إسقاطات العنف والجريمة على صحتنا النّفسية كأفراد ومجتمع
يكادُ لا يمر يومٌ دون أن نسمع عن حادث إطلاق نار أو جريمة قتل في المجتمع العربيّ، بحيث تُظهر المعطيات أنّ نسبة المواطنين العرب الذين يُقتلون أكثر بثلاثة أَضعاف من نسبتهم السكّانية العامة. وأنّ حوادث إطلاق النّار أكثر بـ-12 ضعفًا ممّا هو عليه الحال في المجتمع اليهوديّ في إسرائيل (بادي حسيسي 2019). معطيات مُقلقة نلاحظها في السّنوات الأخيرة، وهي آخذة في التّفاقم. تُخلّف هذه الظّاهرة الكثير من الضّحايا وتُثير مشاعر الفوضى وتغيب الأمن والأمان في البلدات العربيّة وفي بعض المدن المختلطة.
علاقة المواطنين العرب مع السّلطة والصّعوبات الاقتصادية والاجتماعيّة التي يواجهها الشّباب العرب، انسداد الأفق أو أحيانًا انعدامه والرّغبة في الحصول على مراتب اجتماعيّة ومكاسب ماديّة فوريّة لكسب احترام المجتمع، والفكرة التي قد استحوذت على العديد هي أنّ العنف هو الطّريقة الشرعيّة لتسوية النّزاعات بين أبناء المجتمع المحلّيّ. جعلتِ هذه المعايير حتى الأشخاصَ الأسوياء يتورّطون في ممارسة العنف وحوادث إطلاق النار أيضًا.
هذا الواقع خلق حلقة سيئة تغذي ذاتها وتكبر وتطال ليس فقط المتورطين المباشرين إنما الجميع.
فمن منا ما سمع عن حادث في بيئة بعيدة ومع مرور الوقت أصبح يشهدها في بيئته القريبة، من لم يتعرض من ذويه بالخطأ للحصار في موقف مهدد للحياة وبالتالي من منا لا يحسبها مرة أو مرتين قبل الخروج من البيت؟
تشير البيانات أنَّ مجتمعنا يتحول شيئًا فشيئًا إلى مجتمع يعاني من عوارض اضطراب (التّالي للصدمة النفسيّة).
المصطلح العلمي الفعلي (الاضطراب التّالي للصدمة) PTSD يتميز بذكريات متكررة اقتحامية للحادث الصّادم السّاحق، وتتكرّر هذه الذّكريات لأكثر من شهر وتبدأ في غضون ستة أشهر من الحدث.
هذه الحالة النّفسية، والضّائقة الشّديدة تتطور بعد الأحداثُ التي تهدِّد بالموت، أو بالإصابة الخطيرة يمكن للأشخاص المُصابين أو الشاهدين (المصابين التاليين) أن يعيشوا الحدث، وتحدث لديهم كوابيس، ويتجنَّبون أيَّ شيء يذكِّرهم بذلك الحدث حتى الامتناع من الخروج ومزاولة روتينهم.
ويمكن أن تؤثِّر الأحداثُ المؤلمة، التي تهدِّد بالوفاة أو بإصابة خطيرة، في الاشخاص بعدَ فترة طويلة من انتهاء المعاناة. وقد يعاني النّاسُ من الحدث مباشرة (على سَبيل المثال، عندما يٌصابون بجروح خطيرة) أو بشكل غير مباشر (على سبيل المثال، عندما يشهد الشّخص جريمةَ قتل، أو يعلمون أنَّ أفراد الأسرة المقرَّبين أو الأصدقاء تعرَّضوا لذلك الحدث الأليم)؛ فالخوفُ الشّديد، أو العجز، أو الرّعب الذي واجهوه في أثناء الحدث الصّادم يمكن أن يطاردهم.
وتشتمل الأحداثُ التي يمكن أن تؤدِّي إلى اضطراب ما بعد الصدمة على ما يلي:
• الانخراط في القتال والمواجهات.
• التعرُّض للاعتداء الجنسي أو البدني أو مشاهدة ذلك.
• التّعرُّض للكوارث، سواءٌ الطّبيعية (على سبيل المثال، إعصار) أم من صنع الإنسان (على سبيل المثال الاجرام، حادث سيارة شَديد)
في اضطراب ما بعد الصّدمة، يكون لدى الأشخاص أنواع عدة من الأَعرَاض:
• أعراض اقتحامية (تغزو الحدث مرارًا أفكارهم بشكلٍ لا يمكن السّيطرة عليه).
• تجنُّب أي شيء يذكِّرهم بالحدث.
• تأثيرات سلبيَّة في التّفكير والمزاج.
• تغيُّرات في اليقظة وردود الفعل.
الأعراض الاقتحامية
ذكريَّات متكرِّرة غير مرغوب بها تعيد سيناريو الحدثَ الصّادم. كما تكون الكوابيس حولَ الحدث شائعة. ولكن؛ في أحيانٍ أقل من ذلك، يسترجع الأشخاص الأحداث كما لو كانت تحدث فعلًا (ارتجاع) بدلًا من مجرَّد تذكُّرها؛ فعلى سبيل المثال، قد تؤدِّي الألعاب النّارية الصّاخبة إلى تحريض ذكرى راجعة أو كون الشخص في قتال، ممَّا يَتسبَّب في أن يقومَ بالبحث عن ملجأ أو السّقوط على الأرض لحماية نفسه. وقد يصبح الأشخاص غيرَ مدركين تمامًا لمحيطهم الحالي.
غالبًا ما يواجه الناس ضائقةً عاطفية أو جسديَّة شديدة عندما يتعرَّضون لحدث أو وضع يذكِّرهم بالصّدمة الأصليَّة. ومن الأمثلة على هذه المذكِّرات الذكريَّات السّنويَّة للحدث الصّادم، ورؤية مسدَّس بعدَ التعرُّض إلى الضّرب بمسدس في أثناء سرقة ما، والوجود في قارب صغير بعد حادث غرق وشيك.
أعراض التّجنُّب والامتناع
يتجنَّب الأشخاص باستمرار الأشياءـــ الأنشطة، أو الظّروف، أو الأشخاص ـــ التي تذكرهم بالصدمة؛ فعلى سَبيل المثال، فإنهم قد يتجنَّبون الدّخولَ إلى حديقة أو مبنى للمكاتب حيث جَرَى الاعتداء عليهم، أو يتجنَّبون التحدُّثَ إلى أشخاص من نفس عرق المعتدي. وقد يحاولون تجنُّبَ الأفكار، أو المشاعر، أو المحادثات حولَ الحدث الصادم.
التّأثيرات السّلبية في التّفكير والمزاج
قد يكون الأشخاص غيرَ قادرين على تذكُّر أجزاء مهمَّة من الحدث الصادم (يسمى فقدان الذّاكرة الانفصالي أو التفارقي dissociative amnesia.)
وقد يشعرون بالخدر العاطفي، أو بالانفصال عن الأشخاص الآخرين. ويعدُّ الاكتئاب شائعًا ويُظهِرُ الأشخاص اهتمامًا أقلّ بالأنشطة التي كانوا يستمتعون بها سابقًا.
قد تصبح طريقةُ تفكير المصابين في الحدث مضطربة، ممَّا يؤدِّي بهم إلى إلقاء اللّوم على أنفسهم أو الآخرين عمَّا حدث. كما أنَّ الشعورَ بالذّنب شائع أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، قد يشعرون بالذّنب لأنهم نَجوا بينما لم ينجوا الآخرون. وقد لا يشعرون إلا بالمشاعر السّلبية فقط! مثل الخوف، أو الرّعب، أو الغضب أو العار، وقد لا يكونوا قادرين على الشّعور بالسعادة أو الرّضى أو الحب.
تغيُّرات اليقظة وردود الفعل
قد يجد المصابون صعوبةً في النّوم أو التّركيز. وقد يصبحون متيقِّظين إلى حدٍّ مفرط بالنّسبة إلى علامات التّحذير من المخاطر، أو يكونوا عرضةً للانزعاج بسهولة. وقد يصبحون أقلَّ قدرةً على السّيطرة على ردود أفعالهم، ممَّا يؤدِّي إلى سلوك متهوِّر أو نوبات من الغضب.
للاضطراب كما يبدو أيضًا تأثير جسدي حيث تشير الأبحاث إلى عوارض مثل الأزمات القلبيّة، الإسهال، أوجاع العضلات، الصّداع والخ.
• تقييم الطبيب، استنادًا إلى معايير محدَّدة
يُشخِّص الأطباء اضطراب ما بعد الصّدمة عندما:
• يكون المصابون قد تعرَّضوا مباشرة أو بشكل غير مباشر لذلك الحدث الأليم.
• تكون الأَعرَاض موجودة لمدَّة شهر أو أكثر.
• تسبِّب الأعراض ضائقة كبيرة أو ضعفًا ملحوظًا في الأداء.
• يكون لدى الشّخص بعض الأَعرَاض من كلّ نوع من الأَعرَاض المرتبطة باضطراب الكرب ما بعد الصّدمة (أعراض اقتحاميَّة، وأعراض تجنُّبية، وتأثيرات سلبيّة على التّفكير والمزاج، وتغيُّرات في اليقظة وردود الفعل(.
وكما ذكرنا أعلاه، شيئًا فشيئًا قد نمتنع من الخروج والاختلاط، قد نقلّل من لقاءاتنا الاجتماعية، وتبنى حياة جديدة يسمها البعد والفتور، وتفكك الحياة والتّكافل الاجتماعي مما يترك الميدان للجريمة والتّرهيب.
العلاج الذي يقدمه "البيت الموازن- مساحة" هو شامل ومتكامل ويشمل الطّبي والنّفسي، وعلاج بالزّراعة، والحركة، والتّصوير، والإبر الصّينية وغيرها، في بيئة ريفيّة خلابة محاطة بالجبال الخضراء، ومطلة على البحر ووادي الملك. أنواع العلاج المختلفة منها السّلوكي المعرفي، وعلاج الصّدمات والخ، تساهم في التشافي من الصّدمات النّفسية.
كاتبة المقال: سهير دقسة وهي عاملة اجتماعية مديرة "البيت الموازن- مساحة".