الهبات الشعبية الفلسطينية: تأملات في مساهماتها التاريخية وطرق التعامل معها

الهبات لغة هي جمع للفظة ""هبة"" وهي الفورة لمرة واحدة أو هي ذروة تشق حال المجرى الرتيب للأشياء لفترة قصيرة، ثم سرعان ما تعود إليه. أما اصطلاحاً، وفي مجال النزاعات التاريخية طويلة الأمد على وجه التحديد، فهي فورة لمرة واحدة تحمل في طياتها كسر للرتابة وروتين السير المألوف محدثة تغييرات في وعي المفاهيم وطرق تفسيرها لسير الواقع، وتحمل في طياتها أحيانا كسر أو شرخ أو تشوه في العمليات التاريخية الجارية، وهي تستوجب من أطراف الصراع تقييمات تقود لتفسيرات جديدة لحركة التاريخ الدائبة. وفي سياق الصراع الصهيوني -الفلسطيني، يزخر تاريخ هذا الصراع بأحداث اصطلح عليها باسم ""هبة "" إذا كانت قصيرة الأمد و""انتفاضة "" إذا طال الأمد أكثر، و""ثورة"" إذا كان الحدث طويلاً ومكثفاً وحمل في طياته تغييرات جذرية. وبعض الهبات ما حمل طابعاً محلياً كهبة القدس (1920) وهبة يافا (1921)، وبعضها ما بدأ محليًا ثم تطور ليكون قطرياً عاماً كهبة البراق في القدس (1929) وهبة وادي الحوارث (1933). أما بعد حرب ونكبة 1948 فقد عادت هذه الهبات لتكون جزء من سلوك أبناء الأقلية العربية الفلسطينية الذين أصبحوا مواطنين في دولة إسرائيل. بعضها كان ليوم واحد كيوم الأرض الحاصل في الثلاثين من آذار 1976 والذي أضحى يوم ذكرى سنوية لهم وسرعان ما غدا يوم ذكرى لكافة أبناء الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده في الوطن والشتات، وبعضها كان لعدة أيام كهبة القدس والأقصى في تشرين أول 2000 أو هبة الكرامة في أيار 2021.

والمتأمل لسيرورة الهبات قبل وبعد نكبة وحرب 1948 بوسعه أن يلحظ الميزات التالية:

تقع كلها على محور عرضي للصراع الصهيوني – الفلسطيني ومن الضروري رؤيتها بهذا المنظار وغير منقطعة عنه.

تمحورت جميعها حول وترين أساسيين من أوتار الصراع: الأرض والأماكن المقدسة وكل ما يتعلق بهما، بحيث كان أي مس بأحد هذين الوترين أو كليهما كافيا لحدوث هبة جماهيرية رافضة لهذا المس.

كانت الإرادة الجماهيرية الشعبية سابقة لإرادة المنظومة السياسية التمثيلية وفي بعضها حدثت رغماً عنها. وفي معظم الحالات كانت قيادات المنظومة السياسية التمثيلية تنجر انجرافاً غير محسوب وغير مخطط له ويتميز بعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية الكفيلة باستثمار الهبات الشعبية خير استثمار وتوجيهها خير توجيه.

في ظروف غياب الرؤية الاستراتيجية الحصيفة للقيادات الفلسطينية، واقتصار الأمر على ردود الفعل ليس إلا، وفي ظل مراوحة الهبات في سيرها على المحور العرضي للصراع، كان الطرف الآخر للصراع (المؤسسات الصهيونية) يدير أموره لتسير على شكل دالة تصاعدية نحو أهداف استراتيجية عليا وضعت مع بداية المشروع الاستيطاني اليهودي لفلسطين عام 1882 وما زال تنفيذها، حسب ما خطط له، ساري المفعول حتى أيامنا وذلك رغم كل الهبات والانتفاضات والثورات المذكورة أعلاه وغيرها. وترتكز هذه الأهداف على عملية مدروسة جيداً تهدف للسيطرة على الأرض وتهويد معالمها وإعطاء ذلك الشرعية من خلال التبريرات الأخلاقية التي تعطيها رواية تاريخية يصرف عليها الغالي والنفيس.

عملية توثيق وتخليد هذه الهبات وإعطاء أبطالها ورموزها الاهتمام اللازم الذي هم جديرون به، لم تتكامل بعد ولم تتطور لقصة سردية كاملة ومتكاملة تروي وجهة النظر الفلسطينية بمهنية وحرفية وتعمل على الكشف عما قامت به الرواية الأخرى بتصوير أحادي متجند لمجريات أحداث وتفاصيل الصراع ومردوداته على مدار نحو 140 سنة من الصراع الدموي المرير.

وحيال كل ما قبل أعلاه من ميزات لهذه الهبات ولقضية تثبيتها على محاور الذاكرة ، يجدر بأن أن نحدد المواقع التي هي بحاجة لتحسين رغم قسريات الظروف والقيود التي تفرضها موازين القوى على الأرض والتي تميل بشكل واضح لصالح الطرف الآخر وذلك على مدار عقود عديدة ، ناهيك عن معادلات دولية تصب في صالحه وتغمط حق الفلسطينيين بشكل واضح وممنهج وذلك بسبب انحياز واضح للقوى العالمية التي قامت بتقسيم "" الكعك "" على المفارق التاريخية العظيمة إن كان ذلك بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى (منح الحركة تصريح بلفور ومن ثم نقله ليكون ركنا أساسياً لسياسة الانتداب في عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي )، وإن كان الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (فرض قرار التقسيم ودعم مطلق لإسرائيل منذ إقامتها وحتى أيامنا) . وبالرغم من كل ذلك (وهو أمر ليس بقليل)، يجدر بالفلسطينيين إجراء عملية تقييم شاملة وعميقة ولا غرو أن تكون مؤلمة في بعض الأحيان، تهدف لتصليح مسار المحور العرضي باتجاه محور دالة تصاعدية ترتقي لمستوى الأحداث وتتعامل بالندية مع المشروع الآخر بعيدا عن البكائيات والبحث عن الدعائم والركائز لدى من لا تتوفر لديه لا النوايا ولا القدرات لفعل ذلك. ولعل أولى الخطوات التي يتوجب عليهم فعلها بعد عملية التقييم والتقويم التخلص من حالة التشرذم والانقسام والتي تواكب النشاط الوطني الفلسطيني منذ بزوغ فجره ومصدره ما زرعه الولاة والمستعمرون من بذور الفتنة والفئوية المبنية على تقديس دوائر الانتماء الصغيرة والعمل على ترسيخها بدلاً من دوائر الانتماء الكبرى، التي شكلت في الماضي وما زالت تشكل في أيامنا هذه، خطراً على مصالح الأغراب ومآربهم والتي لا تستقيم ولا تتحقق إلا بترسخ الانقسام وحالة الشرذمة. فالخطوة الأولى يجب أن تكون الامتناع عن التماثل مع مصالح الدول الاستعمارية الكبرى وجرائمها ولفظ كل من يتماثل ويتعامل مع هذه المصالح.

تصوير: صحيفة ""حديث الناس""."

بروفيسور مصطفى كبها

باحث ومحاضر في موضوعي التاريخ والإعلام ورئيس دائرة تاريخ الشرق الأوسط في الجامعة المفتوحة

شاركونا رأيكن.م