تلخيصات أوّلية لنتائج الانتخابات الاسرائيلية: المشتركة والموحّدة وما بينهما!
الجزء الأول: المشتركة
(وأبدأ بالأقربين ـ المُشتركة ـ بوصفها ما كنتُ أعوّل عليه كبناء لإرادة جامعة على نحو معقول)
ارتكبت “المُشتركة” سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية منذ تأسيسها أفضت بها إلى هنا. وانطوى حضورها وأدائها على قصورات بنيوية أوردها فيما يلي:
منذ التأسيس
غياب هيئات ناظمة ـ لم تشتغل في بناء نفسها تنظيميًا كإطار جامع له هيئاته ومؤسساته يمثّل الشعب وليس فئات أو تيارات فيه. وآثر مسؤولو المركّبات فيها على إبقائها تجمّعًا انتخابيًّا ليس إلّا والعمل الانفرادي ـ كل مركّب على حدة كأن لا علاقة بينهم. لم تظهر قيادتها كإطار يحمل مشروعا جامعًا سوى القفز فوق عتبة نسبة الحسم. حتى أنه لم يكن للكتلة مديرا أو مركّزا ولا ناطق بلسان ـ وهو أضعف الإيمان. حتى إنجاز 15 مقعدًا ـ ضاع تمامًا في ديناميكا داخلية قاتلة تشدّ كل مركّب إلى قوقعته بدل تشكيل قوة بث وتأثير أكبر بكثير من 15 مقعدا!
غياب مشروع وطني ونصّ ناظم ـ عطفًا على ما تقدّم، لم تطوّر المشتركة منذ تأسيسها، مشروعًا سياسيًا وطنيًا جامعًا واكتفت بالمراهنة على أن شعبنا أقوى إذا توحّدت قواه. وهي فرضية صحيحة إلًا أن القوى لم تتوّحد ولم تصغ لنفسها ولجمهورها برنامجًا جديدا يعكس روح المرحلة. بمعنى أن القائمين على المشتركة لم يطوّروا الدبق الموحّد ولا الروابط في نصوص مؤسسة وناظمة.
الخوف من توسيع التمثيل ـ رفضت المُشتركة كل مقترحات الخبراء والمهتمين لتوسيع قاعدة التمثيل في هذه الجولة وقبلها. ورفضت التعامل مع فرضيات تقول بأن الشعب سبقها وأن سقفه أعلى بكثير من سقفها. رفضت بإصرار أن تضمّ إليها قطاعات غير ممثلة في الأحزاب التي ضاقت وانهارت عقائدها في العقود الأخيرة. ومنها النساء والفئات الوسطى وأهالي النقب وقطاع الأكاديميين والأكاديميات.
الحرس القديم ـ في كل مركبات المشتركة “حرس قديم” وأبرزه ذاك في الجبهة والحزب الشيوعي الذي قمع نزعات الانفتاح والحوار في داخل الإطاريْن وقيّد خطوات شخصيات قياديّة وشوّش عليها. وهو نهج أثار نقاشات داخلية مع الشركاء حدّ الطفَر والتهديد بفضّ الشراكة.
خطاب متقادم ـ رغم ما تراكم من أبحاث واستطلاعات ميدانية ودراسات وتوصيات خبراء ومهنيين ظلّ خطاب المُشتركة ضعيفًا غير قادر على التعامل مع الحالة على تعقيدها وتشابك متطلّباتها. أنتجه أناس محدودو التفكير يحكمهم انتماؤهم الحزبي لا مقتضيات العمل في إطار جامع يطمح لأن يُمثّل الجميع. خطاب كان مزيجًا من استجابات دفاعية لدعاية السلطة وأحزابها وبين إثبات الأهلية المدنية والوطنية ـ تخيّلوا كيف اضمحلّ العنفوان الذي كان يُمكن أن يتدحرج من الحصول على 15 مقعدا؟
استهلاك السياسة لا إنتاجها ـ في المحصّلة النهائية كانت المُشتركة بقواها وأحزابها منذ تأسيسها مستهلكة للسياسة التي تُنتجها النُخب اليهودية عاجزة عن طرح مشاريع ومبادرات سياسيّة تنطلق من فهمها للمجتمع وللصراع. لم تستطع أن تتخلّص من إسار الوعي القائل بأننا ذاهبون إلى حلّ الدولتين علما بأن الوقائع على الأرض قالت بغير ذلك وأننا أقرب بكثير إلى نظام أبرتهايد. برز الجمود بشكل خاص بعد تشريع قانون القومية وقانون كمينتس قبله.
العمل على أساس الأماني ـ اتّسم العمل لدى المشتركة بأنه مؤسس على الرغبات والأماني بعيدا كلّ البُعد عن العمل السياسي المحترف والمهني المؤسّس على منهجية علمية خاصة في جولات الانتخابات. تشاوروا وعملوا بوحي من جولات سابقة لا إبداع ولا علمية. إدارة الجولات الانتخابية علم لم يقتربوا منه رغم وجود توصيات ومقترحات على طاولتهم.
في الجولة الأخيرة
انشقاق الحركة الإسلامية الجنوبية كان ينبغي أن يدفع القائمين على المشتركة إلى تعويض أنفسهم بقوى جديدة وترجمة ذلك في تأليف القائمة الانتخابية. رغم التوصيات التي قُدمت بهذا الشأن تم تركيب قائمة كأن شيئا لم يحصل. كان من الضروري الاجتهاد في توسيع التمثيل واستقطاب قوى جديدة ـ أشرنا إليها سابقًا.
رفض القائمون كل محاولة لإقناعهم بضرورة تنظيم المشتركة وإعلان هيكلية تنظيمية كقرار استراتيجي يوسّع التمثيل والمشاركة الجماهيرية ويستفيد من الرأسمال المعرفي والتخصصات الكامنة في مجتمعنا.
رفض القائمون كل محاولة لإقناعهم بضرورة إطلاق مبادرة سياسية ـ على أساس مشروع سياسيّ ناظم يلتقي مع الناس التي تجاوز وعيها وقناعاتها “حلّ الدولتيْن” وخطاب المواطنة المشروطة.
تأخّر القائمون في إطلاق حملتهم كثيرا وأهدروا الوقت والجهد على الركض وراء منصور عباس علما بأن التوصيات أمامهم كانت أنه جاد في انشقاقه وأنها ليست مناورة. بمعنى أنها خسرت وقتا وطاقات وثمينة.
عرف القائمون بنيّة منصور عباس وعرفت أيضا بنوايا نتنياهو ـ إضعاف الصوت العربي بخفض نسبة الاقتراع ـ ولم يتخذوا أي خطوات اعتراضية بقدر التحدّي وحجم الضرر الممكن.
العمل ظلّ عمل هواة ولم يرق إلى علم ومنهجية كما هو معمول في الجولات الانتخابية في الراهن. سلّموا الأمور لهواة أو لمن يروق لهم عقائديا وليس لمن يفهم في هذا المجال ومن يعرف.
ظلّت القائمة المُشتركة بخيلة في نواحٍ ومبذرة في أخرى ـ بمعنى أنها فشلت في إدارة مواردها وهي كثيرة تأتي من المال العام ولا تصل إلى الميدان على شكل استثمار في عمل مهني مدروس.
بالنسبة للمسؤولية: لا أحد من قباطنة المشتركة قبل هذه الجولة وبعدها محرّر من المسؤولية ـ وكل حسب قسطه في إنتاج الحالة.
عوامل العمق التي أفرزت نتائج الانتخابات:
ـ أجواء الانسداد في السياسة الإسرائيلية بعد ثلاث جولات انتخابية وغياب الحسم ترك أثره في الناخبين العرب بوصفهم بالأصل يشعرون بالاغتراب وعدم الثقة بأن أصواتهم يُمكن أن تحسم الانتخابات ـ وهي نظريا يُمكن أن تحسم.
ـ سياسات قمع الناخبين العرب المُعتمدة منذ اغتيال رابين ـ 1995 لم تنفع (رفع نسبة الحسم وتحريض شبه يومي وإقصاء وقتل القيادات ومحاولات نزع الشرعية السياسية والإنسانيّة وما إلى ذلك). إن غياب شبكة الأمان الدستورية (قانون القومية) والسياسية دفعت الناخبين العرب إلى تأييد المُشتركة كجسم جامع. وهذا ما دفع النُخب اليهودية إلى تغيير اتجاه استراتيجياتها بـ 180 درجة، وشرعت بتحييد العرب بطمأنتهم وإيهامهم بوجود شبكة أمان مواطنية عبر تصريحات ووعود ومن خلال كيّ الوعي الجمعي ـ هذا يعني انتفاء معظم أسباب الالتفاف حول المشتركة وبعض أسباب المشاركة في العملية الانتخابيّة (أنظر كيف هبطت نسبة التصويت بأكثر من12%).
ـ في الانتخابات الماضية برز حزب “كحول لفان” كقوة وازنة تستطيع أن تقود استبدال الكتلة اليمينية المهيمنة. وهذا ما أعطى للناخبين العرب أملا بأنهم إذا اجتهدوا قليلا سيتخلّصون من نتنياهو وحكمه الخطير. ومن هنا أتت التوصية على جانتس بالفطرة السياسية وليس بالحكمة السياسية ـ وأنا كنتُ مع التوصية. أما ذهاب جانتس إلى حكومة مع الليكود بحجّة أزمة الكورونا فقد ضرب رهان الناخبين العرب وسدّ باب الأمل فلم يكن ما يحفّزهم على الذهاب إلى الانتخابات هذه الجولة.
ـ عطفًا على الملاحظة السابقة، إن احتمال انضمام المشتركة في الجولة السابقة إلى حكومة برئاسة جانتس دفع بناخبين عرب إلى الصناديق أملًا في موارد تأتي بفضل شراكة محتملة كهذه. وهو العامل الذي استعملته “الموحّدة” هذه الجولة. فهي شراكة تمنحهم شرعية من جهة وتاتي لهم بموارد وربّما حلول لمشاكل يومية جارية.
ـ في لقاء عمل في بيتي مع أحد القياديين قبل أربع أو خمس سنوات أشرت عليه كتوصية بتبني الفئات الوسطى وقطاع الأعمال كقوة اجتماعية قادرة على جرّ المجتمع وبلداتنا إلى وضع اقتصادي ـ اجتماعي أفضل. هذه الفئة تحديدا تطمح بحكم قانون الطبيعة الإنسانية إلى تحسين مواقعها وشروط حياتها وإنجازاتها ـ وهو ما فهمته الموحّدة جزئيًّا ولم تتعاطى مع القائمة المُشتركة.
ـ في العقدين الأخيرين، في موازاة اتساع الرأسمال الاجتماعي اتسعت جيوب الفقر، أيضا. اضمحلت دولة الرفاه تماما خاصة فيما يتعلّق بالعرب. تحوّلت بلداتنا إلى بلدات تفجّر سكاني. ازدادت تبعية الحكم المحلي للمركزي وظهرت السلطات المحلية في غالبيتها كمؤسسات تصريف أعمال. دخلت في هذا الفراغ منظمات “رمادية” وعائلات الجريمة وسط تشجيع أو غض طرف من السلطة وأذرعها ـ هذه الحالة أشاعت نوعًا من اليأس من كلّ شيء ومن السياسة بوجه خاص على أنها أنتجت نماذج بائسة ورؤساء وقوى تتواطأ مع الجريمة ومع السلطة. أجواء لا تشجّع الإنسان على المشاركة بل على الامتناع.
ـ شهدنا سنوات عجافًا فيما يتعلّق بالهوّية الجامعة في ضوء إيقاعات الإقليم العربي الذي دخل مرحلة الحروب الأهلية فانعكست علينا خلافات وتشظيات وانقسامات لا تنفكّ تتوالد منها سجالات وأسباب فرقة (كالنقاش حول الحاصل في سوريّة). تزامن هذا مع ضعف المركز الفلسطيني والقضية والسياسة وانحسار قوته لصالح انقسامات على أساس ديني وعقائدي وجغرافي وهو ما شكّل أساسًا لانقسامات عندنا لم تبدأ اليوم بل في زمان ما من الثمانينيات ورأينا تجليتها في قصّة شهاب الدين وفي توترات وعنف على أساس ديني وطائفيّ حوّلتها الموحّدة الآن إلى رأسمال سياسيّ.
ـ الاقتصاد النيوليبرالي في طبيعته وقوة دفعه أسهم في التذرير والتفكيك بوصفه يركّز على الفردانية على حساب الجامع وعلى كي وعي الأفراد بأن مستقبلهم متعلّق بهم وأن الربح ينتظرهم عند المنعطف لو اجتهدوا قليلا. وعلى مستوى آخر من التأثير يُشجّع هذا النظام مبدأ الربح وتحقيق الثراء بصرف النظر عن الوسيلة ـ المهم هو السطر الأخير وهو الثراء، هناك عملية تسليع كل شيء بحيث صار المال هو القيمة الوحيدة التي تُقاس بها الأمور ومن ضمنها الأخلاق والقيم والوطنية والسياسة وكل نشاط آخر. كلّ هذه مجتمعة خلقت قوة تكسير وتفكيك في مجتمع لا يملك زمام أموره تسعى السلطة إلى السيطرة عليه وتسييره بما يتفق مع مصالحها.
ـ عطفا على البند السابق فإن اللقاء بين السياسة والمال والجريمة كان “طبيعيًا” وبين السياسة والتفاهة والزيف كان حتميًّا في مجتمع يدين بتبعية لمجتمع أقوى يُنتج فيستهلك هو ما يُنتجه الأول من قيمٍ ومن سلع ومن سياسات.
ـ في خلفية هذا وذاك نفسية مقهورين (حسبناها كانت من نصيب المتشائل وحده) في أجزاء من شعبنا. وللمقهورين سلوكيات وأنماط تفكير وذهنية تدفع إلى التماهي بالقاهر في أقلّ تقدير تم التعبير عنه بالانتماء والتصويت والذوبان في أحزاب صهيونية. حركة طبيعية ومفهومة يطمح المقهورون من خلالها إلى الأمن وفضّ التناقض الوجودي بينه وبين السلطة أو المجتمع الأقوى. وفي جزء من هذه السلوكيات شعور بالاغتراب والغربة واللامبالاة حيال السياسة وغيرها من أمور وحيال المجتمع نفسه بكل همومه. “في ظروف القهر والتهديد، سأتدبّر أموري وعائلتي وأنجو بنفسي” ـ يقول الواحد لنفسه ويفعل. في سلوكيات أخرى رأينا مظاهر التدمير الذاتي وأبرزها قتل القيادات في إطار ما نسمّيه استبطان القاهرين.
ـ في ظروف كهذه من انعدام الأمن والمستقبل وشبكات الأمان يعود الإنسان إلى ولاءاته الأولى وما يُمكن أن يملأ الفراغ ويوفّر بعضا من الطمأنينة. تتفكك الهوية الجامعة وتزدهر المكونات الأدنى فيها ـ البلد والمنطقة والطائفة والديانة. وهو ما حصل عندنا في كل الطوائف على حساب انتماء جامع استهدفته السياسات وفككته التحولات الداخلية والوافدة عليه.
ـ لم تستطع العقائد السياسية الوطنية ذات المشروع المدني أن تُعيد إنتاج ذاتها بل رأيتها تذهب من أزمة إلى أزمة مع تسارع الانهيارات حولنا. ورأيناها تفقد بوصلتها في الكثير من المنعطفات والأحداث. من تأييد حزب الله وحماس إلى تأييد نظام المجازر جرائم الحرب في سورية (وغيرها من مواقع عربية). صدى سقوطها المدوّي في هذه المواقع والمنعطفات لا يزال يتردّد في وجدان الناس إلى هذه الساعة.
الجزء الثاني: مشروع الموحّدة
في الجزء الأول وقفت عند تجربة المُشتركة وفي الثانية عند عوامل العمق وهنا أتوقّف عن “الموحّدة” وخطابها ومعاني حضورها.
ـ حتى انشقاقها من “المُشتركة” تتحمّل “الموحّدة” كامل المسؤولية عما اعترى المُشتركة من ضعف بنيوي ومن أداء فاتر على مستوى التمثيل والقيادة. لا منصور عباس ولا زملاؤه يستطيعون التبرُّؤ من “دم يوسف”. كلّهم كانوا هناك.
ـ لا يحمل انشقاقهم أي بُشرى ولا أي نهج جديد إلّا إذا اعتُبر الاستعداد الذهني والمبدئي للاصطفاف بجانب مشرّعي قانون القومية “نهجًا”. كل ما في الأمر أن مبنى القوى الذي نُشغل فيه الحلقة الأضعف يُنتج كلّ يوم ظواهر عجز وتراجع ويأس وتواطؤ وتماهٍ مع القاهرين ـ و”الموحّدة” من هذه الأصوات.
ـ “الموحّدة” هي تعبير عن إرادة واضحة لفرز المُجتمع العربيّ هنا بين “مُسلم” و”غير مُسلم” تحت غطاء الإيمان وعدمه والتدين والعلمانية ومؤيّد لمجتمع المثليات والمثليين ومناهض له ـ هذه كلها كلمات لغسل عملية الفرز الذي تقصده ـ مسلمون وغير مسلمين بقصد قاصد. نهج للإسلام السياسيّ في الإقليم وهو ليس جديدا. تمّ تجريبه هنا من قبل وها نحن نراه مرة أخرى بصيغة “الموحّدة”.
ـ معركة الإسلام السياسيّ في غالبية المواقع هي معركة للسيطرة على المجتمع لا لمواجهة السلطة. يكتفي بوضع يده على المجتمع ومقدراته ومستعدّ للتطابق ـ التواطؤ ـ مع كل سلطة بما فيها السلطة الإسرائيلية التي ستفرح كثيرا بالموحّدة وتنتدبها في قمع المجتمع والحريّات فيه باسم الدين فلا حاجة للشاباك وأقبيته وإرهابه ـ ومن ثمّ سيظلّ تفوّق اليهودي الأخلاقي والثقافي حاضرًا وسيقولون لنا كما في حال الجريمة المنظّمة والتقتيل ـ هذا أنتم وثقافتكم ولسنا نحن!
ـ الحملة الانتخابيّة لـ”لموحّدة” التي قامت على تسويد سمعة وصورة الخصم ـ وهو المشتركة حصراً وليس أي أحد في المنظومة العنصريّة ـ والانقضاض عليه بالشائعة والافتراء والكذب والتحريض قصد نزع شرعيّته تشبه حملات اليمين الإسرائيلي ضد العرب جميعا. لكن الأخطر هو أنها تعني غياب كل مسؤولية عن نتائج ذلك وعن النُدب التي تُحدثها حملة كهذه في جسد المجتمع خاصة وأن تجمعات سكانية كثيرة مشتركة. والأبعد هو أن الموحّدة بهذه الحملة إنما تؤشّر على أخلاقيات سياسية لا تعترف بخطوط حمراء ولا كوابح ـ الدين هنا يعمل معكوساً.
ـ حصر الحملة الانتخابية في خصم/شقيق/شريك الأمس القريب ومن المجتمع والبلدة والحي والشارع وبأسلوب السلطة نفسها مع العرب والصمت شبه التام عن المنظومة العنصريّة وسياساتها ليست مسألة حسابات انتخابيّة بل هو الخط والمسار. نضرب في مجتمعنا لنثبت أننا جديرون بالدخول في رقصة التانغو مع القاهرين. وهو ما دلّ عليه سلوك منصور عباس وتصريحاته في السنة ألخيرة على الأقلّ التي تهمز وتومي للسلطة أو للسيّد اليهودي أنه مستعدّ للرقصة مهما يكن الثمن. أو بكلمات أخرى فضّلت “الموحّدة” وستفضّل الرقص مع السلطة على أن تكون شريكة في مجتمع مع شركاء من داخله. فليتمزّق المجتمع المهمّ أن “نربح”!
ـ ترفع “الموحّدة” بألسن رموزها والمروّجين لها من شيوخ ودُعاة خطابًا مشتقاً من النصّ الديني وهو خطاب له سقف واطئ جدّا بكل المعاني في حدوده السياسية وفي مؤداه السياسي وتستطيع السلطة العنصرية في إسرائيل التعايش معه واستثماره ضد المجتمع العربي وقواه الفاعلة. مسائل قومية سياسية كالقضية الفلسطينية على ملفّاتها واستحقاقاتها تظل خارجه. لأن قاموس المفردات اجتماعي والعالم مرسوم على مقاساته وهكذا الرؤى. وهكذا مسألة الحريّات السياسيّة والشخصية وقضايا المرأة ـ تستطيع أن تنتظر قرنا أو قرنيْن ـ أما الهجمة على مجتمع المثليين والغيريين جنسيًا فهي مثال على ما يُمكن أن تقوم به “الموحّدة” وأتباعها تجاه هذه القضايا.
ـ رفع الخطاب الديني واستعماله في السياسة ليس جديداً. وهو يُحقق عدداً من المآرب ويسدّ عددا من الاحتياجات، ومنها: ما دمنا نؤمن بالله فالكون بخير وكل شيء يصير إلى ما يشاء ولما فيه الخير ـ غيبية باعثة على الاطمئنان. ما دمنا متديّنين فقط فسننجو بأنفسنا من إجراءات القاهرين الذين سيغضّون الطرف. كل ما نريده أن نصليّ ونقيم الفرائض لا مطالب لدينا أبعد ـ لا حق تقرير المصير ولا مناهضة العنصرية ولا إقامة دولة واستعادة الوطن والأرض ـ على العموم هذا هو العربيّ الذي تحاول السلطة الإسرائيلية أن تُنتجه. وها هي الموحّدة تفصّل المجتمع ليدخل في القالب. وأتمنى أن يفشلوا في إدخال كلّ المجتمع في الكشتبان.
ـ عملية الفرز الطائفي الديني للمجتمع كما مارستها “الموحّدة” وستمارسها ستستجلب حركات مضادة. وإذا كانت “المشتركة” على علّاتها تشكل عملية ربط وتوصيل الأجزاء فإن “الموحّدة” تفكك المجتمع ـ كمجتمع عربي فلسطيني ـ وتجعله طوائف دينية كما رسم لها العثماني في نظام الملّة وكرّسها الانتداب البريطاني والقانون الإسرائيلي لاحقاً. ومثل هذا التفكيك يكرّس العصبيات ويُغذيها نحو مزيد من توتّرات وعنف. يُشار مثلا أن هذه التوترات في المغار 2006 أحدثت ترانفسير غير معلن للسكان المسيحيين بأيدي جيرانهم الدروز. والتوترات حول شهاب الدين في العام 2000 أحدثت ترانسفير مشابها للمسيحيين بأيدي “أخوانهم” المسلمين!
ـ أنا من الذين يعتقدون بأنه لا يُمكن تحقيق أهداف نبيلة بطرق غير نبيلة وعنصرية كما فعلت “الموحّدة”. أسلوبك هو أنت. وأسلوبهم كان قبيحًا ونذلًا لا تنظّفه كل النصوص الدينية وكلّ المدوّنة التراثية وخُطب الجمعة.
ـ شخصيًا لا تخدعني الكُثرة ولا تُقنعني خاصة عندما تنحو منحى عنصريًا مستعليًا. واليمين الإسلامي هنا في حالتنا لا يختلف في شيء عن اليمين العنصري اليهودي الديني على وجه الخصوص ـ وصول الموحّدة إلى الكنيست بأربعة مقاعد لن يكوي وعيي كما لم يكوِه انتصار المشروع الصهيوني على فلسطين ولا هيمنة نتنياهو على السلطة هنا.
ـ ما أحدثه منصور عباس لحركته “الإسلامية الجنوبيّة” لم يمرّ مرّ الكرام. فقد عرفنا عن خلافات شديدة معه في كل الهيئات. أناس من صلب الحركة ومن رموزها عارضوا خطّه هذا ويُعارضونه إلى الآن. وهذا هو مصدر أمل أن الأمور يُمكن أن تتعطّل وأن مشروعه قد يتوقّف. ومع هذا فإن الضرر قد حصل وهو كبير. والآن كل العقلاء في مجتمعنا سينشغلون في البحث عن الحجر الكريه الذي رماه منصور عباس في وجدان الجماعة.
عن ملتقى فلسطين
مرزوق الحلبي
حقوقيّ ومستشار استراتيجي ومنسّق المجموعة الفلسطينية في الداخل للتفكير الاستراتيجي ومتخصّص السياسة في دول الشرق الأوسط