محمود درويش الشاعر الإنسان: معنا أبداً

أجد صعوبة كلما نويت، أو فكّرت بالحديث أو الكتابة عن محمود درويش الإنسان، فهو بكل تأكيد لم يكن عاديًا بالمعنى البسيط للكلمة (وكيف يكون وهو من رسم كل هذا الإعجاز شعرًا ونثرًا ومقالًا وموقفًا). كان فائق الذكاء، لمّاحا فوق العادة، حاضر البديهة، متنبّهًا قلقًا، لا تفوته شاردة أو واردة، لا يمرِّر شيئا ببساطة إلاّ مع الأطفال، سريع التعليق، بحدّة أحيانا، ولكن دائما بظرف، حتى لو كان لاذعًا أو قاسيًا، وأهم من كل هذا، صاحب موقف لا يتنازل عنه؛ وخصوصًا بالأمور الكبيرة، لا يتهاون فيها بأي شكل.

التقيته أول مرة عام 1972 في منزل الخالة أم مازن (طرب عبد الهادي) في القاهرة، وكان دائم التردد على بيتها المضياف، حيث حديث الأدب والسياسة والفن، وحيث يلتقي العديد من المفكرين والسياسيين والأدباء، وكنت وقتها، طالبا يستعد لدخول كلية الهندسة في جامعة عين شمس، مهتمّا بالأدب وخصوصا الشعر، الذي كنت أحفظ الكثير منه، من والدي ووالدتي اللذين ربّيانا وأخوتي منذ الطفولة على حب الشعر، رفيع المستوى منه، فهما وحفظا. وقد كان لتعرّفنا على شعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد المقاوم، منذ نهاية الستينيات أثره الكبير على تعلقنا بالشعر، وكذلك شعر إبراهيم وفدوى طوقان؛ اللذين تربط أسرتنا بهما قرابة وصداقة.

وقد كنت أعرف اسم محمود درويش من دواوينه التي حفظت منها الكثير، ولا أنسى أنني تركت طلاب المدرسة أثناء رحلة مدرسية الى عكا، لأبحث عن دار الأسوار وأشتري ديوانين لمحمود درويش وسميح القاسم، وعندما بدأ أستاذ المدرسة بتأنيبي لذهابي منفردا، قرأت له جزءا من قصيدة ""يا دامي العينين والكفّين"" من شعر محمود درويش، أثنى عليّ أمام الطلاب بدلا من محاسبتي.

يحضرني الآن، سؤالي له باللقاء الأول أو الثاني، عن حواريته مع فدوى طوقان، وقد كنت أحفظ معظم قصيدة فدوى، ""لن أبكي"" ومعظم ردّه ""يوميات جرح فلسطيني""، فكانت صدمتي أنه لم يبد الاهتمام الذي كنت آمل به، إجابته كانت مختصرة، لا أذكر تفاصيلها؛ ولكنها كانت مدهشة لي، وتغيّر الحديث عندما سألته الخالة أم مازن: لماذا لا تتزوج يا محمود؟ وتحوّل الحديث إلى الأمور الشخصية.

ازداد تعلّقي بشعره، واستمرّت متابعتي لكتاباته؛ نثره الأدبي والسياسي، مواقفه السياسية، تحليله وتفسيره للأحداث في مجلة شؤون فلسطينية، دواوين شعره، وحضرت العديد من أمسياته الشعرية؛ أدهشني إلقاؤه الشعر، الذي جعله يصل الى جمهوره المتلقي بصورة عميقة التأثير، بها سحر البيان وعمق المضمون والمعنى.

وكانت تلك الفترة، فترة انتقاله من الغنائية والمباشَرة إلى الشعر التركيبي، وهو ما زاد من تعلّقي بالشعر الذي يتطلب تفكيرا عميقا، وقد كان هذا مثار جدل دائم في أوساط الطلبة والأصدقاء، كما كان مثار أسئلتي كلما التقيته في منزل الخالة أم مازن، الى أن أصبحت زياراته الى القاهرة شبه معدومة، بعد التغيّر السياسي الذي طرأ بعد حرب أكتوبر.

ومضت الأيام إلى أن ذهبت الى بيروت، وهناك تابعت شعره وأخباره عن بعد، ولم ألتقيه إلاّ قليلا جدا، في منزل الشهيد ماجد أبو شرار، في مكتبه في مجلة شؤون فلسطينية أو مكتب الأستاذ بلال الحسن الذي رأس تحرير المجلة بعده.

عند عودته الى فلسطين، 1994، (ظلّ يصرّ على أنه ""جاء ولم يعد""، فالإنسان على حدّ تعبيره يعود إلى المكان الذي خرج منه)، أقام بالبداية في فندق رام الله القريب من بيتنا، فتعدَّدت اللقاءات، وسنحت لي الفرصة للتعرّف إليه بصورة شخصية مجددا، بعد تنقّله من القاهرة إلى بيروت فتونس وفرنسا، ثم إلى عمان، وأخيرا إلى رام الله؛ رحلة تعدَّدت بها الأحداث، شهدت عدة حروب وعدة هجرات، تغيّرا كبيرا على كل شيء، بمعطيات السياسة والفن والأدب، العالم تغيّر وفلسطين تبدّلت أحوالها، بين مطلع السبعينيات ومطلع التسعينيات تغيّر الكثير الكثير.

فلا الصديق هو الصديق، ولا العدوّ هو العدوّ، سمعنا كيف أصبح عضوا باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير دون أن يُستشار، ومن ثمّ ليستقيل استقالته المسبّبة، والتي تنبأ بها بمستقبل وكأنه يقرأ الغيب؛ توقّع خيبات الأمل التي نعيشها اليوم.

ولأنني لست أديبا متخصصا أو ناقدا أدبيّا، حاولت أن أكتب أكثر من مرَّة عن محمود درويش الإنسان، ولكن في كل مرَّة كانت تعتريني رهبة ما، تشبه رهبة لقائه الأول، فأنا أراه دائم الحضور، عصيّا على الغياب، وأخشى من نظرته حين يرى ما أكتب، فهو يرى الأشياء دائما من منظور خاص، لا يستطيع أقرب الناس اليه أن يتوقعه، فهو يفاجئ أقرب الناس إليه دائما بموقفه، السياسي، والإنساني، والثقافي، والفكري، وببديهته السريعة، وذكائه، ومعرفته، وقدرته على الحكم على الأشياء، بدقة وسرعة لا نظير لهما.

الأهم أنه لم يكن يحتمل الخطأ، بالمبادئ لم يكن يحتمل الخطأ، بالسياسة لا يحتمله، بأناقته وبطعامه وشرابه وعاداته اليومية البسيطة، لم يكن يحتمل الخطأ. ولذا تشعر معه أنك دائما بتحدّ ما، هكذا كان الأمر بالنسبة لي، ولا أدري إذا اتفق معي أصدقاؤه الآخرون. ولذا فهي خشية الخطأ ما يصعّب المهمة، وللأسف الشديد هو ليس بيننا اليوم، حيث إن رهبة لقائه كانت تتلاشى حال الجلوس معه.

عندما يكون في عمان، أذكر لقاء يوم الجمعة في مزرعة صديقه علي حليله، نستقبله على مدخل المزرعة، يبدأ بأن يتحسس زهور اللافندر والحبق، ويبدي إعجابه الشديد بها، وفي أغلب المرات يذكّرنا بأنه ليكتمل الإحساس بهذه النبتة الجميلة يجب أن تفركها بيديك، لتشمّ رائحتها العطرة، وليكتمل إحساسك بعطاء الطبيعة المتفرّد فيها.

يلعب النرد ولا يكون سعيدا بالخسارة، مع أنه يتقبّلها. بعد الظهر، أوصله أنا على الأغلب الى بيته في حيّ عبدون ليأخذ قيلولته التي لم يكن يتنازل عنها، (هو لم يرغب يوما أن يقود سيارة بنفسه). في بيته لا يفوتك التناسق الواضح في المكان، مدخل جميل، ألوان التركواز والأخضر الهادئة، مكتبة منسّقة بكتبه المتنوعة في الأدب شعرًا ونثرًا، السياسة، الفنون وغيرها. غرفة مكتب منفصلة، وبسيطة، ومتناسقة ومريحة، على مكتبه أقلام الحبر السائل مع المحبرة، وأوراقه المرتّبة.

ولتكتمل الحكاية، اكتملت معجزته برؤيته وتعرّفه المباشر على الموت؛ بُعيد عملية تغليف الشريان الأورطي، التي أجراها في باريس عام 1998، تحدثت معه هاتفيا وهو على فراش التعافي الأوّلي، قال مستعجلا قبل سؤالي عن صحته: صدِّق أو لا تصدِّق رأيت الموت.. عرفته يا سعد، عشت تجربة الموت. أدهشني أكثر من عادته، ثم تحدثنا حديثا عاديا عن صحته ومعاناته بهذه العملية شديدة الصعوبة، ومتى سيكون معنا ...الخ.

عندها تصدّق أنه حقيقة أكبر من المكان وأبعد من الزمان ...

بعدها جاءت قصيدة الجدارية، التي حاور بها الموت، تحدّاه بمنطق من رآه وعرفه، تحدّاه بعد أن عرف سرّ الخلود، فكان جريئا ليخبرنا بأسرار الفناء وأسرار الخلود، وبأن الفنون بأنواعها هي الخالد الوحيد في هذا العالم الزائل، وليقول للموت: لم أعد أخشاك.

الصورة: من صفحة ""مؤسسة محمود درويش"" - ""Mahmoud Darwish Foundation""."

سعد قاسم عبد الهادي

مهتم بالإبداع بأنواعه والثقافة بكل أشكالها طالما أنها تخدم قيم الحرية والعدالة

رأيك يهمنا