الترميم والبناء: نحو عمارة فلسطينية خضراء

لقد تنبه ""رواق"" منذ تأسيسه إلى حقيقة التغيير الكبير والمتسارع على البيئة المبنية بشكل خاص، والبيئة بشكل عام. فبالإضافة للتغييرات الدرامية التي حدثت على المشهد الفلسطيني نتيجة الاستعمار الصهيوني وتدميره للقرى والبلدات الفلسطينية واستمراره على هذا النهج حتى وقتنا الحالي من خلال احتلال تلال الضفة وتقطيع أوصالها بشبكة مواصلات ضخمة تصل بين الكتل الاستيطانية على طول فلسطين وعرضها، فقد غابت مسألة المناخ والبيئة عن الخطط الوطنية، فيما عدا الخطاب الرسمي وهيكليات الحكومة، كعناصر مهمة في مشروع بناء الأمة أو الوطن. والمتتبع لتغيرات المشهد الفلسطيني منذ قرن من الزمان يلاحظ دخول فلسطين في التحديث المطَّرد الذي يصاحبه الابتعاد عن الطبيعة سواء أكان ذلك في طرق العيش أو الإقامة. ففي حين اعتمدت حياة معظم الفلسطينيين على الزراعة، فإنه خلال قرن من الزمان أُدمج ٩٠٪؜ من القوى العاملة في منظومات التجارة والتصنيع الاستعمارية أو في العقود الثلاثة الأخيرة، في بيروقراطيات السلطة الفلسطينية الناشئة، ولم تعد الزراعة تشكل إلا الجزء اليسير من الدخل القومي الذي لا يكفل لأصحابه العيش بكرامة في ظل المنافسة غير المتكافئة للمنتوجات المستوردة من المستعمرة أو من الخارج.

كذلك نلاحظ التغيير الكبير الذي طرأ على القرى والبلدات والبيئة المبنية، ففي الوقت الذي شيد الفلسطيني بيوته من مواد محلية وبتقنيات تقليدية وشارك الأقارب والجيران في طقوس البناء التي تناقلها الفلسطينيون عبر الأجيال، تحول البناء إلى صناعة تقوم على تقنيات حديثة تعتمد على الحديد والإسمنت والزجاج، وكلها مواد مستوردة تثقل الميزان التجاري الفلسطيني. كذلك فإن استخدام المواد والتقنيات الحديثة، وهي في معظمها لا تلائم طقس فلسطين ومناخها، ما يجعل من صيانتها واستمراريتها عبئا إضافيا على الميزان التجاري الفلسطيني، فحتى تستمر هذه المنشآت لا بد من طاقة كبيرة لتبريدها وتدفئتها، وهذه الطاقة لا نملكها ولا ننتجها وإنما نستوردها، ولسخرية القدر، من المُستعمِر نفسه، فنطيل عمره ونساهم في تحويل الاستعمار إلى مشروع اقتصادي رابح.

إن نظرة غير متفحصة للعمارة الفلسطينية التقليدية تظهر بأن حاصل الجمع لما يدخل وما يخرج من الطاقة في تصنيع البيت التقليدي وصيانته، هي أقرب ما تكون إلى الصفر. فالمواد المحلية التي تدخل في صناعة البناء التقليدية في فلسطين من حجر وطين وجير وشعر وبوص وجذوع شجر لا يدخل في صناعتها أو إعادة تصنيعها أو نقلها الكثير من الطاقة، الأمر الذي يجعل من الإنشاء عملية بيئية لا تساهم في انبعاثات كبرى لثاني أكسيد الكربون. ومن أجل توضيح هذه المقاربة سأقوم بوصف البيت الفلاحي من حيث مبناه ووظيفته كمثال على صفرية الطاقة الداخلة والخارجة في حياة المبنى.

البيت الفلاحي مكعب طول أضلاعه سبعة أمتار تقريبا، له باب واحد وشباك واحد. يُبنى البيت من جدران سميكة وعقود عربية تُصنَع من الحجر والطين والحصى والجير. يُقطع الحجر من أرضية المبنى أو يستحضر من مقالع قريبة. قبل البدء بعملية البناء، يتم حفر بئر ماء لجمع مياه المطر، التي ستكون ضرورية لعملية البناء والحياة فيما بعد. كذلك يتم جمع الصخور من الموقع وحرقها لإنتاج الشيد الذي يدخل في صناعة المونة الجيرية للبناء والقصارة والكحلة والطراشة. وفيما عدا دقيق الحجر ومعلم البناء، يشارك الجميع من أقارب وجيران، على نظام العونة، في بناء البيت ودون الحاجة لاستدراج عمالة أو دفع بدلات نقدية لعمال غرباء.

يقسم فضاء البيت الفلاحي من الداخل إلى ثلاثة مستويات؛ قاع البيت والمصطبة والراوية. قاع البيت للحيوانات

المدجنة والأدوات الزراعية، والمصطبة حيث الموقدة فهي مكان النوم والمعيشة، وأما الراوية فهي مكان إضافي للنوم أو تخزين المحاصيل. في الصيف، تبيت الحيوانات المدجنة في الحوش أو الزريبة المخصصة لذلك، وتتم النشاطات المختلفة من طبخ وغسل في الحوش. ويكون البيت ذو الجدران السميكة والفتحات القليلة، مهجعا معتدل الحرارة يساعد على النوم والراحة في قيظ الصيف الفلسطيني. أما في الشتاء فتبيت الحيوانات المدجنة في قاع البيت وينتقل الطبخ للمصطبة مما يساعد على رفع حرارة الفراغ ويجعل من البيت مكانا مناسبا للعيش حتى في أشد أيام الشتاء برودة. كذلك فإن ناتج روث الحيوانات المدجنة استخدم غالبا كوقود للطابون أو كسماد طبيعي للحواكير المجاورة. في هذه المنظومة، الطاقة الناتجة من تنفس الحيوانات والبشر، والتدفئة الناتجة من الموقدة والطابون، تعادل أو تزيد عن حاجة الإنسان للعيش بدفء وأمان. واستكمالا لدورة الحياة، فإن البيت الفلاحي الذي هُجِر منذ زمن، يتحول إلى كومة من التراب والصخور التي تنمو عليها النباتات ليصبح جزءا من الطبيعة من حوله.

إن النظام الصفري للطاقة في البيوت التقليدية ليس دعوة للعودة إلى الوراء أو اللجوء لطرق تقليدية في البناء—رغم أن مثل هذه المقاربة تأخذ قبولا متزايدا في شعوب أرَّقتها وأرهقتها الحضارة وإفرازاتها الصناعية— وإنما دعوة إلى إعادة النظر بطرائق عيشنا، وما هو ناتج عن ثاني أكسيد الكربون الذي يخلفه الفرد في بيئته، من أكياس البلاستيك التي تملأ أكياس قمامتنا أو الطاقة التي تلزمنا لتدفئة بيوتنا ومكاتبنا حتى تكون صالحة للعيش والعمل، أو الطاقة التي تلزم لإنتاج واستيراد ونقل مواد بناء حديثة لإنشاء مبان ومساكن لا نمتلك إمكانيات صيانتها وتدفئتها أو تبريدها.

إن تجربة ""رواق"" في ترميم المباني التاريخية تفيد بأن المبنى التاريخي هو إبداع بيئي قبل أن يكون إبداعًا معماريًّا أو هندسيًّا، فيه منطق هو محصلة تجارب أجيال كثيرة، وهذا الإبداع لا يترك أثرا سلبيا إن لم يؤثر إيجابًا في البيئة ككل. كذلك فإن عمليات الترميم تزيد من المستفيدين من عملية البناء أضعافًا مضاعفة مقارنة بعملية البناء الحديثة؛ وذلك لاعتماد الترميم على العمالة اليدوية والتقنيات التقليدية البطيئة مما يساهم في خلق فرص عمل بالإضافة إلى حفظ وإحياء المعرفة المتعلقة بفنون البناء التقليدية.

هذه ليست دعوة للعودة للماضي بل دعوة لإبداع حلول محلية لمشاكل عالمية نكون فيها شركاء في صناعة المعرفة لا في استهلاكها فحسب. وإذا أردنا أن نكون جزءًا من حماية البيئة وأن نترك أثرا إيجابيا فما علينا إلا أن نتوقَّف عن ترك آثار لا نستطيع تدويرها أو صيانتها.

الصورة: لبناء منزل فلاحين في فلسطين من ""مجموعة ماتسون"" في مكتبة الكونغرس الامريكي."

د. خلدون بشارة

أستاذ مساعد في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت ومستشار رواق

شاركونا رأيكن.م