دليل الحائرين!
تقول القائمة العربية الموحدة؛ الذراع البرلماني للحركة الإسلامية الجنوبية، ما يلي: "لقد ذهبنا إلى البرلمان الإسرائيلي، ومن ثم إلى الائتلاف الحكومي برئاسة التوأم لبيد- بنيت، لتمثيل الفلسطينيين داخل إسرائيل، جمهور ناخبينا بالفعل وبالإمكان؛ ولأخذ دور مؤثر في معالجة قضاياهم العالقة بعامة، والحارقة بخاصة. ومعالجة هذه القضايا، العالقة منها والحارقة، تحتاج إلى قرارات حكومية وتشريعات برلمانية ومخصصات مالية غير مسبوقة. ومثل هذه القرارات والتشريعات والمخصصات المالية يتعسر أو يتعذر الحصول عليها بدون المشاركة في الائتلاف الحكومي". كما تقول القائمة العربية الموحدة، وإن كان ضمنًا أكثر مما هو صراحة هذه المرة: "لقد ذهبنا إلى البرلمان، ومن ثم إلى الائتلاف؛ للتصدي لأي تشريعات من شأنها المساس بمبادئ ديننا وقيمنا الأخلاقية والاجتماعية المشتقة من تلك المبادئ".
من الواضح، إذن، أن شعار الواقعية السياسية والتأثير الذي نادت وتنادي به القائمة العربية الموحدة يقوم على ركيزتين أساسيتين هما: التأكيد على قيم مجتمع عربي محافظ اجتماعيا وفكريًا، وتحصيل أكبر قدر من المخصصات المالية اللازمة لمعالجة قضاياه العالقة وإزالة العوائق القانونية والإدارية التي تعترض طريق صرف تلك الأموال واستغلالها على الوجه الحسن. وبالفعل، فقد أفلحت القائمة الموحدة في استصدار قرارات حكومية وتشريعات برلمانية بشأن تخصيص مبلغ محترم من المال العام، تمامًا كما أفلحت في تحديد الأولويات بشأن القضايا التي تحتاج إلى المعالجة على المستويين القانوني/الإداري والمالي. ولا يجوز، وليس من المنصف، في اعتقادي، التقليل من أهمية ما أفلحت القائمة العربية الموحدة في تحصيله حتى الآن من مخصصات، أو وصف ذلك بالفتات. فالقرارات والتشريعات ومبالغ المخصصات "أصدق إنباء" من أحاديث المعارضين والمقارعين!
وإذا كان لا يجوز التقليل من أهمية ما حصلت عليه القائمة الموحدة، فإنه لا يجوز، في المقابل، التقليل من أهمية ما سكتت عنه أو أخفضت صوتها تجاهه من قضايا وطنية تخص فلسطينيي الداخل والفلسطنيين عمومًا. فليس خافيًا أن اتفاق الشراكة في الائتلاف الحكومي يخلو، مثلًا، من أية إشارة إلى إلغاء أو تعديل "قانون القومية"، والذي يكرس ويشرعن الفوقية اليهودية في الدولة، ويجرد فلسطينيي الداخل من حق تقريرالمصير (درة تاج الحقوق الجماعية/الوطنية). وليس خافيًا أيضًا أن اتفاق الشراكة المذكور يخلو، مثلًا، من أية إشارة إلى إستئناف مفاوضات جدية تهدف إلى حل الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي على أسس يقبل بها الطرف الفلسطيني. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن القائمة العربية الموحدة، الذراع البرلماني للحركة الإسلامية الجنوبية، تفصل، نسبيًا على الأقل، بين نوعين من القضايا، القضايا المدنية/الفردية والقضايا الجمعية/ الوطنية، وتعطي أسبقية، زمنية ومن حيث الأهمية، للنوع الأول على الثاني. اللهم إذا استثنينا قضايا وقيم المجتمع المحافظ.
مثل هذا الفصل ومثل تلك الأسبقية لا تقدر عليهما تلك الأحزاب التي تنضوي تحت سقف القائمة المشتركة. فالحامض النووي لكل من مركبات المشتركة يأبى الفصل بين المدني/الفردي والجمعي/الوطني، حتى لو انعطفت بعض كوادره نحو ذلك أو ضعفت له. بكلمات أخرى، القائمة المشتركة، وبكل من مركباتها، ورغم اختلاف الرؤى السياسية والاجتماعية/الاقتصادية، لا تستطيع ولوج عتبة المشاركة في الائتلاف الحكومي دون إلغاء أو تعديل قانون القومية أولًا، ودون استئناف المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على أسس قويمة ثانيًا. هذا كحد أدنى. وهذا يعني، فيما يعنيه، أن من بين الأحزاب العربية التي تمثل فلسطينيي الداخل، وحدها القائمة العربية الموحدة، الذراع البرلماني للحركة الإسلامية الجنوبية، قادرة على فعل ذلك! لماذا؟ سؤال محير دون شك.
وللإجابة عن هذا السؤال المحير، علينا لملمة بعض التصريحات الصادرة عن قيادة القائمة المذكورة، وكذلك بعض ممارسات تلك القيادة، خلال السنوات القليلة الماضية، ومن ثم محاولة استنتاج ما أمكن منها:
تنادي القائمة الموحدة بالواقعية السياسية، تلك الواقعية التي تمكنها من التأثير بحده الأكبر أو الأقصى.
تنادي القائمة الموحدة بالمسافة الواحدة بين المعسكرين المتنافسين على الحكم في إسرائيل، معسكر اليمين واليمين المتطرف الذي يقوده نتنياهو ومعسكر الوسط واليسار المنافس الذي يقوده لبيد، ومن قبله غانتس.
وتقول قيادة القائمة الموحدة أيضًا: لقد أتينا إلى البرلمان الإسرائيلي (ولم نذهب إلى مكة!) لنمثل جمهور ناخبينا العرب، الفعليين منهم والمحتملين، ولندافع عن مصالحهم.
وخاضت القائمة الموحدة الانتخابات البرلمانية الأخيرة بمفردها، بعد أن هجرت القائمة المشتركة على خلفية الصراع حول قضايا إجتماعية/فكرية أساسًا.
وترى القائمة الموحدة أن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ليبرالية الهوى اجتماعيا/فكريًا، هي الخصم والمنافس الرئيس على أصوات وقلوب فلسطينيي الداخل.
وأخيرًا، تشارك القائمة الموحدة في ائتلاف حكومي يرأسه رئيس حزب يميني. وفي اتفاق الشراكة بين القائمة الموحدة ومهندس الائتلاف لبيد، لا ذكر للقضايا الوطنية الفلسطينية العليا. وبدلًا عن ذلك، تتمحور بنود الاتفاق حول القضايا الحياتية أو المعيشة لفلسطينيي الداخل، خاصة الحارقة منها، وحول ما يلزم لمعالجتها من مخصصات مالية وما يقترن بذلك من قرارات وتشريعات وإجراءات إدارية.
ما يمكن استنتاجه حول هوية والتزامات وأولويات القائمة العربية الموحدة من جملة التصريحات والممارسات المذكورة أعلاه هو التالي، أو ما يقارب ذلك: إعطاء الأسبقية، الزمنية وغير الزمنية، لمعالجة القضايا الدينية والاجتماعية/الاقتصادية لفلسطينيي الداخل على القضايا الوطنية الفلسطينية العليا. وهذا يوحي بأن التزامها تجاه القضايا الوطنية الفلسطينية العليا أقل متانة أو صلابة من التزامها تجاه القضايا من النوع الآخر. وولوجها عتبة الشراكة في ائتلاف حكومي دون اشتراط إلغاء أو تعديل قانون القومية وغيره من القوانين التي تكرس الفوقية اليهودية، ودون اشتراط استئناف عملية سياسية على أسس قويمة مع الطرف الفلسطيني، خير دليل على ذلك. وختامًا أقول: لو لم يكن المركب الوطني في الهوية الأيديولوجية للقائمة العربية الموحدة أقل سمكًا من المركب الديني/الاجتماعي/الاقتصادي، لما أعطت الأسبقية للقضايا المعيشية لفلسطينيي الداخل على القضايا الوطنية الفلسطينية العليا، ولما ولجت عتبة أو عتمة ائتلاف حكومي، ولما انشقت عن القائمة المشتركة أصلًا.
كاتب المقال: د. سعيد زيداني وهو أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت (سابقًا)
ملاحظة:
عنوان كتاب بالعبرية للفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون (Rambam).
استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات لـ [email protected].