المدارس ثنائيّة اللّغة ومهارات إدارة الصّراع اليومي!
في العام 2004 افتتحت المدرسة الفريدة ثنائيّة اللّغة أبوابها في كفرقرع، ""جسر على الوادي""، كانت جسرًا يهدف إلى جمع الأطفال والنّاشئين اليهود والعرب في منطقة وادي عارة تحت سقف واحد، يتعلمون ويتلقون تربيّة مبنيّة على المساواة بين العرب واليهود. بعد هذه التجرية، بدأت مدارس أخرى تفتتح في عدّد من مدن البلاد، وقامت جمعية أهليّة تربويّة بتشغيل مسار ثنائي اللّغة في عدّد من المدارس أيضًا. إنّ ما يميّز هذه المدارس ويجعلها نموذجيّة وفريدة – حتى بعد سنوات طويلة على قيامها – هو التّدريس باللّغتين العربية والعبرية جنبًا إلى جنب. لا تسارع وزارة التّعليم إلى دعم هذه المدارس والاعتراف بها كمدارس رسميّة، لكنها لا تعارض وجودها إذ تعترف بإحداها وهي مدرسة الجليل ثنائيّة اللّغة.
ما من شك أنّ هذه المدارس التي تسعى إلى خلق بيئة مختلفة تمامًا عن الفصل الذي تربينا عليه – بين العرب واليهود – لكنها من جهة أخرى تخلق تحديات عديدة للطلاب والطّواقم التّدريسية والأهالي.. وربما لوزارة التّعليم أيضًا! حتى العام 2019 كانت هناك 8 مدارس ثنائيّة اللّغة، تتبع خمس منها لجمعية ""يد بيد"" في القدس وكفر قرع والجليل (مسجاف) ورياض أطفال في حيفا ويافا. مدرسة في بئر السّبع وأخرى في واحة السّلام.
في العام 2014 نشرت صحيفة هآرتس العبرية خبرًا بقلم الصّحفي نير حسون مفاده أنّ مدرسة ثنائيّة اللّغة في القدس تعرضت للاعتداء إذ أضرمت فيها النيران. جاء هذا الحادث في فترة العدوان على غزة والحملة العسكريّة التي أطلقت عليها إسرائيل اسم ""تسوك إيتان"" – يبدو أن هذا الاعتداء بغض النّظر عن قومية مرتكبيه؛ جاء لتمرير رسالة حول طبيعة العلاقات الإسرائيليّة الفلسطينيّة، حيث تعتبر هذه المدرسة كشائبة.
من خلال الاطلاع على منشورات الجمعيات التي تقف وراء هذه المدارس، وقراءة أهدافها ورؤيتها، تظهر النّوايا إيجابية للغايّة، لكن الواقع يفرض نفسه ويترك أثرًا على مصير هذه المدارس، أولها عدم التّناسب بين أعداد الطّلاب اليهود والعرب فيها.
فمدرسة ""جسر على الوادي"" كانت تتسم بوجود عدّد متساوٍ تقريبًا من الطّلاب العرب واليهود، لكن في العام 2011 بدأت تظهر بوادر انسحاب اليهود من المدرسة، إذ كان عدّد الطّلاب العرب 105 مقابل 23 يهوديًا. وقد عزت الجمعية ذلك إلى الوضع السّياسي المتقلب وتفاقم الجريمة في البلدات العربيّة.
عبير جبران دكور، محامية، وأم لطفلتين هما لويزا (10 أعوام) وريتا (8 أعوام ونصف) تسكن منطقة القدس، وتدرس بناتها في مدرسة ثنائية اللّغة تتبع لجمعية ""يد بيد"".
تقول عبير عن السّبب من وراء اختيارها لمدرسة ثنائية اللّغة: ""السبب الأساسي لاختيارنا مدرسة ثنائية اللّغة هي عدم وجود بدائل في القدس للسكان الذي أتوا من مناطق أخرى ويحتاجون التعلّم بنظام بجروت ولغة عبريّة، وجو يشبه أجواء المدارس في الشّمال؛ ففي نهاية المطاف وبعد المرحلة الثّانوية أنا أريد لابنتيّ أنّ تدرسا في الجامعة"".
وتضيف عبير: ""منذ جيل سنة دخلت ابنتي الحضانة فيYMCA وهي حضانة مختلطة تجمع عربًا ويهودًا وأجانب. تربيتا على وجود لغتين، وعلاقات مفتوحة يرى فيها الأطفال بعضهم كأفراد دون علاقة لقوميتهم أو جنسيتهم. بعد أن وصلتا إلى جيل المدرسة رأينا أنه من الطّبيعي استمرارهما في مدرسة تعمل بنفس الأسلوب ونفس المبدأ"".
وحول التّسجيل للدراسة في مدرسة ثنائيّة اللّغة تقول عبير، مؤكدة ما ذكرناه سابقًا عن مدرسة كفرقرع: "" لم يكن الأمر سهلًا أبدًا. انتظرنا 3 سنوات حتى تمكنا من تسجيل البنات في المدرسة لأن عدّد الطّلاب العرب المتسجلين يفوق عدد الطّلاب اليهود"".
حول التّحديات والثّغرات في هذا النّظام من التّدريس تقول عبير: ""إحدى أهم المشكلات في المدرسة هي فصل الطّلاب في دروس اللّغات! كانت ابنَتاي تتحدثان اللّغتين في مرحلة الحضانة، لأنهما سمعن وتحدثن لغتين، أما الآن فالعرب يدرسون العربيّة واليهود يدرسون العبريّة، وأعتقد أن هذا أحد أسباب عزوف الطّلاب اليهود الذين لا يشعرون بالفائدة ولا القدرة على اكتساب اللّغة الأخرى. من ناحيّة أكاديميّة هناك إشكاليات أيضًا، وهناك ثغرات ونواقص في طرائق التّدريس، إذ تدفع أعدادًا كبيرة من الأهالي إلى نقل أولادهم لمدارس يهوديّة بعد الصّف السّادس"".
وتضيف: ""هناك الكثير من العائلات التي لم تختر هذه المدرسة بسبب المبدأ، وهذا يؤثر جدًا على أجواء الفعاليات الاجتماعيّة واللامنهجيّة، ويتضح الأمر بشكل جليّ في المناسبات عندما يحضر الأهالي اليهود بأعداد أكبر من الأهالي العرب، كما يتضح من خلال اقتصار العلاقات على الفعاليات المدرسيّة دون أن تخرج من هذا النّطاق لتكوّن علاقات صداقة طبيعيّة"".
على الرّغم من النّواقص، كان من الواجب فحص القيمة المضافة لهذه المدارس، صابرين مصاروة معلمة سابقة في مدرسة ثنائية اللّغة تقول: ""القيمة المضافة للدراسة في مدرسة ثنائيّة اللّغة هي تعوّد الفرد على روايّة روايته بشكل أفضل، وتقويّة علاقته مع هُويته. هذه مهارة تتطلب البحث والمعرفة والدّراية، ومن جهة أخرى شحذ القدرة على محاورة الآخر. عندما نكبر سويًا ويعرف أحدنا الأخر ونعرف كيف نعامل بعضنا مع بعضٍ، لكن يكون التّعامل غريبًا ولن نشعر بالرّهبة من الآخر والتّعامل معه"".
وتضيف صابرين حول الجمع بين الطّلاب من القوميتين: ""من المهم أن يتعرف الآخر علينا وأن يعرف روايتنا الحقيقية من خلال تعامله اليومي معنا، وليس من خلال الاستماع فقط. التّواجد في إطار مشترك يجعل الطّرفين قادرين على التصرّف والتّعامل معًا في فترات الأزمات وكذلك في الحياة اليوميّة التي قد لا نتفق فيها على أمور كثيرة لا تتعلق بالوضع السّياسي. استيعاب الاختلاف يتطلب مهارات مختلفة من الطّالب وهذه المدارس – برأيي- تقوي مهارات التّواصل وتعزّز القيم"".
لا يبدو الصّراع السّياسي قريبًا من الحل، بل نحن شاهدون على تفاقمه، وخاصة أنّ الحكومات الإسرائيليّة تزداد يمينيّة، وهذا يؤتي بنتائج واسقاطات على وزارة التّعليم التي تزداد وتيرة تمسكها بفكرة يهوديّة الدّولة وإقصاء الهُوية الفلسطينيّة، وينعكس ذلك في المناهج التّدريسيّة والكتب. فهل ستبقى هذه المدارس – كما الحال الان في معظمها – مهربًا للأهالي العرب من المدارس الحكومية، وارتفاع أقساط المدارس الخاصة؟ أم لا يزال هناك أفق لزيادة أعداد هذه المدارس وزيادة التّحديات أمام طلابنا؟