ليلى ترتدي الوردي
تحطمت أسوار النجاة أمامها وفزعت مهرولة تبحث عن ذلك الضّوء البعيد، وقالت: "أنه بعيد جدًا ولكنه حقيقي" حقيقي في لمعانه وأيضًا عند الاقتراب منه؛ ولكن مع كل خطوة للتقدم ونيل حقها تتألم كثيرًا لتدفع أثمان مجتمعها الجاهل الأبوي الذّكوري المتسلط الذي يزركش حياتها وروحها بأشواك تنتشل تلك الرّوح الحيوية دون استئذان، وتفرض عليها الخضوع لسلطة العائلة والتّربية المزيفة التي تلعب دورًا في تنشئة حياتها حتى تغدو كآلة مبرمجة وفق عادات وتقاليد مُلطخة بالدّماء.
قاومت دون استسلام وتنازل عن قرارها بالهروب من البيت، من تلك المنظومة التي تقتحم معالم جسدها بأشكال العنف وأنواعه الإجراميّة التي خوّلت الصّلاحيات للأب، والأخ، والذّكور في العائلة لترأس الهرم الطّبقي واقتحام الكينونة الإنسانيّة إذ قالت: "ودّدت لو أفلت صوتي وأطلق صرخة واحدة ولكن حنجرتي لم تسعفني، وبعد أن أنهى وخرج بقيت كلماته تطن في أذني سرك معي، وعليك الصّمت وإلّا القتل".
نعم هذه الإنسانة تعرضت لجريمة الاعتداء الجنسي داخل العائلة! من الأب، والأخ وهي الآن تدفع الثّمن، هل هذا عدل؟! يباغتها أبوها أثناء نومها في اللّيل ويعتدي عليها حتى أصبحت تعاني من نوبات فزع شديدة ولا تنام إلّا في مقاعد المدرسة. يقتحم أخوها باب غرفتها ويلامس نهديها وفخذيها، ويقوم بالاعتداء عليها بالأعمال المشينة دون توقف.
بدأت التّساؤلات تطاردها من كل حدب وصوب عن كيفية الفرار من هذا الواقع الأليم المشبع بالموت، والخوف، والتّهديد، والصّراعات النفسيّة، والصّدمات المتراكمة والمتكرّرة، ولكن كيف؟ عندما يفقد المرء الثّقة والأمان في البيت يفقدها بكل مكان آخر. العائلة هي الدّائرة الأولى المحيطة لجميع الأفراد والتي من شأنها أن تعزّز الإنسان خارجها أو تدمره، فكيف لها أن تثق بمؤسسات المجتمع المدني أو مكاتب الشّؤون الاجتماعية، أو الشّرطة أو حتى المستشارة أو المعلمة في المدرسة؟ كيف لها أن تشارك الغرباء عن كلّ ما مررت بها من اضطهادات واختراقات لذاتها وهي فقدت الثّقة منذ الطفولة ببيئتها الأولى؟
بحثت ليلى من خلال هاتفها النّقال البسيط عن جمعيات أو مراكز لمؤازرتها في هذه المحنة، بداية اختارت اسمًا مستعارًا للحفاظ على السّرية، وجدت الأذن المصغيّة والمتفهمة والأمان من خلال المكالمة الهاتفية التي أجرتها مع متطوعة في مركزنا، فقد تم إعطاء الشّرعية لمشاعرها الصّعبة واحتواء ما تمر به، واقتراح خدمات متوفرة في مجتمعنا لمحاولة الخروج من قوقعتها المظلمة. بعد محادثات عدة قررت التّوجه إلى الشّرطة بمرافقتنا لأخذ الخطوة الأولى للعيش بكرامة، فبدأت تلك التّساؤلات الأليمة والتَحقيقات التي تدقق التفاصيل بموضوع بالنّسبة لها "تابو" (مُحرم اجتماعيًا) فتتبلور سياسة القمع والتّضليل لتشكل هوية سائدة تخدم مصالح ذكوريّة وقمعيّة كونها فلسطينيّة تعيش تحت الاحتلال.
وفي مركز الشّرطة، هل يخيّل لنا جميعًا أو سألنا أنفسنا مرة عن شعور فتاة لم تبلغ السّادسة عشر من عمرها، عليها أن تواجه مواجهة مباشرة منصات ذكوريّة مجحفة، ومظلمة تبرر العنف والعقيدة والتّفرقة والعنصريّة؟ ويجب عليها التّطرق ووصف بالكلمات المباشرة أدق التّفاصيل الجنسيّة الّتي من شأنها أن تعيد إحياء المواقف الأليمة والقاسية المرة التي مرت بها، دون فهم عميق لوقع العنف والاعتداء على ذاتها، وتخبطاتها، ومشاعرها أو حتى أخذ حيّز نفسي لإنكار الذّات.
قررت ليلى الهروب من البيت لنيل الحريّة على جسدها وروحها، وعدم اختراق خصوصيتها من الاعتداء الذي تعرضت له من قبل أقرب الأشخاص لها، وبتلك الصّلاحيات المخولة لهم من المجتمع بطريقة غير مباشرة لتخدم مصالح تحطم نفسيتها وكيانها، وتُشبع كبرياء الذّكورية التي لا يعرف مفادها أصلًا إلّا جنسيًا.
مجتمعها الذي يشملنا جميعًا "نحن" الأفراد، يلقي عليها ألقاب سطحية ملونة وفاسقة لا تمت للواقع بصلة، هذه التّصرفات والعبارات المتحجرة في العقول الصّارمة والخشنة المرصدة بإحكام للابتعاد عن الحقيقة، والمعرفة، والعدل، والمساواة، والتي يكون هدفها المركزي هو الحفاظ على سياسة القطيع.
في النّهاية، كان عليها الاختيار إما الصّمت أو دفع أغلى الأثمان وهو حياتها، اجتاحت الصّراعات باطنها وتفكيرها على مدار سنوات حتى قرّرت النّهوض بحياتها وقالت: "أشعر أنني لم أكن ولم أعيش يومًا، وما فائدة حياتي ففي الحالتين هنالك ثمن سأدفعه، وقررت دفع ثمن حريتي ربما أعيش ويحالفني الحَظ؟"
هذه قصة فتاة من قضايا عدة لتحرشات جنسية داخل العائلة التي تكشف الجرائم التي تمت وتتم بشكل مستمر داخل بيت المُعتدى عليها. فإن نسبة التّحرشات الجنسيّة داخل العائلة وصلت لحد 76% هذا وحسب التّقرير السّنوي لعام 2020 الصّادر عن مركز مساعدة ضحايا الاعتداءات الجنسية في جمعية نساء ضد العنف، فَعلينا فَك هذا اللّغز الذي يُهدد أمان وثقة الفتيات من تضليل مفاهيم المنظومة الأولى وهي العائلة المصغرة.
تعالت الهتافات في المجتمع التي تطالب وَقف العنف ضد النّساء والفتيات، وتهدف لدفع سيرورة التّغيير المجتمعي لتحصيل تغيير نسوي حقيقي ومساواة جندرية حقيقية.
أنهي مقالي هذا باقتباس من أقوال الكاتبة النّسوية القديرة نوال السّعداوي:
"الضّمير الحي يتكون منذ الطّفولة، حين يتربى الطفل أو الطفلة على العدل والحريّة وشجاعة التّعبير عن الرّأي، لكن التربية الدّينية والسّياسية في أغلب بلاد العالم لا تكوّن الضّمير الحي بل إنها تقتل الضّمير بالخوف والتّخويف من العقاب من أصحاب السّلطة في الأسرة أو المدرسة أو الدّولة"
كاتبة المقال: رزان بشارات، وهي عاملة اجتماعية ومركزة منصة الدّردشة بمركز مساعدة ضحايا العنف الجنسي والجسدي – نساء ضد العنف.
رزان بشارات
عاملة اجتماعية ومركزة منصة الدّردشة بمركز مساعدة ضحايا العنف الجنسي والجسدي – نساء ضد العنف