حل عادل للقضية الفلسطينية. إنه مسعى إسرائيلي لهندسة نخب فلسطينيّة جديدة تنظر إلى داخل جمهورها وأحواله المعيشيّة الأساسيّة اليوميّة، وعدم الانشغال بالصالح العام الفلسطينيّ والرّبط بين مركباته. ولذلك تخصّص دورًا خاصًا لشركائها من دول التّطبيع العربيّ للدفع بهذا الاتجاه.
تقع في خلفيّة موقف الدّولة حقيقة أنه ما كانت الأزمة الحزبيّة الإسرائيليّة بهذا العمق وتكرار الانتخابات مرات عدة لولا قوة تمثيل القائمة المشتركة الّذي تعتبره الدّولة فائض قوة غير مجاز، ولهذا يجري استهدافها مباشرة من خلال خلق مصالح لدى شرائح مجتمعيّة وسياسيّة تكون معنيّة بذلك، لهذا فإنّ انشقاق الموحدة عن المشتركة هو نتاج نهج هادف وليس خلافًا أو سوء تفاهم أو تهجمات شخصيّة.
رغم بقائها الإطار الوحدوي الوحيد، فقد فقدت القائمة المشتركة من هيبة الدّور، وهذا قد يتعزّز بعد الانتخابات وبالإمكان تدارك ذلك في إعادة النّظر بالمرجعيات والدّور الشّعبي، والمقصود بناء أطر تشاورية تشاركية إلى جانبها، إضافة لاعتماد لجنة المتابعة فعليًا كمرجعية وعدم منافستها على المكانة. بل هناك الكثير من المسائل السّياسيّة الّتي تواجه التّمثيل العربيّ في الكنيست ممكن احالتها للنقاش في لجنة المتابعة بكل مركباتها واتخاذ موقف معتمد.
إنَّ انتصار النّجومية الفرديّة على التّنظيم الحزبي قد بلغ طريقًا مسدودًا، ولم ينجح خطاب التّأثير الواعد إذ لم يعتمد على النّضال الشّعبي والمرجعيات الجماعية، وهو ما قاد إلى توقعاتٍ عالية لحقتها احباطات كبيرة، وفي حال غياب بدائل سياسيّة إسرائيليّة حاكمة فإنّ منحى الصّدام مع الدّولة بقيادة أحزاب اليمين بات خطرًا حقيقيًا، وكلما كنا أقوى كلما ردعناهم. ولا بدَّ من حركة سياسيّة حزبيّة منظمة قادرة على المواجهة واطلاق روح المبادرة المجتمعيّة الكفاحيّة.
في خضم المسعى لإحداث انقلاب في النّخب القيادية– يُطرح السّؤال، هل سينجح المسعى؟ ليس بالضرورة، لكن لسنا بصدّد تحدٍ مؤقت وما نحتاجه غداة الانتخابات انطلاق وبلورة حوار وطني طويل الأمد وليس جلسة! والأفضل أن تقوم به لجنة المتابعة بكل مركباتها وبمشاركة أوساط ذات شأن من خارج الأطر الحزبية كي نطور آليات عملنا الّتي تتطلب تقييمًا شاملًا وانطلاقة، ومما يميّز جماهير شعبنا الفلسطينيّ في الدّاخل هو الطاقات الهائلة الّتي لا تنضب من أبنائها وبناتها الغيورين على المصلحة العامة لهذا الجزء من الشّعب ولكلّ الشّعب.
كاتب المقال: أمير مخول وهو كاتب وسياسي
أمير مخول
باحث في مركز تقدم للسياسات