الجسد والنفس والعقل.. ركائز التربية والتعليم وفق منهج ڤالدورف
منهج ڤالدورف ( الأنتروبوسوفيّ) في التربية هو أحد المناهج التربويّة البديلة المتّبعة في العالم، وفي هذه المقالة المقتضبة لن أستطيع شرح نهج ڤالدورف بشكل وافٍ ومفصّل، ولكن يمكن للباحث عن ماهيّته أن يقرأ في فلسفة رودولف شطاينر - مؤسّس تربية ڤالدورف والتيّار الأنتروبوسوفيّ- كذلك في الكتب الّتي تحدّثت عن التجارب الخاصّة لمربّي ڤالدورف على مرّ السنوات منذ التأسيس.
سأحاول هنا أن أعرض للقارئ أهمّ الأُسس والركائِز النظريّة الّتي يعتمدها المنهج، كذلك سأتطرّق إلى تجربة مَدرسة ڤالدورف العربيّة في شفاعمرو الّتي أديرها منذ ستّة أعوام.
يعتمد منهج ڤالدورف في التربية على ثلاث ركائز أساسيّّة:
الأولى؛ إنّ الإنسان يولد وحدة واحدة كاملة ومتطوّرة، ودور المربّي يكون في مساعدة وتحفيز الطفل على اكتشاف القدرات والمكنونات الموجودة داخله.
الثانية؛ لدى الإنسان ثلاثة أجسام، جَسد، نفس(مشاعر) وروح (العقل) وكلّ جسم من الأجسام له الغذاء التربويّ المناسب له والتوقيت الخاصّ به لتنشيطه.
أمّا الركيزة الثالثة، فهي السباعيّات، حيث يتمّ التّعامل مع الطفل وفق السباعيّة الّتي ينتمي إليها.
جيل الطفولة المبكّرة (الولادة لغاية سبع سنوات): الغذاء التربويّ لهذه المرحلة هو العمل على بناء جسد الطفل بشكل صحّيّ وسليم، بحيث يشعر الطفل بالأمان والقدرة على التعامل مع جسده، فيتركّز عمل المربّيات على التغذية السليمة، العضلات الدقيقة والغليظة، التوازن، الحواسّ من خلال برنامج يوميّ ثابت.
المرحلة الابتدائيّة (7-14)، تبدأ مع تبديل الطّفل أسنان الحليب، حيث يولد جسم النفس (المشاعر) في هذه المرحلة يتعلّم الأَطفال بأسلوب فنّيّ ومبدع يحرّك مشاعرهم، فالاستماع إِلى الأَساطير والحكايات القديمة الّتي تنتمي إلى الثقافات المختلفة، ومغامرات الأَبطال والصدّيقين وكفاح الشعوب عبر التاريخ يؤثّر تأثيرًا عميقًا في مشاعر الطفل، كما يتمّ من خلاله إرساء قاعدة أَخلاقيّة يُبْنى عليها تعليمهم.
المرحلة الثانوية (جيل 14-18): في هذه المرحلة يكون العمل على جسم "الروح"(العقل)، فيكون التعليم بأسلوب مجرَّدٍ ومباشر، وهنا يكون التعليم مشابهًا للطريقة التقليديّة المتّبعة في المواضيع الأساسيّة، باختلاف أنّه يعتمد بالأساس على التعليم عن طريق المشاريع (الجذور، المسرح، السيرة الذاتيّة) إضافةً إلى ورشات العمل كالنّجارة والحدادة وغزل السلال، وتظهر خلال هذه الفترة شخصيّة الطالب القويّة وإدراكه لقدراته.
منهج تربية ڤالدورف في جوهره علاجيّ يهدف إلى دعم التطوّر الصّحّيّ والمتوازن للأفراد، فيتمّ اتّباع منهج محدّد يلبّي احتياجات نموّ وتطوّر الطفل والمتغيّرات الّتي تطرأ على الطفل خلال نموّه، على سبيل المثال في جيل صفّ الأوّل للثالث تكون نظرة الطفل لسلطة المربّية (سلطة الأهل) غير قابلة للنقاش وطلباتها "مقدّسة" ينفّذها دون سؤال، أمّا في جيل صفّ الرابع فيبدأ الطفل بالاستفسار والسؤال والبحث عن المعرفة والهدف من وراء ما يُطْلَب منه، وعندها تحتاج المربّية إلى تغيير تعاملها مع الطفل وفق هذا التطوّر وتحوّل سلطتها إلى سلطة تفسّر طلبها وتشرح الأهداف من وراء أيّ طلب كي يتمّ احترام توجّهها.
مثال آخر، في جيل صفّ السادس يصبح تفكير الطفل أكثر واقعيّة ومنطقيّة، ويفضّل الوضوح بكلّ شيء، ونظرته إلى الأحداث تكون ثنائيّة الأبعاد، في هذه الفترة تتمّ دراسة الحضارة الرومانيّة الّتي تُعْتَبَرُ أكثر الحضارات واقعيّة.. كذلك يتمّ تعليم الرسم باستخدام الفحم، الذي يعمل على اللونَيْن الأبيض والأسود والضوء والظلّ وإنتاج اللون الرماديّ، حيث يستنتج الطالب أن الحياة ليست فقط ثنائيات.
ميزة أخرى لتربية ڤالدورف للعمل على الاتّزان النفسيّ للطفل هو مرافقة مربّية واحدة لسنوات عديدة، تكون بمثابة الأمّ والأب في المدرسة وذلك يمنحه الأمان والثقة، فالطفل والمربّية يعرفان بعضهما جيّدًا.
مدارس ڤالدورف موجودة في العالم منذ العام 1919، وفي دولة إسرائيل هنالك ما يقارب ثلاثين مدرسة، أمّا في العالم العربيّ فالعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ومدرستنا "ثمرة الزيتون" في شفاعمرو، هي المدرسة العربيّة الشاملة الوحيدة.
تُعْتَبَرُ تجربتنا فريدة من نوعها ولها خصوصيّتها ليس فقط كونها الأولى في المجتمع والعالم العربيّ، وإنّما بالأساس كونها تحاول تطويع منهج تربويّ أصوله في أوروبا لخصوصيّة الإنسان العربيّ عمومًا، وللأقليّة العربيّة في البلاد خاصّة.
تربية ڤالدورف تؤكّد أنّه على الطفل أن ينشأ في بيئته، يتعلّم حضارته وثقافة شعبه الخاصّة، ونحن نعمل جاهدين ضمن رؤيا واعية لنشأة جيل يحترم نفسه ومجتمعه، تاريخه وحضارته، بالإضافة إلى كونه إنسانًا يحمل القيم والأخلاق الإنسانيّة العظيمة. وفي الظروف الآنيّة الّتي يمرّ بها العالم عمومًا (التطوّر التكنولوجيّ، والبحث عن الفردانيّة والماديّات) ومجتمعنا العربيّ في الداخل خاصّة (تغلغل الجريمة والعنف وخسارة القيم والضوابط الاجتماعيّة) خصوصيّته كأقليّة الّتي تبحث عن ذاتها يعتبر تحدٍّ كبير، فمثل أيّة أقليّة بطبيعة الحال الشغل الشاغل للأهل هو انخراط أولادهم في التعليم الأكاديميّ يعتبر بمثابة خيط النجاة، وفي الطريق يبحثون عن التحصيل العلميّ أوّلًا ناسين أنّ ابنهم أو ابنتهم هو إنسان وكيان كامل من جسد وعقل وروح. وتربية ڤالدورف تعمل على الجوانب المذكورة بنفس القدر، وهذا لا يعني تغييب أهميّة التحصيل العلميّ، لكنّها نظرة شموليّة للإنسان، فالجسد هو بمثابة البيت الذي سيعيش به الطفل مدى حياته على الأرض، لذلك من الأهمّيّة بمكان أن تبنى أسسه بشكل قويّ، كذلك المشاعر والأحاسيس المرهفة الّتي تميّزنا كبشر هي أساسيّة ومهمّة، فنعمل في تربية ڤالدورف على الراحة النفسيّة للطفل، وقدرته على التعرّف والتعامل الصحيح مع مشاعره.
برأيي المتواضع، من الممكن أن يكون لمنهج ڤالدورف في التربية دور فاعل لحلّ المشاكل المجتمعيّة الّتي يعاني منها مجتمعنا في هذه الأيام، فالمعادلة الموجودة اليوم، حيث هناك تناسب طرديّ بين الزيادة في عدد المنخرطين في الأكاديميّة والارتفاع في منسوب الجريمة، يؤكّد احتياجنا لما نعمل عليه في مدارس ڤالدورف وهو التربية للقيم الأخلاقيّة العليا، والّتي يعيشها الطفل في حياته اليوميّة داخل الصفّ والمدرسة في سلوكيّات الكبار من حوله وفي المنهج التعليميّ، وليس فقط أن تكون المدارس مصانع للتحصيل العلميّ. وفي السنوات الأخيرة نلاحظ زيادة كبيرة في عدد الأهالي الراغبين في انخراط أولادهم في المدرسة مع ارتفاع ملحوظ بالوعي والإدراك لماهيّة تربية ڤالدورف وأهمّيّتها.
كاتب المقال: ذياب عكرية وهو مدير مدرسة ڤالدورف في شفاعمرو ومستشار تربوي سابقًا.