تلوث بصري أقل، مساحات جمالية أكثر

لقد سنح مجال التجسيد والإظهار المعماري من خلال برامج ثلاثية الأبعاد إلى رسم حدود جديدة للهندسة المعمارية، تمتد إلى الأشكال المعقدة وغير التقليدية. كما أن توفر التقنيات الحديثة أتاحت فرصة لتفكيك وتجميع المركبات المعمارية للفراغ من جديد وخلق مساحات جديدة للخيال والتصميم، حيث أصبح تطور الشكل وتوفر القدرة على اختيار المواد والمكونات، والتلاعب التصميمي على النموذج المعماري مسألة تتيح سهولة إطلاق الأحكام واتخاذ القرار من قبل المصمم والمستخدم، وصولًا إلى مشاركتها وتداولها عبر منصات التواصل الاجتماعي وبالتالي تكوين حقبة صورية جديدة، تتخطى التقليدي والمألوف في الهندسة المعمارية.

بينما كان كارل ماركس يُؤمن بالحتمية الاقتصاديَّة، وبأنَّ التنظيم الاقتصادي للمجتمع يشكِّل جانبًا أساسيًّا من جوانب حياته، يؤمن مارشال ماكلوهان بالحتمية التكنولوجية، وبأنَّ الاختراعات التكنولوجية المهمة هي التي تُؤثِّر تأثيرًا أساسيًّا على المجتمعات. حيث لا يمكن الفصل بين مضمون الوسيلة الإعلامية، وبين تكنولوجيا الوسيلة الإعلامية ذاتها. ويصل بنا هذا إلى أنّ الكيفية التي تعرض بها الوسائط الإعلامية محتواها، تُؤثِّر بشكل كبير في طريقة تفكير المجتمع المتلقي له، بل ومن الممكن أن تُعيد تشكيله.

اليوم، تعد وسائل التواصل الاجتماعي أحد العوامل الرئيسية التي تساهم في تشكيل وعي خاص اتجاه المستخدم، صحته العقلية والعاطفية والجسدية، حيث تقدم وسائل الإعلام باستمرار مقارنات بين الجمال المثالي للمباني والبيوت، التصاميم الداخلية والمساحات المفتوحة من خلال تتابع الصور، الفيديوهات والمدونات التي تعكس آخر المستجدات في العالم، حيث يتأثر قرار اختيارات المستهلك وفقاً لشعور مرتبط بالراحة البصرية وشكل التجربة المعمارية الذي يتحدد وفقاً لاختيار الألوان، المواد، الإضاءة ، التشكيل، التكثيف أو التبسيط للتصميم. لكن ما لا يمكن إخفاؤه، هو أنَّ التسارع في وتيرة الاهتمام هذه يقابله مخاوف لدى المستهلك ألَّا يكون جزءًا من هذا التحديث. حيث يتسارع الإحساس بوجوب تغيير تصميم المبنى كل فترة قصيرة، وتجديده وتزويده بما يتناسب مع روح المرحلة ومتغيراتها.

هذا التداول الشديد للتصاميم يطرح سؤالا هاما يتعلق باحتياجات الأفراد والتعاطي مع هذه المعطيات بمفهوم الراحة النفسية لمستخدم المبنى أكثر من كونها حالة تهدف لفرض العضلات على حساب روح المكان. كما ينقلنا هذا إلى موضوع آخر مرتبط بخصائص العمـارة الفلسـطينية المحلية ومدى تطورها ومحافظتها على أصالتها. ويبقى مستوى هذا النجاح رهينا بمدى تقبل أفراد المجتمع لهذه الفكرة، وتبنـيهم لهـا، ومدى ملاءمة النموذج الإعلامي المعماري لثقافتهم واحتياجاتهم لتحقيـق ذواتهـم، وانتمـائهم لعمائرهم ومبانيهم وفهمها، وبالتالي حفاظهم عليها وتطويرها بعيدًا عن استنساخ نماذج تصميمية دون التفكير في كيفية توظيفها بما يتناسب مع مناخ البلاد ومواد التصنيع المحلية.

وسائل الإعلام الرقمي أصبحت تحيطنا من كل صوب، وأصبح الانسان متلقيا بشكل دائم للصور والمقاطع البصرية التي لم تترك للمستهلك فرصة دون أن يصبح شريكا طبيعيا في كل حيز معماري، خاص أو عام. حيث أصبح بالإمكان أن تقوم بجولة كاملة داخل البيوت وتقوم بالاطلاع على كافة التفاصيل الكامنة فيه. عملية التكثيف البصري التي تجتاحنا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي خلقت هوية معمارية جديدة لا تُحسب على نمط خاص أو هوية خاصة، بل أوجدت أنماطا عصرية غربية قد نجدها دخيلة وغير منطقية. هذا الانفتاح الكلي على أنماط معمارية مختلفة يعود بنا إلى فكرة أن الإعلام هو أحد وسائل التعليم العامّ في المجتمعات، في مجتمع ما يرتبط بفكر أفراده ودرجة تعلمهم ووعيهم، وقد أثبتت الدراسات أن سلوك الإنسان في موضوع ما يتحسن طرديا بمقدار ما يحصل عليه من معلومات في هذا الموضوع. هذا الأمر طور لدى الإنسان المعاصر حسا خاصا تجاه نوع وشكل الفراغات المعمارية التي يود أن يعيش بها. وهذا يعني بوضوح أن المستخدمين لديهم رؤى مستقلة في حاجاتهم المعمارية، تختلف عن تلك التي يراها المعماريون المصممون أنفسهم.

يرى كثير من المعماريين أنه يجب مراعاة المكان أثناء تصميمه بأنـه فـراغ ذو شخصية محددة المعالم، وأن على العمارة أن تجسد بصريا روح ذلك المكان، وأن عليها خلـق أماكن ذات معانٍ أينما حطّ الإنسان، وأن مهمة المعماري هي خلق أماكن نافعة، فالعمارة كلغة تواصل يجب أن تكون حاملة للمعاني، لطالما استخدمت المباني لتقديم الأوجه الثقافية، والمعايير والقيم. في اليونان القديمة، ساهمت المنحوتات التي تحيط بالواجهات إلى ترسيخ لقصص البطولة، في حين قامت عظمة العمارة الباروكية على إظهار القوة والنصر والثروة.

وبناء على ما سبق يمكن القول إن هندسة العمارة والبيئة المبنية في فلسطين يمكن أن تتطـور أكثـر مقارنة بالدول الغربية من خلال وجود معالجة وتناقل للمعلومات المعمارية، فمن خلال اطـلاع الناس والمختصين على معلومات وأخبار ومنتجات وتصميمات جديدة يمكن أن يسهم ذلك فـي تطوير العمارة الفلسطينية والارتقاء بوعي المجتمـع المحلـي تجاههما تدريجيًّا، فلا بد من وضع تصور ورؤية لإعلام معماري يقوم على دمج هندسة العمارة بوسائل الاعلام، حيث تقوم كل وسيلة إعلامية بالبحث في مشكلات معمارية يعاني منها النـاس وتقوم بإلقاء الضوء عليها وتعالجها، أو تقوم بعرض أفكار ومستجدات معمارية لتصبح معلومات يضيفها الناس إلى مخزونهم الثقافي للإفادة منها في تطبيقاتهم الحياتية. إذ إنـه إذا لـم يعـرف الانسان الذي يستهلك العمارة (المستخدِم) عن الأفكار الموجودة عند المُنتج (المعماري) لا يمكن المساهمة في تكوين أنماط معمارية بها جماليات تطغى على التلوث البصري الذي يهدد هذا المكان.

شادي حبيب الله

مهندس معماري ومخرج وكاتب سينمائي

شاركونا رأيكن.م