العقلية الأمنية في خدمة الإفلات من المسائلة والعقاب!

في الثامن والعشرين من أيلول 2000، خرج الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني من الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني بمظاهرات احتجاجية، أسفرت عن قتل وجرح الكثيرين، جراء إطلاق قوات الأمن الإسرائيلية النارَ عليهم. فزيارة أريئيل شارون، زعيم المعارضة آنذاك، الاستفزازية للحرم القدسيّ الشريف، برفقة عشرات من رجال الأمن، أدت إلى اندلاع مواجهات أسفرت عن استشهاد شبان فلسطينيين. تعتبر الانتفاضة الثانية عنصرًا مؤسسًا في الذاكرة الجماعية الفلسطينيّة عامة. وفي الداخل الفلسطيني فان مقتل 13 شهيدًا معظمهم (12) من مواطني الدولة أضاف إلى الحدث العام جانبًا خاصًا أضاء الضوء على جانب علاقة دولة اسرائيل بمواطنيها الفلسطينيّين.

مقتل الشهداء أيًا كانوا هو مدعاة للمسائلة والفحص حتى في ساحات الاقتتال. ومن البديهي أن يكون مقتل 13 مواطنًا في غضون 8 أيام على يد قوات أمن الدولة هم مواطنون فيها مسببًا إضافيًا لمسائلة قانونية خاصة. وقد أدى النضّال الجماعي لعائلات الشهداء الـ13 بقيادة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني إلى إقامة لجنة تحقيق رسمية. وفي 8 تشرين أول من عام 2000 جرى تعيين لجنة تحقيق رسمية للتحقيق في المواجهات بين قوّات الأمن ومواطني الدولة الفلسطينيين التي أسفرت عن مقتل 13 شهيدًا وجرح المئات. سمّيت اللجنة كـ""لجنة أور""، نسبة إلى القاضي ثيودور أور الذي ترأسها. أقرت لجنة أور أنه لم يكن هناك مبررًا لإطلاق النار ومقتل نحو 13 شابًا عربيًا لأن القتلى لم يخاطروا على سلامة أي من عناصر الأمن. كما تطرقت بتقريرها إلى عدة أمور وخروقات تخلّلت عمل الشرطة وعلاقتها مع المواطنين العرب، كذلك لأمور عامة تطرّقت للغبن التاريخي اللّاحق بالمواطنين الفلسطينيّين فيما يتعلق بالأمور المدنيّة والاقتصادية والاجتماعية. انتقدت اللجنة استخدام القناصة، المخالف لتعليمات إطلاق النار، من أجل تفريق المظاهرات وذكرت أن استعمال القناصة ضد المتظاهرين كان أول مرّة منذ عام 1948.

مع حلول الذكرى ال-21 للانتفاضة الثانية وبسياق فلسطيني الداخل لا بد لنا دائًما أن نذكر بأن الحدث المركزي كان ولا زال استشهاد ال-13 شابًا ومساهمة أجهزة تطبيق القانون الإسرائيلية الرسمية بإفلات أفراد الشرطة وممثلي السلك السياسيّ من المسائلة القانونية والعقاب. نذكر تحديدًا الدور الذي لعبته وحدة التحقيقات مع أفراد الشرطة التي أغلقت كل ملفات التحقيق ودعم المستشار القضائي للحكومة والنائب العام للدولة (الذي بنفسه شغل منصل مدير ""ماحاش"" قبل توليه منصب النائب العام) لهذه الوحدة وعدم توجيه أي لوم أو انتقاد لإخفاقاتها وتقاعسها في التحقيق الجدي بجرائم القتل التي نفّذها أفراد الشرطة.

قد يسأل كل منّا فيما إذا كان أداء وحدة التحقيق أبان الأحداث هو انعكاس لسياسة من ترأسها ""هرتسل شبيرو"" أم انه أداء ينم عن سياسة تقاعس واهمال متأصلة في عملها وموجهه تحديدًا ضد الفلسطينيين. وهل كان أداء النائب العام للدولة آنذاك ""عيران شيندار"" الذي لم ير أي تضارب مصالح بين منصبه كنائب عام للدولة من جهة والمسؤول عن فحص اخفاقات أداء وحدة ""ماحاش"" التي رأسها بمنصبه السابق، أداء استثنائيًا خاصًا به شخصيًا؟

تأتي جريمة قتل المربي يعقوب أبو القيعان عام 2017 على يد أفراد الشرطة لتذكرنا أن الخلل بأجهزة تطبيق القانون والسماح بالعمل وسط تضارب المصالح هو أمر بنيوي وغير متعلق بمن يرأس هذه الوحدة أم تلك. ويتسم هذا الخلل بالسعي اللا-متناهي نحو تبرير عمل أفراد الشرطة ""وتبيض صفحتها"" بدل إشغال أصحاب المناصب الرفيعة، كالنائب العام، دور الرقيب الأعلى، على أفراد الشرطة ومدى إساءة استعمالها لصلاحيتهم باستعمال العنف نحو مواطني الدولة إلى حد قتلهم.

استشهد المربي يعقوب أبو القيعان برصاص الشرطة يوم 18 من شهر يناير عام 2017 خلال مداهمة قرية أم الحيران غير المعترف بها في النقب. وكشفت أقوال شهود العيان أن المرحوم أبو القيعان كان قد أصيب برصاص الشرطة خلال وجوده في سيارته ودون أن يشكّل أي خطر على أفراد الشرطة. وبعد إصابته بالرصاص، فقد الشهيد السيطرة على السيارة التي كان يقودها الأمر الذي أدى إلى انحرافها باتجاه مجموعة من أفراد الشرطة الذي قتل أحد عناصرها نتيجة للدهس غير المتعمد. وبحسب الشهادات، بقي الشهيد في سيارته مصابًا ينزف طوال ساعات طويلة منعت خلالها الشرطة الطواقم الطبية الوصول إليه لتقديم المساعدة له.

إن التشابه بين قضية مقتل الشهيد أبو القيعان وشهداء الانتفاضة الثانية من فلسطينيّ الداخل لا يكمن فقط بجزئية إطلاق نار وقتل مواطن فلسطيني من دون مبرر. ولا يكمن التشابه فقط بقرار وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة إغلاق الملف ضد الشرطة ومنحهم العفو المسبق من المسائلة والعقاب، بل أبعد من ذلك. فقد تم الكشف بالأعلام الإسرائيلي عن تواطؤ سلطات إنفاذ القانون كالنائب العام للدولة الذي من المفروض ان يكون الرقيب على وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة وحريص على محاكمة كل من يخرق القانون، وامتناعه عن التحقيق مع النائب العام للشرطة روني الشيخ والذي قام بمغالطة الجمهور وإدلاء بتصريحات كاذبة تصف المرحوم أبو القيعان ""بالمخرب"". وفيه بيانه للصحافة الممتنع عن محاكمة أفراد الشرطة أوضح نيتسان أنه ليس بالامكان التأكد فيما اذا المرحوم أبو قيعان كان قد تعمد دهس الشرطي لأسباب قومية أو أنه قتله كان نتيجة لفشل ميداني لدى أفراد الشرطة. وأخفى نيتسان عن الملأ نتائح تحقيق ضابط الشاباك الذي تولى التحقيق في حيثيات الجريمة بأم الحيران والذي أكد أن استشهاد أبو القيعان نابع من فشل بعمل الشرطة وبأن الشهيد لم ينفذ عملية دهس. فضّل ""نيتسان"" التمسك بموقف القائد العام للشرطة وتصويره بأنه جائز متجاهلًا تقرير المخابرات وذلك من أجل تسهيل التوصل لنتيجة إغلاق الملف بدل محاكمة أفراد الشرطة. ويخدم هذا الموقف ""نيتسان"" بحسب الكشف بالإعلام الاسرائيلي رغبته عدم التصادم مع جهاز الشرطة ومن يرأسه ونزع الشرعية عنه كي لا يتم استخدام ذلك على يد رئيس الحكومة انذاك ""بينيامين نتانياهو"" الذي شن حربًا ضد ""نيتسان"" والشرطة بسبب نية محاكمته بقضايا الرشاوى. اختلاط الأوراق هذا ما بين أجهزة القانون والجهاز السياسي كان ولا زال البوصلة التي توجه عمل مؤسسات تطبيق القانون وليس المصلحة العامة بمحاكمة كل فرد يخرق القانون شرطيًا كان أو مواطنًا.

من الصعب جدًا اختزال علاقة الدولة بمواطنيها منذ أحداث الانتفاضة الثانية عام 2000 فقط من باب منهجية سياسة الإفلات من مسائلة افراد الشرطة المسؤولين عن قتل المواطنين الفلسطينيين. فالتوصيات الأخيرة لمعالجة تفشي ظاهرة العنف بالمجتمع الفلسطيني بالداخل بواسطة جهاز المخابرات ووحدات المستعربين تذكرنا أيضًا بقسم هام من تلخيصات لجنة أور قامت فيه بعرض الدور السلبي وغير القانوني لجهاز المخابرات العام في تحديد السياسة الحكومية تجاه الفلسطينيين. قراءة مجددة لتوصيات لجنة اور تفضي إلى نتيجة واحدة وهي أن العقلية السائدة تجاه المواطنين العرب كانت ولا زالت العقلية الأمنية التي ترفض النظر إليه كمواطنين يستحقون الحماية القانونية والحياتية سواء كانوا ضحيّة جرائم أفراد الشرطة أم ضحية عصابات إجرام.

تصوير: أورن زيف وموقع ""سيحا مكوميت""."

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م