أنف بينوكيو: نعمة ونقمة الكذب
بمناسبة الأول من أبريل، المعروف في أوروبا منذ القرن السادس عشر كيوم الكذب العالمي (قد تكون هذه المعلومة كذبة أيضًا)، اخترت بأن ألاحق أشهر كذّاب في أدب الأطفال - إنه طبعا بينوكيو. تلك الدمية الخشبية صاحبة الأنف الطويل التي أصبحت رمزًا عالميًا للكذب، حتى في سياقات تتعدى إطار ثقافة الأطفال وعالمهم. في هذه المادة سوف أتطرق أولا لصور الكذب المختلفة في رواية كارلو كولودي الصادرة عام 1883، بعنوان ""مغامرات بينوكيو. حكاية دمية"" (بالإيطالية: Le avventure di Pinocchio. Storia di un burattino)، ثم أحاول توظيف مفهوم الكذب في الكتاب لفهم رسالته المركبة حول قيمة نعمة الكذب ونقمتها.
مغامرات بينوكيو الأولى نشرت في البداية في مجلة أطفال إيطالية، تحكي قصة الدمية الخشبية المتحركة والمتكلمة التي يتبناها العجوز جيبيتو ويعتني فيها كأب. لكن بينوكيو
هو دمية ولد مشاكس، وكسول، ووقح وبالأخص كاذب، يقوم بعكس كل ما هو متوقع من ولد مؤدب وخلوق. بينوكيو يسبب لـ""والده"" السجن، ويبيع كتابه الذي اقتناه له جيبيتو، ويدوس على صرار الليل الذي يحاول مساعدته ويتصرّف بأسوأ طريقة ممكنة. نتيجة لكل هذه التصرفات، يتم شنق بينوكيو حتى الموت، ومن ناحية المؤلف، كولودي، كان من المفروض أن يكون هذا عقابه الأخير. لكن محرر مجلة الأطفال يطالب المؤلف بانقاذ الشخصية، وكتابة المزيد من المغامرات، وهكذا يستمر كولودي بنشر المغامرات حيث يحوّل بينوكيو إلى حمار وفي نهاية المطاف إلى ولد حقيقي. خلال المغامرات يكتشف بينوكيو أن كذبه يؤدي إلى طول أنفه، ولكنه مرة تلو الأخرى يتمكن من تقليمه ومواصلة كذبه، ويصبح الكذب أحد أبرز ميّزات شخصيته، بالذات عندما يجمع كولودي المغامرات في كتاب – هو ""مغامرات بينوكيو. حكاية دمية"".
في البدء كانت كذبة
الكذبة الأولى التي تظهر في الكتاب، لا تأتي على لسان بينوكيو، بل تأتي على لسان شخصية أنطونيو النجار الذي يحصل على قطعة حطب متكلمة. في الكتاب، تخاطب قطعة الحطب النجار أنطونيو، فيخاف منها ويقع أرضًا، عندها يدخل عليه نجار آخر، رجل عجوز اسمه جيبيتو، ويسأله ""ماذا تفعل مستلقياً هناك على الأرض؟""[1] فيجيبه أنطونيو ""إني أعلّم النمل الحساب لتعرف كيف تعدّ""، وجيبيتو يرد عليه ""نِعْمَ ما تفعل!"". هذا الحوار التهكّمي الاستهزائي يمثّل مقولة واضحة تعرض على الأطفال امكانيتين: إما أن أنطونيو كذب وجيبيتو صدّقه، أو أن أنطونيو تهكّم وجيبيتو أجابه بالمثل. الخيارين هنا واردين، وكليهما يمثّلان مقولة كاذبة وإجابة صريحة. ولكن في هذا الحوار هناك أكثر من مجرد تهكّم، وهو أن الحوار هذا يعرض بأوضح صورة الفرق بين الطفل والبالغ. حيث قد يأخذ الطفل إجابة جيبيتو على نحو صريح، مما يدل على أنه صدّق كذبة أنطونيو، ما يأخذ الطفل للتفكير بمنطق عقل جيبيتو – وهو محاولة فهم الحاجة لتعليم النمل على العدّ ورؤيتها كنشاط خيّر. بينما البالغ ينظر إلى هذه المقولة التهكّمية متسائلًا ان كان الطفل قد يفهمها، كونها واردة في كتاب أطفال.
تلي هذه الكذبة التهكّمية، اتهام بالكذب يَعرف الطفل (والبالغ) القارئ بأنه غير مستحَق، ولكن العقاب عليه يأتي مباشرة، حيث تنعت قطعة الخشب العجوز جيبيتو بلقب أبو عصيدة، فيستشيط غضبًا ويتّهم أنطونيو بأنه هو من نعته بذلك. عندما يُنكر أنطونيو هذا، يتهمه جيبيتو بأنه كاذب ويهاجمه. وحده القارئ يعرف حقيقة براءة أنطونيو، ولكنه يرى بعينيه العراك الذي ينتج عن التهمة الباطلة بالكذب. هنا أيضًا قد نجد في الحدث مغازي أبعد بكثير من كونه مجرد اتهام ومحاسبة، حيث أن المؤلف يعرض لنا إمكانية عدم رؤية الحقيقة واتهام الآخر بالكذب، فقط لأن الحقيقة تبدو لنا بعيدة عن الواقع أو المنطق. هذا بالضبط نوع الأكاذيب التي يتعامل معها الإعلام اليوم على أنها Fake News – أخبار كاذبة حيث تعتمد على معلومات مضلّلة مُنتشرة عبر وسائط الأخبار المختلفة.
أما الكذبة الثالثة، والأقرب من كل ما سبق إلى مفهوم الكذب التقليدي، تأتي على لسان جيبيتو بالذات. جيبيتو يبيع معطفه لكي يشتري لبينوكيو كتاب للمدرسة، ويقول له بأنه باع المعطف ""لأنه كان يجعلني أشعر بالحرّ""، بالرغم من الثلج القارس. هذه الكذبة هي مثال للكذب الوالدي الأبوي الذي يوظّفه الأهالي لتربية أطفالهم ولتغليفهم بالحرير والدروع الواقية من الواقع. قد يسميه البعض الكذب الوِقائي، أو الكذب الأبيض، أو حتى الكذب النبيل على لسان أفلاطون. أما عن بينوكيو فقد ""فهم مغزى الجواب بسرعة، ولم يتمكن من كبح جماح طيبة قلبه، فقفز على عنق جيبيتو وبدأ يقبّل كلّ وجهه"". أي أن بينوكيو، طيب القلب، كشف كذبة العجوز وفهم سببها، وفي محاولة اخفاءها، عمليًا، يحاول العجوز جيبيتو اخفاء كونه قد ضحّى برفاهيته الضرورية من أجل تربية وتعليم ابنه المتبنّى الجديد.
عمليًا هذه الكذبات الثلاث الأولى في الكتاب، تعرض ثلاثة نماذج يوّظف فيها الكبار الكذب كأداة اجتماعية وحتى سياسية، في حياتهم اليومية. الأول هو الكذب التهكّمي، الذي يستعمله البالغين كأداة بلاغية بهدف المبالغة، أو الاستهزاء أو السخرية. النموذج الثاني يتمثّل في الوعي للأخبار الكاذبة، الذي يعتمد على مفهوم الفرد لحدود نظرية المؤامرة ومدى انخراطه فيها، فهناك تفاوت كبير بين مدى تعامل الأفراد مع ما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة كأخبار كاذبة، وخاصة في فترة انتشار جائحة الكورونا، وفي فترة الحرب الروسية-أوكرانية. والنموذج الثالث طبعًا هو الكذب الوِقائي، الذي قد يكون الأكثر استعمالًا في الحياة اليومية، حيث لا يتمثّل فقط في العلاقة مع الأطفال، بل كذلك بين الأزواج وبين أفراد العائلة وطبعًا بين الزملاء في العمل أو العلاقة مع أصحاب المناصب.
أنف الكذّاب
أما بالنسبة لمفهوم الطفولة وحضور صور الكذب المختلفة فيها، فهي قضية واضحة وواردة في معظم فصول ""مغامرات بينوكيو""، وليس فقط على لسان بينوكيو، بل أيضًا على لسان شخصياتٍ أخرى، كما ذكرت أعلاه. لكن عقاب أكاذيب بينوكيو يأتي مباشرة، ويتمثّل بطول أنفه. استطالة الأنف قد تدل في قراءة تحليلية نفسية على النشوة التي قد يحصل عليها الكاذب، وبمفهوم فرويدياني مبسّط على تمثيل لإثارة جنسية، حيث يمنح الكاذب الثقة بأنه مسيطر على الحديث وعلى إعادة صياغة الواقع والحقيقة. لكنّي لن أخوض هنا بهذا النوع من التحليل، بهدف التمحور حول المفهوم التربوي والثقافي لأنف الكذّاب بينوكيو.
كون أنفه يطول مباشرة بعد الكذب يقدّم مفهوم الكذب الأطفالي ككذب مكشوف منذ بدايته، وكذب غير منطقي لا يمكن تصديقه. فهذا بالضبط ما نراه في محادثة بينوكيو مع الجنّية الزرقاء، حيث تعرف مباشرة بأنه يكذب، وسرعان ما تشرح له بأن كذبه هو ما يؤدي إلى استطالة أنفه. عندما يسألها بينوكيو كيف كشفت أكاذيبه بسرعة، تجيبه الجنية: ""سرعان ما يُعرف الكذب يا بنيّ، لأنّ هناك نوعين من الكذب: هناك كذب بأرجل قصيرة، وكذب بأنف طويل: أما كذبك فهو على ما يبدو من كذب الأنف الطويل"".
وفعلًا يظن القارئ في البداية أن التوجه المركزي في الكتاب هو توجه لرسالة الصراحة والصدق والحقيقة، وهذا بالضّبط ما عرضه لنا والت ديزني في فيلمه ""بينوكيو"" من عام 1940. لكن كتاب كولودي لا يتوجه إلى هذا الهدف في نهاية المطاف. بينوكيو لا يصبح طفل حقيقي لأنه تعلّم الصدق، ولا لأن الحقيقة حرّرته من قيود الكذب وحرّرت أنفه من الاستطالة التي تكشف عُريّه. بينوكيو يصبح ولد حقيقي فقط بفضل ""قلبه الكبير الطيّب""، على لسان الجنّية، التي تضيف ""فالأولاد الذين يعينون والديهم بمحبة وإخلاص، ويساعدونهم على بؤسهم ومرضهم، يستحقون كلّ الشكر والمديح والمحبّة، حتى إذا لم نكن نعتبرهم مثالاً كاملًا عن الطاعة وحسن السلوك"". أي أن بينوكيو حصل في النهاية على مطلبه فقط لكونه بارّ لوالده وليس لكونه صادق. وأظن أن رسالة كولودي المركزية من الكتاب، التي زرع بذورها في فصوله المختلفة، هي أنه طالما استعمل الفرد الكذب كأداة جشعة، فسيبقى دمية خشبية يشد خيوطها من هم أكثر منه جشاعةً. فالكذب هو موضوع معقّد ومركب، ولا يمكن التعامل معه حقًا كما تعاملت مع الساحرة، فهو ليس أبيض أو أسود ولا حتى خيرًا أو شرًا، بل هو صفة وميّزة بشرية، على الانسان اتقانها والتمكن منها دون استغلالها وتوظيفها للطمع والجشع. فالتربية الخيّرة والاجتهاد في التعليم هي رسالة الكتاب الحقيقية، وهي التي تحرّر الطفل من قيود الكذب.
إحالات:
[1] كافة الاقتباسات في النص تعتمد كتاب ""مغامرات بينوكيو – حكاية دمية""، من ترجمة نبيل رضا المهايني، واصدار دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، الطبعة الأولى 2018.