المجتمع العربيّ في مواجهة آفة "العنف والجريمة"
سنوات عجاف مرت على الأقليّة الفلسطينية في الدّاخل، التي واجهت ولا تزال تواجه الكثير من الأزمات الخانقة وفي مجالات الحياة كافة، تصدرتها في الأعوام الأخيرة الماضية آفة "العنف والجريمة" التي خلفت وراءها عشرات من العائلات المفجوعة ومئات الأيتام. العام المنصرم كان الأشد وطأة في المجتمع العربي، إذ فقدت فيه 113 ضحيّة حياتها، أما في العام 2019 قُتل 96 شخصًا، وفي العام 2018، 76 أخرين، معطيات مقلقة رصدها ولا يزال يرصدها "مركز أمان لمجتمع آمن" الذي يعنى بمكافحة العنف والجريمة والّذي تأسس في العام 2010، ليبيّن بالأرقام ظاهرة بشعة باتت تهدّد النّسيج الاجتماعي الفلسطينيّ في البلاد، مخلفةَ آثارًا كارثيّة في مختلف بلداته من أقصى الشّمال حتى أقصى الجنوب، وبوتيرة متزايدة كالنّار في الهشيم.
العنف والجريمة، بدايتها واستفحالها
ولاستيضاح خلفيّة هذه الظّاهرة وبداياتها كان لنا هذا الحديث مع رئيس مجلس كفر برا الأسبق الشّيخ كامل ريان الذي قال: "آفة العنف قائمة داخل المجتمع العربيّ منذ سنوات عديدة. وأذكر أنّ في العام 1983 حين اُنتخبت رئيسًا للمجلس المحلي في كفر برا، كنت واكبت هذا الموضوع عن كثب، وكان من الطّبيعي أن أواجه حالات مختلفة من العنف مثل: العنف التّربوي، والأسري، والنّفسي، غير أن هذه الظّاهرة تحولت في الأعوام الأخيرة من عنف إلى جريمة منظمة استفحلت في مجتمعنا وباتت تهدّد بشكل خطر جدًّا المستقبل والموروث الثقافي والأخلاقي للمواطنين العرب في البلاد".
وأشار ريان الّذي يشغل أيضًا منصب رئيس "مركز أمان- المركز العربي للمجتمع الآمن"، إنَّ عام 2000 كان بمثابة العلامة الفارقة في تفاقم آفة العنف ومن ثم تغلغل الجريمة داخل المجتمع العربيّ في البلاد"؛ قائلا: "لم نشهد جريمة قتل أو إطلاق رصاص حي إلّا في حالات نادرة جدًّا قبلها؛ في الوقت الذي كان يعاني المجتمع اليهودي من كثرة الجرائم في بلدات مختلفة بمقدمتها مدينة نتانيا. وبعد انتفاضة الأقصى عام 2000 وما تلاها من مشاركة فاعلة وقويّة لأبناء مجتمعنا بالدّفاع عن المسجد الأقصى والمقدسات، لاحظنا تحول من جهة السّلطات الإسرائيليّة بالتعاطي معنا، الأمر الذي عمق الفجوات، القائمة أصلًا، بين الدّولة والمواطنين الفلسطينيين في الدّاخل."
أما بخصوص الشّرطة الإسرائيليّة قال الشّيخ كامل موضحًا موقفه على أنها تتعامل كطرفٍ وليست كجهة مسؤولة عن أمن وأمان المواطنين العرب، كذلك من خلال استحضار حديث دار بينه وبين أحد أفراد الشّرطة الإسرائيليّة الذي قال له مرّة: "أنا مواطن يهودي قبل أن أكون شرطيًا". أي أنه يتصرف كطرف سياسي وليس مهني يؤدي دوره في الحفاظ على النّظام العام والأمان، بل طرفًا يتعامل مع المجتمع العربيّ من منطلقات سياسيّة عدائيّة."
ومن جهته أوضح الشّيخ كامل موقفه من عمل الشّرطة الّذي وصفه بالمتخاذل داخل الأحياء العربيّة "إذ أنها لا تقدم على فعل أي شيء سوى هدم المنازل بحجة البناء غير المرخص، أو جبايّة الأموال، الأمر الذي عمق من حالة انعدام الثّقة بين قوى الأمن والمواطنين العرب الفلسطينيين في البلاد، مما سهل دخول عصابات الإجرام للبلدات والأحياء العربيّة، خاصة في الأعوام الأخيرة الماضية."
انتشار الأسلحة في المجتمع العربي
في ظل التّفكّك الدّاخلي في المجتمع العربيّ دخلت علينا أنماط سلوكيّة غريبة عنا وعن موروثنا الثقافي والأخلاقي، ومنها ظاهرة اقتناء قطع السّلاح غير المرخص من جهات ثلاث وهي: من الأراضي الفلسطينيّة، وتهريب من الأراضي الأردنيّة واللّبنانيّة، ومن الجيش الإسرائيلي. وكل هذا يحدث بمبررات واهية كالحفاظ على سلامة الأسرة والممتلكات. ويرجع كل ذلك باعتقادي لغياب سلطة القانون والجهات المسؤولة عن انفاذه، إلى جانب تراجع سلطة الأب من النّاحية التّربويّة. فقد أظهرت الإحصائيات بأن 60 ألف شاب عربيّ ما بين 17- 25 عامًا هم خارج الأطر التّربويّة، والتّعليميّة، والتّشغيليّة مما يعني أن هنالك 60 ألف قنبلة موقوتة!"
وبدوره تحدث الشّيخ كامل ريان عن تجربته مع الجريمة التي اخترقت بيته وخطفت منه أحد أبناءه قبل 12 عامًا دون أي سبب؛ ذلك البيت الذي نهل من العلم والمعرفة والثقافة لسنوات، حيث يباشر الشّيخ كامل هذه الأيام تعليمه لنيل درجة الدّكتوراه، إضافة إلى زوجته التي تحمل اللّقب الثّاني في الشّريعة وأولاده الذين يحملون الشّهادات العليا أيضًا.
إقامة "مركز أمان لمجتمع آمن"
وبعد أن تيقن الشّيخ كامل أن الجاني الذي حرمه ابنه لن ينال عقابه، قرر أن يترك أمره لله، وأن يوجه جهوده لمواجهة الظّاهرة واستئصال دوافعها ومحاولة إيجاد حلول لها، الجهود التي أفضت إلى إقامة "مركز أمان" والعمل من خلاله من أجل الحد من تفاقم هذه الآفة التي خلفت وراءها مئات الضحايا والأرامل، وآلاف الأيتام.
"مركز أمان"، إلى أين؟
على الرّغم من المصاب الجلّل والحال المتفاقم لا يزال رئيس "مركز أمان" الشّيخ كامل ريان على قناعة تامة بأنّ الحل موجود، مؤكدًا على أهميّة توحيد الجهود والعمل بشكل جماعي في مواجهة الأزمات والتّحديات الكثيرة أمام المجتمع العربي الذي يعاني من الاضطهاد والقمع والاجحاف. قائلا: "نحن في "مركز أمان" نعمل منذ سنوات بالتّنسيق مع الكثير من الجهات الفاعلة في المجتمع العربي لمكافحة هذه الآفة من خلال بحث هذه الظّاهرة ورصد المعطيات، وتقديم الخطط والمقترحات لمتخذي القرارات ونسعى جاهدين لإيجاد الحلول من أجل الخروج من هذه الدّوامة المفرغة المقيتة."
الخلفيّة واحدة والضّحايا كثر
في سياق متصل، وفي حوار مع السّيدة وطفة جبالي من مدينة الطيبة، الأم الثكلى التي فقدت إحدى أبنائها جراء إطلاق النّار داخل دكان العائلة في المدينة يوم 2018/11/13؛ قالت فيه: "كانت الشّرطة تعرف بكل المشاكل التي دارت بيننا وبين المجرمين، لكنها لم تحرك ساكنًا حتى صارت الحادثة التي وقع ابني، الذي لم يتجاوز ال 26 عامًا حينها؛ ضحية لها."
وأضافت السّيدة وطفة أنها منذ ذلك الوقت وهي تجوب مراكز الشرطة والمحاكم حتى أدين الجناة الشهر الماضِ، أي بعد مرور حوالي ثلاث سنوات على الجريمة النّكراء. وبدورها لا تزال جبالي تشارك في جميع الفعاليات المناهضة للعنف والجريمة، والمندّدة بتقاعس السّلطات الإسرائيليّة وبمقدمتها الشّرطة، سعيًا "لتجفيف هذا المستنقع الذي غرق به مجتمعنا" على حد تعبيرها.
العنف والجريمة من المنظور النفّسي والاجتماعي
ولفهم أبعاد هذه الآفة من الجانب النّفسي والاجتماعي كان لنا هذا الحوار مع رئيس قسم الصّحة النّفسيّة في المستشفى الانجليزي بالناصرة الدّكتور نبيل جرايسي الذي استهل كلامه قائلًا: "بداية، هذه التّحولات ليست جديدة؛ بل هي سيرورة تعيشها الأقليّة الفلسطينيّة في البلاد منذ النّكبة حتى اليوم، لأنها هي التي شكلت الحد الفاصل. فالتّهجير، والتّرحيل، واللّجوء وعوامل كثيرة غيرها كافتقاد للبنى الفوقيّة والبنى التّحتية أحدثت هذه الظّروف. فوضى عارمة دفعت الكثيرين من أبناء الأقليّة الفلسطينية في البلاد إلى حالة من التّناقض الوجداني والتّفكك الاجتماعي، وهذا ما خطّطت له الدّولة، رغبة منها أن نبقى "حطابين وسقاة ماء"، والحقيقة أنها قد فشلت إلى حد ما بذلك ونجحت من جانب آخر.
وأضاف: "أنّ السّياسة الإسرائيليّة التّمييزية والعنصريّة أفضت إلى خنق البلدات العربيّة، حيث يعيش 60% من القاصرين العرب تحت سن 18 تحت خط الفقر مقابل الشّباب اليهود الذين يعيشون في رفاهية بعيدًا عن ضغوطات الحياة التي يواجهها الشّاب العربي"
كيف تؤثر هذه الظّاهرة على الحالة النّفسيّة والاجتماعيّة؟
قال جرايسي: "بصفتي طبيب يعمل بمجال الصّحة النّفسية بدأت أرى هذه الظّواهر منذ سنوات عديدة، فقد قدمت عام 1993 بحثًا دراسيًا بعنوان "العنف بالحياة السّياسيّة والاجتماعيّة لدى الأقليّة العربيّة"، من خلال أعمال المؤتمر الأوّل لمكافحة العنف بالمجتمع العربيّ، إضافة لمسح ميداني لدى معلمّي المدارس الثّانويّة العربيّة من الجليل مرورًا بالمثلث الشّمالي والجنوبي ووصولًا للنقب. ولاحظت جليًا بإطار العمل عليها، الزّحف الحاصل من حالات العنف على خلفيات اجتماعيّة لاقتصاديّة، ومن ثم تربويّة وأخلاقيّة".
وأردف: "أنَّ الأقليّة العربيّة في إسرائيل تواجه على مدى عشرات السّنين حالة من الحصار، والعزلة، والخنق، والاقصاء، والتّهميش. ويعود سبب ذلك لعوامل مدروسة ومخطّط لها بشكل ممنهج تهدف إلى فقدان السّيطرة على الكثير من الأمور التي بدورها تدفع الجيل الجديد للوقوع في هاويّة العنف والجريمة."
من المسؤول؟
وفيما يتعلق بالسّلطات قال الدّكتور نبيل أنّ هناك تقاعس من قبل السّلطة المركزيّة سواء في المكافحة أو الوقايّة من العنف تجاه المجتمع العربي، وأنّ هناك إهمال واضح في الجهود المبذولة لملاحقة الجناة وتقديمهم للقضاء.
واسترسل بأنه متشائم بسبب ركود القيادات العربيّة، مشيرًا إلى أنها لا تملك الحد الأدنى من البرامج والخطّط لمكافحة آفة العنف والجريمة وغيرها من الآفات المتفشيّة في المجتمع العربي. مضيفًا إلى أنها لا تملك القدرات، والآليات، والموارد والرّؤيّة السّليمة وأنها تكتفي بالتّصريحات والضّريبة الكلاميّة؛ مشيرًا الى أنّ التّغيير المرجو قد يأتي من الحراك الشّبابي المنتفض الذي بدأ يفرض نفسه بشكل واضح على المشهد الجماهيري المعارض تحديدًا في السّنة الأخيرة.
ماذا بعد؟
اختتم الدّكتور نبيل الحوار موجهًا رسالة، مشدّدًا فيها على ضرورة منح عائلات الضّحايا الدّعم سواء من الجانب النّفسي أو المعنوي، ومؤكدًا على أهميّة معاقبة الجناة، قائلًا بأنهم لن يتراجعوا عن طريق العنف والجريمة إلّا بالرّدع، والعقاب، ومن ثم التّأهيل التي سيتطلب رصدًا للميزانيات من قبل الجهات المسؤولة."
كتبت التّقرير: سناء مظهر عبّاس، حاصلة على اللّقب الأوّل في اللّغة العربيّة والإعلام- الجامعة العربيّة الأميركيّة، وطالبة تحرير وتدقيق لغوي.
سناء مظهر عبّاس
حاصلة على اللّقب الأوّل في اللّغة العربيّة والإعلام من الجامعة العربيّة الأميركيّة وطالبة لقب ثاني بتخصص تحرير وتدقيق لغويّ