نافذة على اضطراب طيف التوحد

تشير الأبحاث إلى أن اضطراب التوحد (ASD-Autism Spectrum Disorder) ينتج غالبا عن دمج بين مسببات جينية وأخرى محيطية التي تؤثر على التطور المبكر للدماغ. يتميز أشخاص على طيف التوحد باستيعابهم العالم بشكل مختلف ومميز حسيا، عاطفيا واجتماعيا وكونه اضطرابا طيفيا معناه أن كل شخص يملك مجموعة خاصة من القدرات والتحديات.

تظهر الأعراض الأولية من جيل عدة أشهر، الأعراض الجلية تظهر في عمر ١٨ شهرا تقريبا، في بعض الحالات نرى تطورا نموذجيا حتى جيل سنة أو سنة ونصف، يليه تراجع سريع في مهارات اللغة، الاتصال واللعب.

تشير الأبحاث إلى أهمية التدخل المبكر والذي يضمن تقدم الطفل من ناحية تطورية وأدائية لاحقا، ومن المهم التشديد أن دعم وإرشاد الأهل والعائلة وتكثيف مشاركتهم من خلال خطة علاجية تربوية ملائمة لاحتياجات الطفل هو عامل أساسي ومركزي لضمان التقدم.

ماذا يحدث؟ ما الذي يُقلِق الوالدين ويثير شكوكهم؟

هناك تعابير نسمعها من أمهات وآباء أثناء توجههم لأخصائيات في المجال، تعكس توجه مصحوب بكثير من القلق.

ففي عصر العولمة نميل للتعامل مع كل معلومة كتشخيص. فهل فعلا كل ادعاء يشير إلى طيف التوحد؟

""ابني/بنتى تأخروا بالحكي""

""ابني/بنتي كانوا يحكوا والكلمات اختفت""

""ابني/بنتي من دون اصحاب بالحضانة""

""ابني بضل يلّف عجلات السيارة ويتطلع عالغسالة لما تدور""

""بنتي بتشاركنيش لهفتها لما تطعمي اللعبة، هي بس بتطعميها""

""ابني/بنتي، ما بردّوا عليّ لما اناديهن، بتطلعوش بوجهي لما بدهن يطلبوا اشي, بعرفش شو بدهن, بنادوش علي ماما/ بابا حتى ما بأشروا بأصبعهن على شو بدهن، بوخدوني من ايدي للغرض اللي بدهن إياه...بضحكوش معي، بشدّوش فيي نلعب سوا، كل الوقت صافنين او يبكوا، كأنهن عايشين بعالم لحالهن"".

حسب التعريف الأخير للدليل التشخيصي الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي (2013)، يُعَرَّف التوحد كطيف من الاضطرابات النمائية العصبية (Neurodevelopmental disorder)، والذي يدمج أربع مجموعات مختلفة من الاضطرابات كانت معروفة سابقا بتعريفها للتوحد. التعريف الحالي يتطرق إلى أن هذا الاضطراب يتميز بمستويات مختلفة وواسعة لصعوبات في مجالين رئيسيين:

١. التواصل والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين

٢. ظهور سلوكيات نمطية، اهتمامات محدودة ومتكررة.

كثيرا ما يكون اضطراب التوحد مصحوبا بتحديات حسية وعاطفية (اضطرابات في التغذية، في النوم، قلق، اكتئاب وتحديات سلوكية)، وذا احتمالات أكبر لصعوبات ومشاكل صحية مرافقة (في الجهاز الهضمي، صرع، صعوبات في الانتباه والتركيز..).

نتحدث إذن عن اضطراب لأن تشخيص التوحد يستند على ظهور سلوكيات محددة وبنسبة معينة وأيضا، باضطراب التوحد، خلافا للمرض، لا مجال للتحدث عن ""علاج"" بهدف ""الشفاء""، إنما نتحدث عن تدخل علاجي موجه للعوارض والتحديات الأدائية الناتجة عنه.

لذلك ليس كل اختلاف يدل على تأخر أو اضطراب، بحال وجود شكوك، مهم جدا التوجه إلى ""مراكز تطور الطفل"" بواسطة أطباء الاطفال والممرضات في مراكز رعاية الأم والطفل. يعمل في مراكز تطور الطفل طاقم متعدد المهن يشمل: طبيبة تطورية، أخصائية نفسية، معالجة عاطفية، أخصائية اتصال لغة ونطق، وأخصائية علاج وظيفي. عادة تستمر مرحلة التشخيص عدة لقاءات وذلك يتعلق بالمرحلة العمرية والتطورية للطفل.

بالمقابل مهم جدا أن نستمتع مع طفلنا، نلعب معه، نقلل من وقت الشاشات (وقتنا ووقته)، نتحدث إليه ونشاركه مغامراتنا المختلفة، ننضم إليه بما يحب تارة ونكشفه لما نرغب تارة أخرى، نشاركه اللهفة والمبادرة، وإذا كان هناك شك فممكن التوجه لأخصائية للمشاركة والاستشارة.

حتى السنوات العشرين الأخيرة، اعتبر التوحد حالة نادرة، ولكن في هذه الأيام هناك ارتفاع متسارع وتدل الإحصائيات (2021) على طفل من بين 44 طفلا في الولايات المتحدة، ومن الجدير بالذكر أن شيوع الاضطراب بين الذكور هو أربعة أضعاف شيوعه عند الإناث وهناك أسباب عدة من أهمها اختلاف شكل ومميزات التوحد عند الإناث عن مميزاتها عند الذكور، وبسبب أن معظم الأدوات التشخيصية تم ملاءمتها للذكور، أصبح من الصعب تشخيص الاضطراب لدى الإناث.

وفي المجتمع العربي الفلسطيني إحدى الصعوبات والتحديات هي عدم وجود معلومات وإحصائيات دقيقة ومحدثّة بالنسبة لشيوع الاضطراب. تشير الإحصائيات الأخيرة، من قبل عدة سنوات، إلى أن النسبة هي 1/250 - وهي نسبة منخفضة تعكس واقعا مريرا لقلة الخدمات التشخيصية، العلاجية والتربوية إلى جانب قلة الوعي المجتمعي.

النسبة المنخفضة لاضطراب التوحد في المجتمع العربي الفلسطيني توجهنا إلى أهمية المبادرة لدراسة شاملة للبنية العائلية، مخاوف الانكشاف، القلق من تحقق الشكوك، توفر الموارد، تقبل وجود صعوبات والتخلي عن اتهام الذات والأهم هو نقص الدعم المجتمعي في دوائره المختلفة.

في هذا المضمار تنشط في السنوات الأخيرة عدد من الجمعيات، أولها ""جمعية جسور لأشخاص مع توحد"" وهي أول جمعية عربية غير ربحية تعنى في التوحد، تأسست سنة 2016 من قبل أهالٍ لأشخاص مع توحد، اختصاصيين في المجال وناشطين اجتماعيين.

تهدف الجمعية إلى ضمان وإتاحة خدمات علاجية، تربوية وتأهيلية لأشخاص مع توحد في المجتمع العربي، إلى دعم ومرافقة العائلات، تطوير قدرتهم على المرافعة الذاتية والعمل على التغيير والوعي المجتمعي، وتعزيز مشاركة أشخاص مع توحد واندماجهم في المجتمع في مختلف جوانب الحياة.

جزء من هذه الأهداف يتم عن طريق مجموعات إرشادية علاجية للأهل بمجموعات صغيرة، مرافعة قانونية وبرلمانية حول ما يتعلق بالتوحد، تنظيم محاضرات وورشات للشرائح المختلفة في المجتمع.

الواقع مركب، فمن جهة نرغب بأن يلقى كل طفل العناية والرعاية التي يستحقها بينما يطرح الواقع الصارخ تحديات جمّة، من أبرزها شح الميزانيات وعدم توفر عدد كاف من الأخصائيات وبالتالي قائمة انتظار طويلة في مراكز تطور الطفل، من المهم جدا أن نستمر جميعا، كلنا من موقعه كقريب/ة عائلة، كأخصائي/ة أو كفرد في المجتمع في دعم الأهل والطفل، الإصغاء إليهم، لاحتياجاتهم وعدم إطلاقنا الأحكام، حتى نأخذ بيد الطفل وعائلته خطوة إلى الأمام.

ياسمين خطيب

أخصائية إتصال، لغة ونطق وعضوة هيئة إدارة جمعية جسور لأشخاص مع توحد

شاركونا رأيكن.م