بلا منها طاولة السّفرة يا حلو أنتا!

في زمانٍ فات، كانت بيوتنا واسعة، بحجم قلوب الجدات، كانت عبارة عن غرف عديدة تصطف بجانب بعضها وتفتح أبوابها على فناء كبير نسميه ""قاع الدار"" بعضه مكون من الرّمل، والبعض الآخر مرصوف بالبلاط، وهناك من كان في منزله شجرة زيتون أو ليمون، أو مرفق به حاكورة صغيرة مزروعة بالعديد من أشجار البلاد المثمرة.

في هذا البراح الكبير نشأ الأطفال وهم يعرفون الرّمال والسّماء والأشجار، مستعينين بما تيسّر من أدوات اللّعب التّقليديّة مثل: الدّراجات الهوائيّة، والدّواحيل، والألعاب الشّعبية المتوارثة شبه المنقرضة الآن، التي تحتاج في تنفيذها إلى المكان الواسع، والرّمال، وبعض الأدوات مثل زجاجات العصير والمياه والأشياء المستعملة، إذ كان ينتهي يوم الأطفال بملابس متسخة، والكثير من الفرح والتّعب الذي يجعلهم ينامون قبل العشاء.

يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي ""رينيه شاتو"": ""اللّعب هو عمل الطّفل"" فالأطفال يكتشفون علاقتهم مع محيطهم من خلال اللّعب، كما ويبنون تلك العلاقة تبعًا إلى طريقة وأسلوب احتكاكهم بتلك الأشياء المحيطة لأن اللّعب الحر يمثل أحد أهم العناصر الأساسيّة لتطور الطّفل على الصّعيد المعرفي والاجتماعي والإدراكي. فمن خلاله يستطيع تعلم مفردات جديدة وأساليب حل المشكلات من خلال الحوار الذي يدور بين الأطفال حول موضوعاتهم، فذلك الحوار مهم أكثر من حواره مع البالغين، لأنه في حواره مع أقرانه يضطر للشرح والتّوضيح واستعمال الأمثلة والإشارات لتوصيل رسالته للطرف الآخر، أما في حالة البالغين فإنّ الطّفل لا يبذل ذلك الجهد من أجل توصيل رسالته لأنَّ البالغ سوف يفهم ضمنيًا ماذا يريد الطّفل وسيقوم بتلبيته دون الدّخول في ذلك الحوار الذي يساعد الطّفل على تعلم مفردات وطرائق جديدة في المعرفة، وأساليب الاتصال والتّواصل مع الغير.

يقول متخصّص علم النّفس التّربوي ""دي بيل جريني"": ""يكتسب المرء المهارات الاجتماعيّة من خلال نصائح المدرسين حول السّلوكيات، وإنما يتعلم تلك المهارات من خلال التّعامل مع أقرانه، ومعرفة الأمور المقبولة وغير المقبولة"".

يعتبر البيت هو بيئة التّنشئة الأولى للطفل، لهذا يجب علينا أن نبني المنازل لتكون بيئة صحيّة للأطفال، وليست بيئة تفاقم الأزمات وتحد من الإبداع، في ظل التّقدم الاستهلاكي الرّهيب الذي نعيشه في منازلنا التي نحاول بكل جهد أن نجعلها سجون جميلة، فنهتم لكل الأشياء غير المهمة من اقتناء الأثاث وبهرجة الصّالونات، والاستعانة بديكورات لا تتوافق والحياة التي نعيشها بشكل واقعي، فنفرش بلاط الشّقق والبيوت بأنواع كثيرة من السّجاجيد التي لا لزوم لها، وطاولة السّفرة وغيرها، وبهذا تصبح الحركة داخل المنزل تشبه عمليّة تسلّل يحاول الشّخص فيها ألا يصدم مزهريّة هنا، أو قطعة أثاث مزروعة وسط الصّالون دون أي حاجة لها.

هذه الأنماط منتشرة جدًا في بيئتنا الفلسطينيّة، وخاصة في قطاع غزة الذي ضاقت منازله الرّحبة، واختفت منه الحواكير، وقاع الدّار، وتحول المنزل الواحد القديم إلى منازل عدة صغيرة بفعل تقسيمها بين المقيمين فيها بفعل الزّواج وزيادة عدّد أفراد الأسرة، حتى أضحى كلّ غرفة بيت، أو مقبرة تشبه البيت!

في الدّول التي تهتم برعايّة الطّفل تعمر المنازل فيها بناء على منظومة تخطيط محكمة تراعي حاجة الأطفال للعب، وحاجة الأهل ليكون المنزل مناسب للراحة النّفسية التي تساعدهم في استكمال حياتهم بالشّكل السّليم، نجد أن هناك مرافق عامة ومتنزهات قريبة من المنازل ومجهزة بالألعاب والأمور المساعدة لكي يمارس الأطفال اللّعب بشكل حر يضمن احتكاك معقول بالمحيط المادي لهم، فلعب الأطفال أمر مهم فإن كان له الأثر الكبير بأن يصبحوا اجتماعيين، فإن حرمانهم منه سوف يعيق عمليّة التّطور الاجتماعي وبناء علاقة إيجابيّة مع مكونات البيئة سواء الأقران أو الأشياء المحيطة من شجر وحجر.

جاء في دراسة للطبيب النّفسي ""ستيوارت براون"" أنَّ الطفولة التي تشهد حرمانًا من اللّعب تُخِلُّ بالتّطور الاجتماعي والعاطفي والإدراكي الطّبيعي لدى البشر والحيوانات.

وإن الخلّل هذا قد يؤدي إلى خلق جيل مضطرب غير سوي اجتماعيًا، والمشكلة العظيمة هنا هي الحد من لعب الأطفال داخل المنازل أو منعه تمامًا بحجة عدم تخريب محتوياته، وقد يلجأ بعض الأهل إلى معاقبة الأطفال بسبب لعبهم داخل المنزل وتخريب محتوياته، وهنا تحدث الصّدمة للأطفال فتجعلهم يدخلون في موجة من الخوف والاكتئاب، وربما العزوف عن اللّعب بشكل نهائي واللّجوء إلى الألعاب الإلكترونيّة خوفًا من وقوع العقاب عليهم إذا مارسوا ألعاب الحركة داخل المنزل، لأنهم حتمًا سيخربون محتويات البيت الذي لا يتسع للمشي فيه بسبب ما يحتويه من أشياء لا لزوم لها، عوضًا عن ممارسة اللّعب.

أهلي من الآباء والأمهات، يعتبر اللّعب الحر المفعم بالنشاط والحركة أكثر أنواع اللّعب أهميّة في تكوين وصقل شخصيّة الطفل مقابل الألعاب المنظمة أو الإلكترونيّة، وهذا المقال هو لفتة بسيطة لكم بأن تريحوا أنفسكم من عناء المظهر، وألا تجعلوا من الشّقق السّكنية سجون جميلة كي نفتح لأولادنا نافذة حياة قدر المستطاع لنساعدهم على النّمو بشكل سليم، سيما أننا نعاني من قلة المال، وقلة المرافق العامة المعدة للعب، فقد خرج أطفالنا من العدوان الأخير بنسبة 90% منهم يعانون من اضطرابات وصدمات نفسيّة، والبيت كما قيل هو ملعب الطفل الأول، فهيا لنهيئ هذا البيت ليكون مكان استشفاء لأطفالنا، وليس محبس نمنعهم فيه من الحركة بحجة الحفاظ على الأثاث وشكل البيت المرتب...( وبالناقص منه طقم الكنب الجديد اللي بنقعد عليه من العيد للعيد).

من موقع زوايا

محمود جودة

كاتب وصحافي فلسطيني

رأيك يهمنا