هبّة الأقصى وحيّ الشّيخ جرّاح وصراع الإرادات
يتشكل تاريخ الشعب الفلسطيني بالأساس من مواجهات، وحروب، وانتفاضات، ومجازر، وهبات وثورات، وأحداث دموية كان آخرها هبّة الأقصى والشّيخ جرّاح 2021. فالتاريخ بالنّسبة للفلسطيني عبارة عن محطات مواجهة وصمود وتحد ورغبة في تعزيز البقاء والوجود من جانب، والتّحرر والتّحرير من جانب آخر، وفي كلّ مواجهة يمتزج الألم والغضب بأمل تحقيق الحرية والعدل والكرامة.
ورغم أنّ لكلّ محطة أو حقبة تاريخية أسبابها العينية ونتائجها وتبعاتها ودلالاتها الخاصة؛ إلّا أنَّ هنالك أسباب مفاهيمية عامة، وممارسات جامعة معروفة وواضحة كالاحتلال والاستيطان والتّنكر لحق اللاجئين، والإصرار على الفوقيّة اليهوديّة والحصار والتمييز والعنصرية والتطهير العرقي، والفصل العنصري تشكلّ أرضية خصبة لتواصل واستمرار الصّراع منذ ما قبل النكبة وحتى اليوم.
وفي كل مواجهة جديدة تتأكد ضرورة سرد الرّواية الفلسطينية ورفدها بحلقة جديدة من مسلسل التّضحيات تكون قيد التّبلور والتّشكل، تربط الفروع بالأصول والعيني بالعام، والراهن بالماضي والحديث بالموروث. ومن خلال هذه المساهمة المتواضعة سوف نقوم باستعراض الأسباب الرّئيسية التي أدت إلى الهبّة ومجرياتها، والنّتائج والعبر المستفادة منها مع محاولة لعرض بعض الأفكار في كيفيّة استثمارها.
هبّة الأقصى والشّيخ جراح جاءت في سياق اجتماعي وسياسي وثقافي معين، فكانت انطلاقة الشّرارة الأولى حينما وضعت قوات الشّرطة الحواجز والمعيقات في منطقة باب العمود في القدس في بداية شهر رمضان 2021 ومنعت المقدسيين من التّجمع بها، و تراجعت الشّرطة لاحقًا عن ذلك بعد رفض ومعارضة المقدسيين لهذا العمل الاستفزازي، الشّيء الّذي يذكرنا بتراجع الشّرطة وخضوعها لنضال المقدسيين قبل سنوات عدة، عندما وُضعت البوابات الكهربائية على مداخل البلدة القديمة.
وهذا الفشل المتراكم للشرطة والجيش لم يأتي إلّا نتيجة للصمود، والمثابرة، والإبداع في النّضال الشّعبي والجماهيري من قبل المقدسيين المرتبط بالحقيقة، والواقع، والميدان، والمدفوع بالرّغبة للتحرّر من الاحتلال.
وما دار في القدس وكما سيوضح لاحقًا هو عبارة عن صراع إرادات، وإرادة صاحب الحق أقوى من إرادة من يمارس القهر والطّغيان.
أما السّبب الثّاني الّذي أجّج الأحداث هو تنادي الفلسطينيين جميعًا من أجل منع حدوث نكبة جديدة لسكان حي الشّيخ جراح في القدس، الذين هُجروا من بيوتهم عام 1948 ومهددون بالتهجير مرة أخرى، وإدراك الفلسطينيين أن القضاء الإسرائيلي يواصل التّواطؤ مع السّياسة الإسرائيلية من أجل تحقيق إحدى الغايات الكبرى للسياسة الإسرائيلية، وهي توسيع الاستيطان الاحتلالي البغيض وتهجير وطرد السّكان الأصليين، بمعنى "" أرض أكثر وعرب أقل"". كما أنَّ تكثف حضور المستوطنين الفاشيين وجمعياتهم وقياداتهم في حي الشّيخ جرّاح، ورغبتهم وحضهم على طرد سكان الحي بدعم وتأييد من رئيس الحكومة ووزرائه كان بمثابة من يلقي بالماء على الزّيت السّاخن، وقد خاب ظن الحكومة حين اعتقدت أنه من الممكن الاستفراد بسكان حي الشّيخ جرّاح.
أما السّبب الرّئيسي والمركزي الّذي أثار الموجة الواسعة والغاضبة من الاحتجاجات والتّظاهرات من قبل الفلسطينيين في جميع مواقع تواجدهم، هو اقتحام قوات الجيش والشّرطة لساحات ومصليات المسجد الأقصى في شهر رمضان بأسلوب همجي مستخدمة كلّ وسائل القوة والقمع من أجل إهانة وإخلاء المصلين. من الجدير بالذكر بأنّ فلسطيني الدّاخل أبدوا حضورهم الفاعل ومشاركتهم في الدّفاع عن المسجد الأقصى والمقدسات الإسلاميّة والمسيحيّة من جانب، وتعزيز واسناد ودعم سكان حي الشّيخ جراح من جانب آخر. الشّيء الّذي جعل الشّرطة توقف الحافلات والسّيارات المسافرة للقدس في ليلة القدر لساعات طويلة في الشّارع الموصل بين تل- أبيب والقدس، مما أدى إلى غضب الصائمين والمسافرين الذين خرجوا من الحافلات وقاموا بالتّظاهر، ورفضوا الانصياع لأوامر الشّرطة بالعودة إلى بلداتهم، كما أن الشّباب المقدسيين قاموا بالحضور بسياراتهم إلى المكان ونقلوا المصلين في مشهد عزّز التّماسك والتّضامن بين أبناء الشّعب الواحد. وفي هذه المرة أيضًا تراجعت الشّرطة عن قرارها الاعتباطي وسمحت للمسافرين بالوصول إلى القدس بعد أن مسّت بحقوق الإنسان الأساسيّة كالحق في العبادة، والمعتقد وحرية التّنقل وممارسة الطقوس الدّينية... الخ.
لقد واصلت الشّرطة والجيش الإسرائيلي طيلة شهر رمضان اقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على المسجد، وعلى المقدسيين والمصلين وسمحت كلّ من الحكومة والشّرطة لعتاة المستوطنين المتطرفين بإجراء مسيرة استفزازية احتفالًا باحتلال القدس، والرّقص بالأعلام الإسرائيليّة في منطقة باب العمود والبلدة القديمة والدّخول للأقصى. الشّيء الّذي دفع المقاومة بغزة إلى التّدخل وإطلاق صواريخ للقدس. على أثر ذلك، شنت إسرائيل حربًا وعدوانًا داميًا وقاسيًا على قطاع غزة وسكانه استمر ١١ يومًا قتلت فيه المئات من الشّهداء وأصابت آلاف الجرحى، وأدت إلى تشريد أكثر من ٥٠ ألف مواطن غزي ودمرت البيوت والمنازل والبنى التّحتية، وقتلت عددًا كبيرًا من الأطفال والمدنيين، وهدمت الأبراج وقمعت الصحفيين ونفذت جرائم حرب.
في هذه الأثناء تواصلت الاحتجاجات الصّاخبة في الدّاخل شاركت فيها مجموعات كبيرة من جيل الشّباب في غياب القيادات السّياسية. ومما زاد من تصعيد الأوضاع دخول المستوطنين الفاشيين إلى مدن السّاحل وإطلاق النّيران على المتظاهرين وعلى البيوت؛ الأمر الّذي أدى إلى استشهاد الشّاب موسى حسونة من مدينة اللّد برصاص مستوطن.
إنَّ استشهاد حسونة وحضور قوى المستوطنين إلى مدن السّاحل، والمدن العربيّة التّاريخية وعمليات الاعتداء الوحشي والهمجي من قبل عصابات المستوطنين والمتطرفين العنصريين الفاشيين. حيث تم الاعتداء على المحلات التّجارية والسيارات التي بملكية عربية والمشاة والسّكان، والبيوت، والأماكن المقدسة. وكانوا يهتفون بالموت للعرب والاعتداء وتهديد السّكان، واستمرار العدوان على غزة أجّج المواجهات في مدن السّاحل وفي البلدات العربيّة، إذ عزّزت الشّرطة من تواجدها واستفزازها للمواطنين العرب وقامت بتنفيذ حملات اعتقال تعسفي لمجموعات كبيرة من الشّباب والقاصرين والقيادات السياسية، وعلى رأسها الشّيخ كمال الخطيب رئيس لجنة الحريات في لجنة المتابعة، ونائب رئيس الحركة الإسلاميّة الشّمالية المحظورة إسرائيليًا.
هنالك سببين إضافيين ساهما بتطور الأحداث وتصعيدها وهما عدم الاستقرار السّياسي في إسرائيل نتيجة لعدم وجود حكومة منتخبة بعد اجراء أربع جولات انتخابية. أما السّبب الأخر فهو إلغاء إجراء الانتخابات التّشريعية الفلسطينيّة من قبل الرّئيس محمود عبّاس، بذريعة أن إسرائيل رفضت مشاركة المقدسيين في الانتخابات، ويشار في هذا المضمار إن دور السّلطة الفلسطينيّة في هذه الهبّة كان دورًا هزيلًا ومترهلًا.
لا يمكن استعراض مجمل النّتائج والعبر والتّبعات التي يمكن استنتاجها واجتراحها من هذه الهبّة ، ولكن يمكن القول أنها أعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى رأس سلم جدول الأعمال المحلي والإقليمي والعالمي، وكثرت المظاهرات والاعتصامات في الدّول العربيّة والإسلاميّة والأجنبيّة متضامنة مع الحق الفلسطيني. وازدادت الأصوات المندّدة والمستنكرة التي جاءت من كل أرجاء العالم في مشهد كان قد غاب لسنوات عدة، كما عّززت الهبّة تماسك مركبات الشّعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده. وعلى مستوى فلسطيني الدّاخل انكسر مرة أخرى حاجز الخوف من خلال المشاركة في التّظاهرات والإضراب والتّواجد بالقدس وإبراز الهُويّة الفلسطينيّة كهُويّة مركزيّة، ورفض فكرة ""التّعايش الموهوم"" الذي لا يستند إلى قيم الاعتراف والحريّة والكرامة والمساواة، كما شكل العرب في مدن الساحل خط التّماس الأوّل مع قوى الشّرطة والمستوطنين.
لقد كشفت هذه الهبّة فشل تصور رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإدارة الصّراع من خلال تحايد وتجاهل الفلسطينيين، والتّطبيع مع بعض الدّول العربيّة وتقديمه فكرة ""السّلام الإقليمي"" أو ""السّلام الاقتصادي"" أو ""السّلام مقابل السلام""، وانتهاز حالة الانقسام الفلسطيني ومعارضة حق الفلسطينيين بالتّحرر دون عرض أو قبول أي أفق سياسي. وإذا كان الرّئيس الأميركي السّابق ""دونالد ترامب"" المعادي للشعب الفلسطيني، والصّديق والحليف الحميم لإسرائيل قد صرح بعد مائة عام على تصريح بلفور، وبعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل قائلًا: ""رفعنا القدس عن طاولة المفاوضات، وعلينا ألّا نتحدث عنها الآن""، وها هي القدس تعود لتتحدث عن نفسها مؤكدة أنها قادرة على توحيد الشّعب الفلسطيني وأحرار العالم. أما فيما يتعلق بدور المقاومة في قطاع غزة فقد نشأت علاقات قوة وردع جديدة حيث فاجأت المقاومة الجانب الإسرائيلي بقدرتها على المواجهة والصّمود، مما منع الجانب الإسرائيلي حسم المعركة أو تحقيق أهداف استراتيجية أو حتى الحصول على أي صورة انتصار. ولذلك ليس من المستبعد أن تحدث مواجهة جديدة في الفترة القريبة.
من الضّروري استثمار هذه اللّحظة التّاريخية من أجل إعادة الرّبط بين الشّعب والأرض والقضية، وإعادة وحدة الشّعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وإعادة بناء وتعزيز المؤسسات والمرجعيات الفلسطينية وخصوصًا إعادة بناء منظمة التّحرير الفلسطينيّة، وتفعيل دورها والاتفاق على مشروع سياسي وطني موحد وجامع يمثل طموح وتطلعات وحقوق الشّعب الفلسطيني الثابتة وغير القابلة للمساومة. وقد أكدنا أكثر من مرة إلى أنه لا يمكن إحداث أي تغيير جوهري في تقدم القضية الفلسطينية دون وجود رؤية واضحة ومتفق عليها، وقيادة موحدة تحظى بثقة المجتمع واستراتيجيات نضال متعدّدة ومتكاملة تساهم في تحقيق الأهداف والغايات المشتقة من الرّؤية التي هي المشروع الوطني الفلسطيني.
تصوير: طارق بكري