الإعلام في غابة "التواصل الاجتماعي"

لم يكن جورج أورويل يتوقع نشأة شبكات التواصل الاجتماعي واحتلالها هذه المكانة المذهلة حين وضع لـ ""الصحافة الحقيقية"" تعريفاً فارقاً يقول إنها ""نَشْرُ ما يحاول شخصٌ ما، أو جهةٌ ما، منعَ نشره"". وكل ما عدا ذلك ـ قال أورويل هو ""علاقات عامة، لا أكثر"". وإذا كان هذا هو العصب المركزي في تعريف أورويل للصحافة الحقيقية، في روايته الديستوبية ""1984"" التي نُشرت سنة 1949، فقد أوضحه بتشخيصٍ ثاقبٍ نراه نبوءةً قد تحققت واقعاً بقوله إن البشرية (ممثلة في دولة ""أوشينيا"" العظمى) ستعيش في وضع ""الحقيقة فيه هي الكذب، الحرب هي السلام والجهل هو القوة"".

في ضوء هذا وحيال ما نعايشه يومياً، يغدو من الضروري جداً إعادة بحث وتعريف جملة من المصطلحات الأساسية في مجال الإعلام، من خلال السؤال الأكثر أهميةً وإلحاحيةً: ما هي وسيلة الإعلام على وجه الدقة والتحديد؟ من هو الصحفي (خلافاً لـ ""الإعلامي""!)؟ ما هي المعايير المهنية والأخلاقية التي تعمل هذه الوسائل وفقها والتي يعتمدها الصحفي في تأدية رسالته؟ ذلك أن منصات التواصل الاجتماعي، التي أنشأتها شركات احتكارية عملاقة، قد أصبحت تندرج ضمن هذا التصنيف الواسع (""الإعلام الجماهيري"") إذ تؤدي جزءاً كبيراً من وظائفه، إن لم يكن كلها، ناهيك عن السهولة المذهلة التي تتيح بها لكلّ ذي حساب شخصيّ على هذه المنصات لأن يكون ""صحفياً""، يمارس ""المهنة"" من أوسع أبوابها، لكن دون أية معايير مهنية ولوائح أخلاقية مُلزِمة.

في رحاب ""ثورة الإعلام البديل"" وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي وما يمور فيها من توتر واضح، بل تناقض صارخ، بين مصالح الشركات العملاقة التي أنشأتها، من جهة، وبين مصالح الناس عموماً، من جهة ثانية، تعمقت هوة الشقاق والاستقطاب، تعمقت نزعات التقوقع، الانعزالية والقبلية فنشأت وتكرست ""قبليات رقمية"" توحّدها ""كراهية مشتركة"" أو ""محبة مشتركة"" وتتوزع على أساس انتماءات هوياتية، من أبرزها اليوم ""القبليات السياسية/ الحزبية"" و""القبليات الدينية/ الطائفية/ المذهبية"". أي أن ""شبكات التواصل الاجتماعي""، التي بدأت كساحات لتوسيع وتعميق أواصر التواصل الاجتماعي، سرعان ما تحولت إلى ساحات للانفصال، التباعد، التنافر، بل العداء والكراهية اجتماعياً، سياسياً، قومياً وطائفياً.

غير أنّ هذا التطور لم يكن وليد صدفة، مطلقاً، بل النتيجة الحتمية المرجوّة للخوارزميات التي طورتها تلك الشركات العملاقة، وفي مقدمتها غوغل وفيسبوك، وغايتها الأساس تحقيق أرباح مالية طائلة وزيادة هذه الأرباح باستمرار، من خلال زيادة حدة الرسائل وجعلها أدق إصابة للهدف، ثم إذكاء الكراهية وتعميق الفرقة لجذب انتباه المستخدِمين واهتمامهم وتعميق التصاقهم بهذه الوسائل، ثم كشفهم أكثر فأكثر على الإعلانات الدعائية التجارية، ما يعني تحويل الكراهية إلى مصدر لجني الأرباح الطائلة. وهذا بالضبط ما كشفت عنه المسؤولة السابقة في إدارة المحتوى في شركة ""فيسبوك""، فرانسيس هاوغن، في شهادتها أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في شهر أكتوبر الأخير، حين قالت: ""فيسبوك تضع هدف النمو وتحقيق أرباح مالية قبل مصلحة وسلامة مستخدمي تطبيقاتها... ثمة تناقض مصالح بين ما هو جيد لفيسبوك وما هو جيد للجمهور"".

على هذا، فإنّ ثمة مشكلة ابتدائية وأساسية هنا تتمثل في أن ""الحيز العام"" المكون من وسائل التواصل الاجتماعي ليس بملكية ""عامة""، أي ليس بملكية الجمهور، وإنما بملكية شركات خاصة عملاقة تضع في رأس سلم أولوياتها الربح المادي، الذي يسبق أي دور اجتماعي محتمل يمكن أن يناط بها أو أن تؤديه. وقد دفع هاجس الربح المادي ومراكمته العملاقتين غوغل وفيسبوك، على وجه التحديد، إلى محاولات ""اختراق وعي"" المستخدِمين وإعادة صقله من جديد، بما يخدم هدفهما هذا. فالخوارزميات التي تعمل بها هاتان العملاقتان تصنّف المعرفة على نحو يجعلهما الماكينة الأكثر نجاعة التي اختُرعت في تاريخ البشرية لصناعة الكذب وتزييف الوعي؛ وهو ما يتيح لهما تحديداً إعادة إنتاج الكراهية وتعميق الاستقطاب.

حالة الفوضى العارمة التي تعمّ شبكات التواصل الاجتماعي، والتي في إطارها أصبح كلُّ ذي حساب على شبكات التواصل الاجتماعي ""مصدراً للمعلومات"" و""مُحللاً"" لها دون أية قوانين، معايير وأصول مرعية أو ضوابط، مهنية أو أخلاقية، أدت إلى تدمير وتبديد القيمة المضافة التي يقدمها الصحفي ـ تقصي المعلومة وفحصها وفق مصادر مختلفة، التحقق منها وإتاحة إمكانية الردّ والتعقيب عليها من صاحب/ أصحاب الشأن وذوي العلاقة، ثم تحمّل المسؤولية عن المعلومة ومضمونها. أصبح الصحفي والمستخدِم العادي ينشطان على الساحة نفسها وتحت المظلة ذاتها، بحكم القوانين ذاتها. لكليهما المكانة ذاتها ـ كلاهما ينشران المضامين على شبكات التواصل الاجتماعي، ولذا يمكن التعامل مع كليهما بالمستوى ذاته من الجدية والمصداقية.

رغم ما يبدو على السطح من غرق الناس على شبكات التواصل الاجتماعي في سيول جارفة من المعلومات و""المعرفة""، إلا أن الحقيقة المؤكدة هي أن هذه الشبكات أحدثت تقليصاً وتراجعاً حادّين في المعرفة، الحقيقية والموضوعية، التي يمتلكها الناس عموماً، وذلك من خلال إيهامهم بأنهم ""دائمو الاتصال والاطلاع""، أكثر مما كانوا عليه في السابق. وهو ما ساهمت وسائل الإعلام نفسها في نشره وتكرسيه، من خلال حضورها الدائم والمكثف على هذه الشبكات فأسبغت عليها شرعية زائفة وكأنها تشكل ـ هي أيضاً ـ مصدراً شرعياً وموثوقاً للمعلومات. ومن جهة ثانية، أدى هذا الحضور الدائم والمكثف إلى جعل شبكات التواصل الاجتماعي مصدر المعلومات الإخبارية الأول والأساس لدى قطاعات واسعة جداً من الناس، وخاصة جيل الشباب، على حساب وسائل الإعلام ""التقليدية"" ومواقعها الإخبارية، التي تعمل وفق قواعد مهنية ومعايير أخلاقية محددة وواضحة، لا وجود لها في شبكات التواصل الاجتماعي.

ثمة حاجة ماسة، إذاً، إلى إعادة التمييز الحاد والفارق بين أكوام القمامة ""المعلوماتية"" والتلوث ""المعرفيّ"" التي تطفو على سطح شبكات التواصل الاجتماعي وبين الصحافة المهنية التي تقوم على الدقة، التزام الحقيقة الموضوعية، المصداقية واحترام عقول الناس. هذا مطلوب، بل ضروري، إزاء الضرر الذي سببته وتسببه شبكات التواصل الاجتماعي لوسائل الإعلام، لكن الأهمّ والأخطر: للعمل الإعلامي ـ الصحفي في حد ذاته. لا مجال هنا لحصر أنواع الضرر ومجالاته، ولا حتى لتعدادها. لكن بالإمكان الإشارة، على سبيل المثال، إلى حقيقة أن الوظيفة المركزية التي ينبغي أن تؤديها وسائل الإعلام، أي: تحديد وصياغة القضايا العامة التي تشغل المجتمع وأفراده وعرض كل المعلومات والآراء المرتبطة بهذه القضايا، بأقصى درجات الحرية والدقة والالتزام بالحقائق، لتمكين الفرد من بلورة رأيه وصياغة موقفه واتخاذ قراره بشأنها، أصبحت مهمة مستحيلة، بل يمكن القول إنها قد تلاشت. ذلك أن وسائل الإعلام لا تعيش ولا تعمل خارج ""العالم الافتراضي""، بل في داخله ومن عمقه، كما يشكل ""إعلاميّوها"" جزءاً لا يتجزأ منه، الأمر الذي ينعكس عليها وعليهم أيضاً، وهو ما نراه جلياً في ميل ""إعلاميين"" و""صحفيين"" كثيرين إلى ""ملاءمة"" أنفسهم والانخراط في سباق ""الريتنغ"" الدائرة رحاه على شبكات التواصل الاجتماعي فيسقطون في هاوية ""فسبكة"" الصحافة ووسائل الإعلام التي يعملون فيها.

سليم سلامة

صحفيّ، كاتب وحقوقيّ

شاركونا رأيكن.م