التّربيّة الخاصة في زمن كورونا - ما بين التّحديات والتّجديدات!
واجهت طواقم التّربيّة الخاصة منذُ بدء حقبة الكورونا تحديات كبيرة، أضيفت للكثير من الصّعوبات التي كانت تواجه هذه الطّواقم عامةً في عملها الشّاق والمّميز مع ذوي الاحتياجات الخاصة.
تلك التّحديات تشارك بها الطواقم، الطّلاب وذويهم، كلٌ من جانبه، إذ كان لكلّ طرف في أعقاب تلك التّحديات ترسّبات سلبيّة وأحيانًا إيجابيّة.
اضطرت طواقم التّربيّة الخاصة مواجهة الكورونا كمن يخوض حربًا مجهولة التّفاصيل آنذاك، فقد كانوا أوّل الجنود الذين نزلوا إلى ساحة المعركة، وفي حين كانت الطّواقم الطّبية محميّة بجميعِ أجهزةِ الوقايّة، كانت طواقمنا تعمل من دونِ أسلحة ومن غير وقايةٍ. فلا البعدُ الجسديّ ولا ارتداءُ الكمامات هي أمورُ واردة في الحسبان في التربيّة الخاصة، لأنّ اللّمسَ والاحتضان وابتسامة الطّاقم في وجه طلابهم ليست من الكماليات، إنما من أساسيات عالم التّربيّة الخاصة وتَقَدمُ الطّلاب مشروط ُبوجودها.
واصلت هذه الطّواقم عملها يوميًا في زمن كان فيه النّاس يخشون الاقتراب َمن أقرب الأشخاص إليهم، وفي أوقات كانت الأمهاتُ تعتكف في البيوت خشية نقل العدوى لعائلاتها. عمل أعضاء هذه الطّواقم وقلوبهم وعقولهم مليئة بالخوف والقلق على صحتهم وصحة أغلى ما يملكون، أولادهم وذويهم.
على الرّغم من مشاعر القلق، واظبت الطّواقم على العمل، وأدوا رسالتهم بكل محبة ومهنيّة فكنا نرى الأمهات من أعضاء الطّواقم يبقين أولادهن في المنازل، غالبًا من دون إطار ويذهبن لرعايّة أولاد الآخرين، يجلسن بجانبهم ويتقبلن لمسات أيديهم بكل محبة. كنا نرى المعلمات والمساعدات يطعمن بكلّ رأفة طلابهن ويمسحون بأيديهن بقايا الطّعام من على وجوههم وهن على يقين أنه من الوارد جدًا أن يكون أحدهم حاملًا للعدوى...
الكثير من الطّواقم أصيبت بالعدوى في إطار عملها ومن طلابها، وعادوا للعمل بكل إخلاص ومحبة، دون تذمر...
العشرات أُدخلوا للحجر مرة واثنتين... وأربعة، وحتى عشرَ مرات وفي كل مرة كانوا يشدون العزم ويستمرون بالعمل عن بعد مع طلابهم.
أحيانًا كثيرة كانت طواقم التّربيّة الخاصة محط غضب الأهالي في كل مرة دخل فيها طالب للحجر الصّحي، أو اتضح أنه حامل للفيروس، وكنا في كلّ مرة نستوعب غضبهم ونمد يدَّ العون من أجل إتمام فترة الحجر ومساعدتهم على رعاية أولادهم في البيت.
من جانبهم، عاش الأهل فترة مليئة بالمخاوف وعانوا من تناقض كبير، فأولادهم هم أكثرُ الشّرائحِ عرضة للعدوى، وأكثرهم حساسيّة لأي مرض الذي من الممكن أن يفتك بأرواحهم، فأولادهم لا يجيدون لعبة الوقايّة ولا التّباعد، ويحبون الاقتراب والتّواصل الجسدي، فأحيانًا يكون تواصلهم الجسدي هي طريقتهم الوحيدة للتواصل مع بيئتهم، وأحيانًا كثيرة يحلّ اللّمس لديهم محلّ الكلمات، وأحيانًا أخرى يبدل احتضانهم ساعات من العلاج النفسي. أطرهم التّربويّة هي أكثر الأماكن أمانًا، وأكثر البيئات تشجيعًا، واستمرار وجودهم فيها هو من أساسيات احتياجاتهم وعدم حضورهم إليها لا يعني التّأخر في تعلم مادة أو أخرى، أو التّأخر باكتساب مهارات جديدة فحسب، إنما يعني التّحول من طفلٍ هادئٍ لعصبي لا يجد من يفهم احتياجاته ولا من يقدم له المساعدة كي يعبّر عن نفسه. عدم التحاقه بمدرسته يعني فقدان مهارات حياتية أساسيّة كالمشي، والكلام وتناول الطعام؛ لهذا كلّه عاش الأهل فترة صعبة في حيّرة من أمرهم، فمن جهة واحدة، إرسال ابنهم للمدرسة كان بمثابة إرساله لساحة حرب، هم واثقون أنّ أبناءَهم لا يملكون فيها القدرة على مواجهة العدوى، ومن جهة أخرى إبقائهم في منازلهم يعني التّأخر والتّراجع في مهارات طوروها وبنَوْها على مدار سنوات طويلة. لأجل هذا وأكثر تحديات الأهالي خلال أزمة الكورونا لم تقل عن تلك التي واجهتها الطّواقم.
كما للعملة جانبين، كذلك أزمة كورونا كيفما تسببت بالكثير من التّحديات والصّعوبات، استطاعت أن تولد الكثير من الفرص والتّجديدات، فتاريخ الإنسانيّة يشهد أنَّ من رحمِ الأزماتِ تولَدُ الفرص، ومن كان على استعداد استطاع استغلال الفرص وتطويرها.
على مدار سنين طويلة اعتقدنا في التّربيّة الخاصة أنّ التّعلم عن بعد هو أمر غير وارد في مدارسنا، وأنه ليس بإمكاننا تعليم طلابنا أي مهارات عن بعد، في بداية فترة الإغلاق الأولى التي تزامنت مع بداية أزمة كورونا، أغلقت مدارس التّربية الخاصة لفترة ثلاثة أسابيع، في هذه الفترة اكتشفنا في طواقم التّربيّة الخاصة عالمًا جديدًا وطورناه، انفتحت أمامنا إمكانيات كبيرة لاستخدام التّكنولوجيا في عملنا مع الطّلاب، وانتهزنا الفرص المتاحة لبناء مواد تعليميّة محوسبة التي من شأنها إذا أُضيفت إلى آلياتنا وطرائق عملنا التّقليديّة، جعلته يبدو أنجح وأنجع، فخرجنا من فترة الإغلاق الأولى وفي جعبتنا الكثير من الآليات التي استعملناها لاحقًا في صفوفنا وغرفنا العلاجيّة.
إضافة إلى ذلك كانت فترة الأغلاق الأولى وفترات متفرقة من الحجر الصّحي فرصة ذهبيّة لبعض الأهل لقضاء وقت نوعيّ وذي جودة مع أبنائهم، إذ شهد الكثير من الأهل أن فترة الحجر أو الإغلاق، كانت بمثابة هديّة قدمت لهم كي يستطيعوا التّواصل أكثر مع أولادهم وليطوروا علاقاتهم بهم، ويتمكنوا من فهم صعوباتهم والتّوصل لطرائق تعامل أفضل معهم.
تحيط بالإنسانيّة أزمات كثيرة وتتراكم في أعقابها تبعات وأثار، وأزمة كورونا ولّدت الكثير من التّحديات، وخاصة لدى الشّرائح الضعيفة؛ ولكن كمّا في كلّ أزمة ثمة مسار لابد من عبوره لمن يريد النّجاة، فكان لا بد من التّصدي لكل العواقب وإيجاد الحلول وابتكارها لدى المجتمعات المهنيّة وأيضًا لدى الأهالي على حد سواء، فخلال هذه الحقبة الصّعبة، وبمواجهة التّوتر الكبير وُجدت في التّربية الخاصة فرصًا جديدةً، استطعنا الاستثمار فيها وتطوير آليات عملنا من خلالها، التي من شأنها أن تطور عملنا ليعود بالفائدة الكبرى على طلابنا وذويهم.
ريم هردل - ناصر
حاملة للقب الثّاني في العلاج الوظيفي والمديرة المهنيّة للأطر التّربويّة في بيت عدنان – يركا