عن المسافة بين سيادة الدولة والاضطهاد: كيف تحكم الدولة قبضتها على عرب البلاد؟!

منذ فترة وفي العامين الأخيرين على وجه الخصوص، تصوّر تيارات في الإعلام العبري وسياسيون من اليمين الاسرائيليّ أن دولة إسرائيل فقدت السيادة والحكم على البلدات العربية وأن المشروع "الوطني" الأهم حاليا هو إعادة سيادة وحكم الدولة في المجتمع العربي. يسوّق هذا المشروع على خلفية آفة الجريمة والعنف في المجتمع العربي، والادعاء الرئيسيّ لهذا الإعلام التحريضي أن ما يحصل في المجتمع العربي من أحداث عنف وقتل هو نتيجة "تراخي" الدولة مع المواطنين العرب وعدم إحكام قبضتها وسيادتها وحكمها في البلدات العربية، وأن المواطنين العرب يشعرون أنهم "أحرار" أكثر مما يحق لهم! لهذا وحفاظا على "السلم العام" و"الأمن العام" وحتى لا ينزلق الإجرام إلى شوارع البلدات اليهودية، أصبح مشروع "حكم العرب" خطا مركزيا في الإعلام والسياسة والقطاع العام في إسرائيل، بل كان أحد "الأوراق الرابحة" للأحزاب اليمينية المتطرفة التي ستعتلي سدة الحكومة الجديدة.

في نظري، تلك المزاعم أن الدولة تفقد سيادتها وحكمها في البلدات العربية تعاكس الحقيقة وأن ترويجها في الإعلام هو تبرير آخر لمواصلة تمييز واضطهاد وقمع المواطنين العرب. يظهر ذلك في أمور مختلفة تخص علاقة الدولة مع الأقلية العربية في البلاد ومنها سياسات الدولة تجاه البلدات العربية في مجال الأرض والتخطيط العمرانيّ والتي تتعدى مفهوم السيادة والحكم بل تبلغ المحاصرة والقمع.
فمن جهة التخطيط العمرانيّ تمنع الدولة توسع وتطور البلدات العربية من خلال حكمها وتقييدها بمخططات هيكلية قطريّة تحدّ التوسع الجغرافي والديموغرافي فيها. تصدّق هذه المخططات من قبل حكومة إسرائيل وهي الجسم التخطيطي الأعلى في البلاد ومن قبل لجان التخطيط والبناء اللوائية والقطرية التابعة لها، وذلك وفق معايير ديموغرافية واجتماعية وزمنية تهدف إلى ضبط توسع البلدات العربية وتطورها العمرانيّ والاجتماعي. حوّل هذا التخطيط بلداتنا العربية إلى "دوائر" مغلقة ومكتظة يفتقد أغلبها الى أبسط الخدمات والمرافق العامة، ويفتقد سكانها إلى حياة جيدة وآمنة ورغيدة.

وإن قدرة المواطنين العرب على التأثير في القرارات التخطيطية التي تتخذ بحقهم تكاد تكون معدومة. ذلك أن غالبية أعضاء اللجان القطرية واللوائية للتنظيم والبناء هي من ممثلي وزارة الحكومة ونسبة المواطنين العرب والمهنيين العرب العاملين في هذه اللجان تؤول إلى الصفر. هذا يعني أن هذه اللجان تخطط البلدات العربية وفق رؤيتها "من الأعلى" ووفق "المصالح الوطنية" لدولة إسرائيل وليس وفق حوائج المواطنين العرب الحقيقية النابعة من أرض الواقع. أضف لذلك أن مديرية التخطيط العليا في إسرائيل هي التي تختار المخططين الذي يعدّون المخططات الهيكلية للبلدات العربية وهم يأتمرون بأوامرها ولا يعتبرون السلطات المحلية العربية في قراراتهم التخطيطية وهم يتعاملون مع المجتمع العربي بثقافة تخطيط غربيّة تتعامل مع الأرض ومع المكان ومع الإنسان كسلعة تجارية تثمّن بالمال فقط بعيدا عن ثقافة وتقليد المواطنين العرب.

وحتى حينما يقدم المواطنون العرب من أصحاب الأراضي مخططات هيكلية لتطوير أراضيهم الخاصة، تقوم لجان التخطيط اللوائية والقطرية بصد هذه المخططات ورفضها بحجج مختلفة تصوّرها على أنها "أسباب تخطيطية" ولكنها في واقع الأمر تندرج في إطار السياسة التخطيطية العامة التي تعمل على ضبط الملكية الخاصة في البلدات العربية وإبطال سيادة المواطنين العرب على أراضيهم وإخضاع الأراضي لمصالح الدولة "العليا". ويتجلى هذا التعامل القمعي مع الأراضي الخاصة في البلدات العربية أيضا في المحاولات المستمرة لمصادرة أراضي المواطنين العرب في سبيل تنفيذ مخططات قطرية مختلفة. ابتلعت هذه المخططات آلاف الدونمات من الأراضي الخاصة في البلدات العربية دون أن تعطي لجان التخطيط اعتبارا ملموسا للأراضي الخاصة وما تعني مصادرتها في نظر أصحابها الذين حفظوها من جيل لجيل وما تعنيه من حيث قيمتها النوعية لتطور البلدات العربية والمواطنين العرب.

ولم تعترف الدولة حتى الساعة بشكل حقيقي بتقصيرها تجاه البلدات العربية في مجال الأرض والتخطيط العمرانيّ والذي تمثل أيضا بامتناعها على مدار عشرات السنين من تأمين الخرائط الهيكلية الحديثة لتطور البلدات العربية. بل عوضا عن ذلك تقوم الدولة بأبشع الملاحقات القانونية للمواطنين العرب ممن اضطروا للبناء بشكل غير مرخص منازل لعوائلهم أو ورشات عمل لكسب الرزق. وفي نظر القضاء أن تقصير الدولة لا يمنح المواطن الحق أن يخالف القانون وأن يبنى دون رخصة حتى لو أن تقصير الدولة ومؤسسات التخطيط والبناء هو ما سلب من المواطن حقه الأساسي بالبناء بشكل قانوني وأكرهه على تجاوز القانون. وليس هذا فحسب، بل حتى تحكم الدولة قبضتها على المواطنين العرب في مجال البناء، سنت الكنيست عام 2017 تعديل 116 لقانون التنظيم والبناء والذي عرفه الناس باسم "قانون كامينتس". هو القانون الذي زوّد "السلطة القطرية لمخالفات التنظيم والبناء" بشتى الوسائل السريعة والجائرة لهدم البيوت والمباني في البلدات العربية وتغريم أصحابها بأضخم الغرامات المادية الممكنة. وفق هذا القانون يستطيع مفتش السلطة القطرية الحكم على بيت أو مبنى بالهدم دون محكمة ودون الحصول على إذن مسبق من المحكمة، ولا تستطيع المحاكم تجميد أوامر الهدم إلا في حالات نادرة جدا على نحو يوصد أبواب المحاكم "والعدالة" أمام المواطنين العرب. بل إن القانون المذكور يمكّن مفتش السلطة القطرية أن يحكم على صاحب المبنى بدفع غرامة إدارية عن البناء أو استعماله تصل قيمتها 300 ألف شاقل عن كل مبنى تتعدى مساحته 100 متر. ووفق المعطيات التي حصلت عليها في إطار عملي القضائي في هذا المضمار فإن قيمة هذه الغرامات في البلدات العربية تجاوزت حتى اليوم أكثر من 80 مليون شاقل! هو في نظري مشروع إفقار وإخضاع للمواطنين العرب إذا ما أخذنا بالحسبان أن نصف المواطنين العرب في البلاد يرزحون تحت خط الفقر، بل هو مشروع "إرهاب" للمواطنين العرب إذا ما أخذنا بالحسبان الصلاحيات العنيفة التي يمارسها مفتشو السلطة القطرية في البلدات العربية في مجال هدم المباني وملاحقة أصحابها إداريا وماديا.

لهذا فإن الحديث عن فرض السيادة في البلدات العربية بحجة ما يحصل فيها من جريمة وعنف، وكأن الدولة لا تمارس السيادة فيها، هو "كلام حق يراد به باطل". على العكس، أن أحد أسباب آفة العنف والجريمة في البلدات العربية يعود إلى تعامل الدولة مع البلدات العربية في مجال الأرض والتخطيط العمراني والذي حوّل البلدات العربية إلى مستنقعات مغلقة تتجمع فيها كل الآفات المجتمعية كالفقر والجريمة والتخلف الاقتصادي والاجتماعي. نحن أمام أسلوب جديد لتبرير استمرار اضطهاد وتمييز المواطنين العرب في البلاد.


كاتب المقال: د. قيس ناصر وهو محام وباحث، مختص في قضايا الأراضي والتخطيط العمراني وحقوق الانسان. حاصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة تل ابيب، وباحث مكمل في مسار بوست- دكتوراه في كلية الحقوق في جامعة رايخمان في مجال مخططات تقسيم الأراضي في البلدات العربية في إسرائيل.

 تصوير: منى أبو شحادة.

المحامي د. قيس يوسف ناصر

محامٍ وباحث ومحاضر، يحمل درجة الدكتوراه في القانون من جامعة تل أبيب، وبوست-دكتوراه في القانون من جامعة رايخمان.  

رأيك يهمنا