في عام 2009 صدرت مجموعة من أشعار درويش بعنوان: ""لا أريدُ لهذي القصيدةِ أن تنتهي"". من بين قصائد هذه المجموعة، الصادرة بعد وفاته، قصيدة بعنوان: ""وَرَغِبتُ فيكِ رغبتُ عَنكِ"":

وَرَغِبتُ فيكِ، رغبتُ عنكِ. رَغِبتُ بالآتي

من الماضي. ســـــتتسعُ الدّروبُ لنا.

ستأخذُنا الحياةُ إلى طبيعتِها. سننسى

ظلَّنا تحتَ الصَّنَوبرةِ القديمةِ جالسًا

في ظِلّهِ. وسيبزغُ اليومُ الجديدُ على

طريقينا. لنا ظلّانِ منفصلانِ لا

يتعانقانِ ولا يردّانِ التحيّةَ للسُّنونُو.

""فكّري بالظلِّ كي تتذكّريني"" قلتُ.

قالَت: ""كُـــن قــويًّا واقــعـــيًّا وانسَ

ظِلِّي"". في طريقَيـنِ ستأخذُنا الحياةُ

إلى طبيعتها الجديدة. لن تبشّرَنا الحمامةُ

بالسلامِ وبالسلامة. لن نكونَ كما أردنا

أن نكونَ. وكلّما نام الحنينُ استيقظَ

الغدُ. سوف نشفى من قيامتِنا الصغيرةِ

عندما تقفُ الظلالُ على الحيادِ، ولا

يكونُ البدرُ حُمَّى. عندما تقف الظلالُ

على الحيادِ.

القصيدة هنا هي على نفس التشطير الذي ظهر في الديوان. نلاحظ أن الشاعر يعتمد الأسطر متقاربة الطول، بمعنى أن هذا الـ""تشطير"" لا يتم وفقًا لمقتضيات المعاني، ولا لاعتبارات بنيوية أو إيقاعية. وبالتالي فإيقاعية مطالع الأسطر ليست هامة من ناحية التأليف الإيقاعي، وهذا يعيد إلى الذاكرة كلام الشاعر:

""أنا ليس لديّ سطر شعري، القصيدة لديّ تتحرك كلها مثلَ كتلة دائرية، إنها تتدوّر.

القافية عندي أخفيها في أول الجملة أو في وسطها"".

وهو كلام ينطبق فعلًا على هذه القصيدة، حيث نشعر أيضًا بخفوت ملحوظ لرنين القوافي (وهي داخلية، إذا وُجِدَت). لو عدنا إلى ""حلم القصيدة الحرّة"" الذي انطلق في خمسينيات القرن الماضي، وأسهمت في تحقيقه أجيالٌ من الشعراء العرب على اختلاف رؤاهم وأساليبهم ومفاهيمهم، فنحن هنا أخيرًا أمام ""قصيدة عربية حرّة""! هي قصيدة تحررت:

1) من المبنى العمودي بطبيعة الحال. 2) من مبنى الشطور متشابهة الإيقاع ومتخالفة الأطوال. 3) من مبنى المقاطع الشعرية ذات القفلات الإيقاعية الواضحة، والتي مايزت قصيدة التفعيلة. 4) أضف إلى ذلك أنها تحرّرت حتى من القافية، رغم علاقة الشاعر الطويلة بالقوافي، وعشقه الصريح والمُعلن لها .

فيما عدا الخيط التفعيلي الممتد على طول هذه القصيدة لا نكاد نلمح أيّة معالم واضحة تمكّننا من تفكيك مبناها. بمعنى أن الأدوات العروضيّة التقليديّة، أو حتى الأكثر حداثةً، لا تمكنّنا من تحليلها بشكل أوفى من التحليل الميكانيكي-أكاديمي، وحينها سنكتفي بالقول: ""التفعيلة الجارية من بداية القصيدة إلى نهايتها هي تفعيلة الكامل""، وقد نضيف: ""إنّها بالفعل قصيدة تتحرك كلّها مثل كتلةٍ دائرية كما قال ناظمُها!"".

ولكن من الناحية الثانية يجدر الالتفات إلى قولٍ آخر لدرويش:

""يجب أن يكون هناك تصوّرٌ لهندسةٍ معماريَّةٍ تقوم القصيدة على أساسها"".

فما هي الـ""هندسة المعمارية"" التي تقوم هذه الـ""كتلة الدائريّة"" على أساسِها؟

للإجابة على هذا السؤال نعيد تشطير النص وفقًا للمنفذ الوحيد الذي يتركه الشاعر، ألا وهو: فقرات المعاني. ومن ثمّ نقوم بتشخيص الإيقاعيات الفعليّة التي تميّز فقرات المعنى، مخصصين كلًا منها بلون مختلف، للإيضاح:

القصيدة

نلاحظ أن الصورة الآن قد اتضحت، وأن تتبُّع الإيقاعيات الفعليّة لكل عبارة يمكّننا من استكشاف محاور ""الهندسة المعمارية"" المميزة لهذه القصيدة. هكذا نرى أنها مؤلّفة من ثلاثة ""أطوار""، أو لنسمِّها ""ثلاثة أمزجة إيقاعية"". هي: المزاج الكُحلي (تفعيلة الكامل)، المزاج البنفسجي (الوافر) والمزاج الأخضر (الرّمَل) .

أيضًا نرى أن الشطر الأول فقط هو حقيقةً بالمزاج الكحلي، في حين أن الشطور (2-5) تكتسب المزاج البنفسجي، والشطور (6-12) تأتي بالمزاج الأخضر.

بمقدور كل قارئ أن يستشعر هذه الإيقاعيات بسهولة! وذلك بمجرد أن يقوم بقراءة المَطالع المثبتة في النموذج أعلاه قراءةً صوتيةً، ثابتة السرعة، مع مراعاة جميع الحركات والنطق الدقيق للحروف والمقاطع. هكذا يسهل علينا الإحساس بالفروق ما بين إيقاعية كل من:

الأمزجة الثلاثة هي إيقاعات شقيقة.

هذه الأمزجة الثلاثة هي إيقاعات شقيقة. بمعنى أن واحدها يولد اشتقاقًا عن الآخر بمجرد أن يُبتدأ به من موقع مخالِف على نفس المتوالية ""الأمّ"". تمامًا كما لو أخذنا المتوالية: (أ ب ج د / أ ب ج د / ...) ثم ابتدأناها من (ب) مع الحفاظ على نفس التراتب، فنحصل على: (ب ج د أ / ب ج د أ /...) ثم ابتدأنا من (ج) لنحصل على: (ج د أ ب / ج د أ ب /..).

هذه التقنية، الانتقال (التحويل) ما بين تفاعيل شقيقة مع الحفاظ على تراتب المتوالية الإيقاعية، تسمّى اصطلاحًا في عروض الشعر الحديث ""التدوير"".

بكلمات أخرى: التدوير في هذه ""الكتلة الدائرية"" يعني التحويل ما بين ثلاثة ""أمزجة إيقاعية"" تمر بها القصيدة. وهي عمليًا تشكّل مبناها الهيكلي، أو ""هندستها المعمارية"".

كل مزاج يعتمد تفعيلةً واحدة صريحة تطغى على جميع عباراته. فالشاعر يدَوزن العبارات على المزاج المعيّن كما لو كان قصيدة مستقلة على تلك التفعيلة.

نلاحظ أيضًا انسيابية الخيط التفعيلي على طول القصيدة. بمعنى خلوّ القصيدة، بأمزجتها الثلاثة، من القفلات الإيقاعية ""الصاخبة""، كالتي تمايز مقاطع من قصيدة أحمد الزعتر مثلًا، حيث تم استخدام قفلات تفعيلية خاصّة في سبيل ترسيخ إيقاعيةٍ ما. فيبدو وكأن الشاعر هنا أصبح أكثر اطمئنانًا إلى صحّة وسلامة ""لغته الإيقاعية الحداثية""، ولم يعُد يشعُر بحاجة لإثبات تبعيّة إيقاع قصيدته إلى تفعيلةٍ رئيسية بعينِها، (كالكامل في أحمد الزعتر، قصيدة بيروت، مديح الظل العالي، جداريّة وغيرها). هنا نجدهُ ينساب بمنتهى الهدوء والثقة ما بين الأمزجة المختلفة دون توقّف أو تقطُّع، مُعطيًا كلًّا منها الفسحة الكافية لإضفاء صوته الواضح، أو لونه الخاص على القصيدة.

إن توقيع هذا المطلع المشحون على تفعيلة الكامل النّشطة والمتوثّبة ليس بالأمر المفاجئ، ولا أعتقد أنه محض صدفة. شغف درويش بتفعيلة الكامل وغنائيتها الحماسية العالية معروف، وكان من الطبيعي أن يختار هذه التفعيلة بالذات للقصائد ذات النبرة الخطابية أو الموسيقية العالية مثل ""مديح الظل العالي"" وغيرها. وفي قصيدتنا هذه فرصة مثيرة للوقوف على أسلوب درويش حين يوظّف تفعيلةً ""عالية الحماسة"" خطابيًا، في موقفٍ ""عالي الشحنة"" عاطفيًّا.

المزاج الأول- الكحلي الكاملالمزاج الثاني- الكحلي الوفرالمزاج الثالث- الأخضل الرمل

وكأن به يقصد أن يتركنا هنا مع هذا الأخضر/الرّمَليّ بصيغته الصافية والواضحة، لكي يقطع الشكّ باليقين ويبدد أية شكوك قد تكون راودتنا حول هوية هذا الإيقاع، الذي اختاره الشاعر صوتًا لظلالهما المفترقة بيأسٍ وبحزنٍ هادئين. لا يلائمهما صخبُ الكامل الكحليّ، ولا حتى رصانة الوافر البنفسجيّ.

ـــــــــــــــــــــــــــ

يشار الى أن هذا المقال هو تلخيص لبحث تم نشره في كتاب: ""آذانٌ إلى بحور العرب، امرؤ القيس-محمود درويش وإيقاع 1500 عام"" \ Hearing Arabic Prosody: Imru’ Al Qays-Mahmoud Darwish, Milestones in Rhythm”"". تأليف: خالد جبران. نشر: دار الناشر، رام الله 2017.

الإحالات:

في النسخة المتوفرة وردت هفوة إيقاعية بسيطة، تتعلق بحرف النون في كلمة: طريقَينِ. فهو هنا مقطع قصير، واستقامة الوزن تتطلب مقطعًا طويلًا، كما لو كانت الكلمة: طريقَينا، أو طريقَيها. السبب قد يعود إلى خطأ مطبعيّ، أو إهمال في تنقيح المخطوطة.

ما أسميه هنا اصطلاحًا بالـ""رمَل"" هو في الواقع ""رمَل نقريّ""، أو ما سمّي قديمًا ""المتوفّر""، وهي تفعيلة نادرة جدًا في الموروث الكلاسيكي.

عن الكاتب خالد جبران:

من مواليد عكا 1961، نشأ في الرامة. عام 1984 انتقل من دراسة الطب إلى الموسيقولوجيا في الجامعة العبرية-القدس، من ثم إلى دراسة التأليف، قيادة الأوركسترا ونظرية الموسيقى في أكاديمية روبين. عام 1993 عمل في المعهد الوطني للموسيقى-فلسطين، حيث قام بتأسيس قسم الموسيقى الشرقية وقسم النظريات إضافةً إلى تعليم العود والبزق. كذلك أشغل وظيفة أستاذ نظرية الموسيقى والتأليف الشرقي في أكاديمية ""روبين"". عام 2002 عمل على تأسيس ""مركز الأرموي لموسيقى المشرق""، ومن خلاله قام بإنتاج ألبومين موسيقيين: ""مزامير"" و""بريدج"". عام 2009 بدأ ببحث وتأليف ""الدليل إلى المقام الشرقي""، وهو كتاب شامل يتتبع نشوء وتبلور الأبجدية النغمية للموسيقات المشرقية (عربية، فارسية، تركية). بين عامي 2012-2015 قام ببحث وتأليف كتاب ""آذان إلى بحور العرب"". يعمل حاليًا على سلسلة أبحاث حول: 1- الموسيقى الفلكلورية الفلسطينية. 2- موسيقى الشعائر والطقوس الدينية المشرقية: إسلامية، بيزنطية، سريانية وقبطية.

الصورة: من صفحة ""مؤسسة محمود درويش"" - ""Mahmoud Darwish Foundation""."

د. خالد جبران

من مواليد عكا 1961، نشأ في الرامة. عام 1984 انتقل من دراسة الطب إلى الموسيقولوجيا في الجامعة العبرية-القدس، من ثم إلى دراسة التأليف، قيادة الأوركسترا ونظرية الموسيقى في أكاديمية روبين. عام 1993 عمل في المعهد الوطني للموسيقى-فلسطين، حيث قام بتأسيس قسم الموسيقى الشرقية وقسم النظريات إضافةً إلى تعليم العود والبزق. كذلك أشغل وظيفة أستاذ نظرية الموسيقى والتأليف الشرقي في أكاديمية "روبين". عام 2002 عمل على تأسيس "مركز الأرموي لموسيقى المشرق"، ومن خلاله قام بإنتاج ألبومين موسيقيين: "مزامير" و"بريدج". عام 2009 بدأ ببحث وتأليف "الدليل إلى المقام الشرقي"، وهو كتاب شامل يتتبع نشوء وتبلور الأبجدية النغمية للموسيقات المشرقية (عربية، فارسية، تركية). بين عامي 2012-2015 قام ببحث وتأليف كتاب "آذان إلى بحور العرب". يعمل حاليًا على سلسلة أبحاث حول: 1- الموسيقى الفلكلورية الفلسطينية. 2- موسيقى الشعائر والطقوس الدينية المشرقية: إسلامية، بيزنطية، سريانية وقبطية

شاركونا رأيكن.م