شبكات التك في ظل الأزمات: شاشة ذات حدّين

ثلاثة أيّام بلياليها الباردة أمضاها أحد الشُّبان من النقب في المُعتقل خلال الهبّة الأخيرة، ولم تكن التُهمة الاعتداء على الشّرطة أو الخروج في تظاهرة غير قانونية كمان كانت الحال مع المئات من الشبّان الآخرين - إنما على إثر فيديو نشره عبر منصة ""تيك-توك""، يحدّث من خلاله أصدقاءه ومتابعيه حول قضية الأرض في قرية سعوة غير المُعترف بها. خلال تمديد الاعتقال مرة تلو الأخرى تم اقتباس أقواله ""البلد راح تولّع الليلة..""، وكان هذا كافيًا لأن يكون هذا الشاب كالكثيرين قبله من الفلسطينيين من كُل المناطق، عُرضة للتنكيل وجعلهم كبش فداءٍ وعِبرة لغيرهم من الجيل الشاب.

في فترات الأزمات يلجأ كُل منا إلى مكان آمن، يُحكى أنها طبيعتنا البشرية. إلا أن الأزمات في ربوع أوطاننا متنوّعة وتكاد لا تفوّت أيًّا من مجالات المعيشة: الأمنية، السياسية، الاجتماعية والاقتصاديّة، وهذه السنوات تربّعت على عرشها حتى الأزمات الصحيّة مع ظهور جائحة كورونا في حياتنا. ومع اعتمادنا بشكل ساعاتي على شبكات التواصل والأدوات التقنية، أصبح الملاذ الأمثل في تلقّي الأخبار، التعبير عن الذات وحتى تقديم المساعدات والدعم هو عبر هذه المنصات الرقميّة.

عندما يتصدّى ""الستوري"" الإبداعي لمسودّة قانون فاشي

تعي الحكومات والمؤسسات الرسمية تأثير شبكات التواصل على الوعي العام، خاصة عند الجيل الشاب. فبحسب التقرير السنوي الصادر عن ""Data Reportal"" العالمية لعام 2022، فإنّ نسبة تصل إلى 47% من الجيل الشاب تعتمد على شبكات التواصل بصفتها الأداة الأكثر شيوعًا لصقل الأفكار والمعتقدات. كما تصادق على ذلك المعطيات التقديرية من البحث السنوي الذي تصدره شركة ""بيزك"" حول الاستخدامات الرقمية في إسرائيل: أكثر من 70٪ من المشتركين في البحث عبّروا عن كون الفيديوهات في يوتيوب وشبكات التواصل المختلفة ""أوّل المصادر للبحث عن الحقيقة"".

هذه المعطيات -غير الصادمة-، تدفع بالدّولة إلى زيادة الرقابة وبناء الخُطط للمواجهة في ميادين بناء الوعي وتكوين الهوية الجمعيّة، وخاصة لدى الجيل الصّاعد. وهُنا يسدل الستار مرارًا عن الحالة الاستثنائية لفلسطينيي الداخل، خاصة في التعامل مع ألعاب ""الكر والفر "" في السوشيال ميديا: قوانين تعسفية جديدة مثل ""قانون الفيسبوك"" لوزير القضاء جدعون ساعر، في ظل قُدرات أعلى ونفوذ أكبر لدى المؤسسات الحقوقية لإحراج السياسات المُدعية للديمقراطية وفضح جرائمها الإلكترونية. كلّ ذلك بالتزامن مع ازدياد في انتهاكات مواقع التواصل العالمية للحسابات والصفحات الفلسطينية (ارتفاع سنوي بنسبة 32٪ خلال عام 2021 بحسب تقرير ""صدى سوشيال"")، يُقابله إبداع متجدد من النشطاء والفاعلين عبر انستغرام، فيسبوك، تيك-توك وغيرها لتخطّي الحظر وإيصال صوتهم إلى العالم. وهذا كُله قبل التطرّق إلى برامج التجسس كما ""بيجاسوس NSO"" وأعوانها التي شاع استخدامها ضد المدنيين في السنوات الأخيرة.

""تيكتوكر"" تستبدل مُعتلي المنابر

ولكوني لا أخفي قُربي وتوجّهي بالأثر المحمود للأدوات الرقمية في عصرنا، ودورها الفاعل في صقل نماذج إيجابية أيضًا، فلا بُد لي من التطرّق إلى ما تحمله كل واحدة من موجات الأزمات المتلاحقة، من أمثلة مميزة عن التكاتف المجتمعي وإعادة اللُحمة التي عادة ما يُفسدها أثر العُنف المستشري في ربوع مجتمعنا، بالإضافة إلى دور هذه المنصات في التمكين والإسناد على مستوى التأثير على الرأي العام الدوليّ وغيرها من التّبعات التي بالإمكان وصفها بالمُطمئنة.

فالأمثلة على صعود شخصيّات شابّة جريئة على ساحة التصريحات، بل واتخاذ القرارات في ذروة فترات الأزمات ما زالت تولد في كلّ أزمة تلو أخرى. في أيار المنصرم وتحديدًا في الشيخ جرّاح تفتح صبيّة ما زالت طالبة جامعية تدعى -مُنى الكُرد- البث المُباشر عبر انستغرام من داخل المحكمة، لتتصدّر هي المشهد في القُدس وليس السياسيّين. يليها شقيقها محمد الكُرد بإطلالاته باللغة الانجليزية وبلكنة ذكية وفذّة، لتصله بفضل تأثير تويتر وبقية الشبكات دعوةُ للتحدّث في مقر الأمم المتحدة. وما تلى الشيخ جرّاح من أحداث هبّة في أيّار وعدوان على غزّة، تمت تغطيته عبر التيك-توك لتصلنا الأنباء فيه قبل النشرات المُتلفزة.

أما الخطاب التحريضي في ميدان الشبكات فقد كان الأعلى على الإطلاق في هذه الأزمة: بحسب ""حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي"" فقد انتشار عام 2021 حوالي 620 ألف محادثة شملت خطاباً عنيفاً وتحريضياً تجاه العرب، ثُلثها خلال أشهر نيسان-أيَار!

ذات المشهد تكرر مطلع العام الحالي 2022 قبيل أزمة تحريش الأراضي في النقب، وتصدّي سُكّان القرُى مسلوبة الاعتراف لمخططات التهجير. فلم يكن المشهد المُنتشر هو تصريح أو دور قيادي ميداني أو برلماني، إنما لشباب وشابّات في مُقتبل العُمر، وقفوا أمام كاميرات شاشات الهواتف الذكية، وباتوا يتنقّلون بين منصّات التأثير متحدثين من ""سعوة"" غير المعترف بها مع مُمثلين من هوليوود في لوس أنجلوس، ومن بلدة اللقية ببث مشترك عبر انستغرام مع مطرب يتابعه الملايين من مقره في لندن، يقصّون للعالم ما يحدث فعلًا في الداخل الفلسطيني دون وساطة أو ""فلاتر"" محتملة!

الأزمات الإنسانيّة منبع البطولات الرقميّة

والأزمات بطبيعة الحال لا تقتصر على السياسية والأمنية، فبنات وأبناء المجتمع العربي يأبون إلا أن يكونوا جزءًا من الهَم العام والعالمي في الأوطان العربية وغيرها من الأزمات العالمية. ففي الأسابيع الأخيرة برزت بشدّة حملات الشتاء لدعم اللاجئين السوريين، وخاصة للمساعدة في بناء قُرى وبيوت تؤويهم. وبالرغم من أن التمويل في نهاية المطاف يُقدّم عبر وساطة مؤسسات رسمية وجمعيّات خيريّة - إلا أن من تصدّروا المشهد كانوا في كثير من الأحيان الأفراد عبر منصاتهم الرقميّة الخاصة. فبات من الطبيعي أن تشاهد صفحات شخصيّة تجمع مئات آلاف الشواقل من بلدتها، وآلاف الداعمين يُحيون حملات مليونيّة باستخدام ""البوست"" و""الستوري""!

إذن فأين الحقيقة في ظل الأزمات بالتعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي؟ يبدو لي أنها تجمع بين النقيضين. فأحيانًا تكون هي الملجأ والمنارة لإنقاذنا مما يُحاك ضدنا من ظُلم أو ما نواجهه من بلاء، وفي أحيان أخرى تكون هي الوسيلة لقمعنا أكثر وعرقلتنا وغمسنا بشكل أكبر في مشاكلنا. وقد قِيل وكُتب كثيرًا حول محاولات تجهيل نسبة كبيرة من مجتمعنا عبر الأخبار الكاذبة والمُفبركة بخصوص جائحة كورونا والتطعيمات، وقصص النماذج الشابة التي لم تُعط الاهتمام الكافي لما تنشره من آراء سياسيّة وقومية عبر الشّبكات في ظل التعسّف الذي نحيا فيه، بحيث أصبحت لها كالمصيدة للملاحقات بالطريق نحو قضايا كانوا بغنى عن التورّط بها. كُلها أمثلة تعيدنا إلى أهمية رفع الوعي التقني لدى الأجيال الشابة. وهُنا يكمن مربط الفرس، أو لنقل مشبك ""الشير"" - فالمعرفة بالديجيتال وأدواته هي الحل الأمثل لحُسن استخدام الشبكات في صالحنا وتسخيرها لحمايتنا ومنفعتنا في الأزمات وفي الرخاء.

تصوير: إبن النقب المصوّر وليد العبرة،."

أنس أبو دعابس

استراتيجي تسويق وديجيتال ومقدم البودكاست التقني "صوت التك"

شاركونا رأيكن.م