الخطاب النسوي واختزال الهيمنة في الشرط الذكوري وفق قواعد الاستهلاك

قصة روتها أمية درغام: ""جاءت إلى مكتبي حين كنت مديرة تحرير إحدى المجلات النسائية الاجتماعية بكامل تألقها الأنثوي.. وهذا التألق هو عبارة عن اهتمام متقن بالثياب، والحذاء والشعر والماكياج.. يعني بالحكي العامي.. كانت من البابوج للطربوش.. كتير ""كلاس"".. وبنت ناس.. المهمّ.. الغاية كانت توجيه دعوة إلى مؤتمر عن حقوق المرأة في شرقنا الكئيب.. والتشديد على ضرورة حضوري لحفل الافتتاح الذي سيتولى إلقاء الكلمة الرئيسية فيه أحد الوزراء.. صديق زوجها الذي قرر ألا يرفض له طلبه بدعم الجمعية النسائية التي ترأسها زوجته.. والأهم إيفاد صحافية من المجلة لمتابعة المؤتمر على مدى ثلاثة أيام.. وهذا ما حصل بما أننا مجلة تتابع هذا النوع من التغطيات الصحافية.. ومجاملة.. ولكثرة ما أصرت.. توجهت إلى حفل الافتتاح لأتلقى عند الباب هدية كيس أحمر برّاق.. فتحته فوجدت عيّنات رائعة لأفخم الماركات العالمية في الماكياج.. جلست لألمحها هي ذاتها بطلّة استثنائية ببذلتها ""السينيي"" وحولها ابنتها وابنها الذي يتولى تصوير كل تحركاتها وابتساماتها للحضور في الصف الأول.. وكان أن توجهت إلى ""الحمام"" قبل البدء باحتفال الافتتاح.. عذرا على هذا التفصيل في الكلام.. ليس القصد أن تدخلوا معي ""بيت الراحة"".. ولكن.. هناك حيث خادمة من الفندق تعتني بك من ابتسامة التأهيل إلى الترحيب وسواه من مستلزمات عملها التي تشمل تنظيف كل نقطة ماء تتناثر على أطراف رخام المغاسل وحمل المنشفة الصغيرة لك التي ترمى مباشرة في سلة قش متقنة الصنع لإرسالها إلى الغسيل.. الأهم.. وأنا في الداخل.. أسمع صوت كعبٍ عالٍ جعلني أنظر إلى حذائي مباشرة.. فقد شعرت بالضياع فعلاً وسط هذه الفخفخة التي لا تشبه أبدا شوارعنا ووضعنا الاقتصادي.. وبعد الكعب.. سمعت صوتاً نسائيا طبعا يشبه صوت تلك المرأة التي زارتني في مكتبي.. كانت تتحدث بالهاتف الخلوي وفجأة تحول صوتها إلى صوت بكاء فاندهشت وشعرت أنني سأضطر إلى البقاء في الداخل إلى حين خروجها تماماً كي لا تحرج إذا ما عرفت أن أحداً سمعها.. كانت تبدو أنها تشكو لصديقة لها.. تأخر زوجها عن الحضور.. ثم تقول بالحرف الواحد ""متأكدة أنه مع الش... (لن اذكر الكلمة)”.. وتتابع ""ماذا أفعل؟ أعرف ما يقوم به من أجلي فهو لا يقصّر أبداً وبواسطته جاء هذا الوزير ولولاه لما سافرت إلى فرنسا للتبضّع هذا الصيف.. و.. و.. ماذا أفعل؟"" ...لم أسمع جواب الصديقة.. ولكن سمعتها هي تقول ""حسناً.. سأطلب منه تغيير سيارتي.. اسمعي لا أستطيع أن أتأخر أكثر.. عليّ العودة إلى الصالة.. وحين يأتي تظاهري أمامه أنك تتحدثين معي بشيء مهم وسأضحك.. أريد إغاظته قليلاً.. باي دير.. سي يو بالصالة.. لوف يو حبيبتي.. ما إلي غيرك.. خرجت.. فخرجت والتقينا أمام المغاسل.. ولم أفعل ما كنت قد خططت له.. لم ترني ولم تشعر بوجودي.. لست في هذه اللحظة خلف المكتب.. وثيابي مرتّبة ولكن عادية.. ولا ألوان على وجهي.. شعري ممشط ولكن ليس تمشيطا في صالون.. مشطته بمشطي الخشب في المنزل صباحاً.. اضطررت أن أخرج قبلها لأنها كانت تزيد من الروج والكحل والبلاش (البودرة).. وتبتسم لمرآة الفندق بفرح.. تأخر افتتاح المؤتمر لساعة كاملة في انتظار الأميرة التي ساعدها زوجها على تأسيس جمعية وجمع مريدين بالفلوس.. بعد الكلمة الأولى، انصرفت لاضطراري للرجوع إلى مكتبي للعمل.. نسيت أن أقول.. لقد وضعت الكيس الأحمر البراق على الأرض إلى جانب الكرسي قبل أن أرحل.. ورأيت بأمّ عيني الصديقة لتلك المرأة التي نفذت طلباتها تسحب الكيس بسرعة وتضمّه إلى الأكياس التي استولت عليها وفي عينيها فرح المنتصر.."" انتهت القصة من قلب لبنان.

في الهيمنة الذكورية لبورديو يقول إن المرأة تصبح غرضا وليس فاعلا، غرضا للشرط الاجتماعي الذكوري. هذا يتوافق مع مظاهر البهرجة التي وصفتها أمية بدقة حتى وصلت إلى الكيس الأحمر الذي جعل المرأة عبارة عن غرض يتشكل في عيون الرجل بفعل الملبس والطلاء. أما إذا أخذنا بعين الاعتبار مقولة فانون، أن الأبيض يصنع الأسود بينما يصنع الأسود الزنجية أي السلوك، نستطيع فهم ممارسة السيدة الموصوفة أعلاه في استدخال الشرط الاجتماعي الذكوري أي أن تتعامل مع نفسها كغرض يتساوى فيه حقها بالكرامة الزوجية مع سيارة يتم تبديلها. هذا الاستدخال على مستوى السلوك والخطاب ربما من أكثر الأمور إساءة للمرأة وحقوقها. وقعت العديد من النساء في هذه المعضلة تحديدا جزء من تلك المجموعة التي أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوقهن. تقزّمت مطالب المرأة بفعل المتحدثات باسمها إلى سقف أعلاه التوغل في الغرضية الذكورية. أصبحت هذه النساء متحدثات باسم المرأة دون أي عملية تفويض وقام خطابهن على اختزال المرأة في خطاب على أنها غرض، وغالبا ما يتم تشكيل الخطاب هذا من خلال أرضية استهلاكية بحتة، بحيث تتجسد المطالب في الصالونات والسهريات والجمعيات. انفصال ليس فقط عن المجتمع، بل حتى عن النساء اللاتي يقمن بالحديث باسمهن. إذا نحن أمام حالة نجد فيها بعض المدافعات عن حقوق المرأة يقمن بتجسيد صورة المرأة كغرض وليس كفاعل ويعدنّ إنتاج الشرط الاجتماعي الذكوري وفق أبشع قواعد المجتمع الاستهلاكي.

السؤال ما هو الشرط الاجتماعي الذي جعل الرجل فاعلا والامرأة غرضا له؟ ربما نجد ما يشفي الغليل في كتاب ""تأنيث المرأة"" للدكتور عادل سمارة، وتساعدنا القراءة الاقتصادية الرصينة على الإجابة. ألم يجعل مفهوم الخصوبة عشتار سيدة على الرجال بعد أن ارتبط جسدها بالبعد الإنتاجي تماما كالأرض ومن ثم تراجعت سلطتها أمام بنيان الرجل ""الأقوى""؟ هل ما زال هذا الشرط الاجتماعي الذكوري قائما؟ بمعنى هل ما زال الرجل فاعلا مؤثرا يعيد إنتاج الشرط الاجتماعي كمهيمن بكسر الميم في زمن دخلنا به باقتصاد البالونات والبورصة بعيدا عن المصانع؟ سأبقى في نفس القراءة الاقتصادية وأقول أن إعادة إنتاج هذا الشرط يحصل رغما عن الاثنين، أو أن الشرط الاجتماعي الذكوري السائد كان الأسهل أو التربة الخصبة التي تمكنت المنظومة الرأسمالية من خلاله بسط نفوذها. الرأسمالية هنا تعني تراكم الأرباح وربط هذا التراكم بشكل ضمني ومباشر بعملية التقدم والازدهار أي انه لا يمكن الازدهار دون عملية تراكم للأرباح (اعتمد هنا تعريف بولتنسكي في كتابه الروح الجديدة للرأسمالية). إذا، هذه المنظومة الرأسمالية استطاعت بسط نفوذها عبر إعادة إنتاج الشرط الاجتماعي الذكوري، ولكن بطريقة أكثر تعقيدا من حقيقة أن الرجل يهيمن على المرأة. ففي الوقت الذي أصبح الرجل والمرأة عبدان لثقافة الاستهلاك ما زال الرجل يعتقد انه فاعلا ولم تدرك الكثير من النساء بعد أنهن أغراض، وللأسف قام جزء كبير من الناشطات باستدخال هذه الغرضية في طريقهن ""للانعتاق"". فرضيت بعض النساء بلعب دور الغرض وتحديدا تلك اللاتي يلعبن دور الدفاع عن حقوقها كونهن دخلن معركة الانعتاق بأسلحة استهلاكية.

ولكن هذا لا يعني أن الرجل نفسه ليس أداة وغرضا في منظومة الرأسمالية التي جعلت وعيه الذوقي يتشكل وفق ثقافة الاستهلاك تماما كالمرأة. ربما اعتمدت هذه المنظومة أيضا على عملية الذوق والجمال، ولكن أليست هذه الحواس مرتبطة بثقافة الاستهلاك نفسها؟ مثلا الثوب الفلسطيني الذي كانت ترتديه أمهاتنا وكانت تتم خياطته في القرى، لم يكن يلاقي إعجاب النخب التي تدعي المدنية بقدر ما يلاقي إعجابهن فساتين السهرات. هذا الثوب نفسه، عندما تنتجه دار أزياء عالمية يصبح جمالا استثنائيا ليس فقط لأنه مصنوع في دار أزياء، بل لان من سترتديه هي امرأة تستطيع دفع ثمنه وفي مناسبات لا علاقة لها بفلاحة الأرض. إذا نفس الثوب يحمل أولا معنى الشقاء والتعب يصبح ماركة أزياء لا تستطيع نساء الفقراء شرائها. فقط عندما ارتبط الثوب بالاستهلاك والمراسم والبعد الفلكلوري وليس بالإنتاج والشقاء أصبح رمزا للجمال والاستثناء الاجتماعي والذوق الخ.

المشكلة إذا أننا نعيد إنتاج الشرط الاجتماعي الذكوري في الوقت الذي تنعم فيه أيادي أصحاب رأس المال ومروجي ثقافة الاستهلاك بالقوة. فلا الرجل هو المهيمن بكسر الميم ولا النساء أغراض للرجال بالمعنى البسيط. كلاهما عبدان لثقافة الاستهلاك التي جعلت الرجل يمثل دور الفاعل والمرأة دور الأداة. عملية تحرر المرأة تأتي عندما يدرك الاثنان أن السلطة ليست بيد الرجل، وإنما انهما يلعبان دورا في ثقافة جعلت الاستهلاك معيار النجاح الأول وجعلت من الذي ينفق الأقوى والأفضل.

إذا الحديث أولى عن تحرير الإنسان من عبوديته التي أعادت إنتاج صورة الشرط الاجتماعي الذكوري، فقط صورة الشرط، وقامت بسحب قوة النفوذ من الرجل قبل المرأة. إذا تعاملنا على أن الرأسمالية تحتوي خطاب يسيطر على الوعي وممارسات تضمن إعادة إنتاجها، فان الاحتلال هو عمليا تجسيد حرفي للرأسمالية ببعده الاستغلالي والاستعبادي كونه أشد درجات الهيمنة. فاذا انتقلنا للحالة الفلسطينية، أظن انه يجب إعادة النظر في كامل الخطاب النسوي في البلاد، فالحديث هنا ليس عن عملية استعادة حقوق سلبها الرجل، وإنما استعادة حرية إنسان فلسطيني تمت سرقة أنوثته قبل رجولته. أما أن يقتصر النقد على استخدام كلمة ""امرأتي"" كونها تبعث للملكية وتفضيل قول ""زوجتي"" كونها تبعث للشراكة، أظن أن هذا الانتقاد للغة من منظار حقوق المرأة في غير مكانه، فامرأتي لغة فصحى، تماما كالحالة التي تقول فيها المرأة رجلي أو بعلي الخ. علينا البحث في السياق الاجتماعي الذي تنتج فيه الكلمات وتأخذ دلالاتها، وإماطة اللثام عن المساحات التي تُمارس فيها الهيمنة بينما تظهر على أنها مساحات حيادية وعدم الاكتفاء بوصف الهيمنة الظاهرة.

د. صبيح صبيح

محاضر، وباحث في علم الاجتماع (فرنسا- فلسطين)

رأيك يهمنا