إتخاذ المهجر مسكنًا، لا ينفي الوطن من قلوبنا... حين تركت سالي عزام ليوانها بحثًا عن ليوان جديد

إتخاذ المهجر مسكنًا، لا ينفي الوطن من قلوبنا، فنحن نشتاق إلى الوطن كلما دغدغنا الحنين اليه، مزروع فينا حتى وان اختار المرء لنفسه ولعائلته بلادًا غير بلاده مسكنًا له، حين تضيق بلاده به أو حين تنفذ لديه كل السُبل أو معظمها، أقلها الرغبة في البقاء، أهمها الشعور بالأمن والأمان والطمأنينة في محيطه، والخوف من مستقبل مبهم- حاضره يستشري به العنف- هذا ليس تعميمًا لكنه جزء من واقع نعاني منه للأسف بشكل يومي في مجتمعنا المركب، وسياساته المركبة.

قد يحمل الماضي في طياته ذكريات تحمل صورًا جميلة، ندركها لاحقًا، غرستْ فينا قيمًا، حُبًا للمكان، تعبق فيها رائحة القهوة والبهارات المنبعثة من دكان في قلب السوق القديم بالناصرة لطفلة كانت تعود أدراجها من المدرسة المجاورة لتلتقي مع ابيها فيه (قهوة عزام)، تشاهده وهو يقوم بتعبئة أو تقديم القهوة للزبائن، وتراقب ألوان البهارات كأنها جزء من ديكور هذا المبنى العتيق في السوق القديم.

أما السوق...هو أصل الحكايّة، ونهايتها

التقينا بـ "فارءة معاي"، مع الناشطة السياسية والاجتماعية ابنة مدينة الناصرة سالي عزام، التي لململت كل ما تبقى لها من أمتعة في الناصرة، داخل حقائب السفر مع تذكرة ذهاب دون عودة قبل سنة تقريبًا، لم يكن اختيار سالي وزوجها الصحافي البريطاني جوناثان كوك، وابنتيها بيان وهناء (11 و14 عامًا) سهلاً أو حتى واردًا، لكن ترتيبات القدر والظروف هي من لعبت دورًا في اتخاذ هذا القرار والوصول إليه.

لمن لا يعرف سالي، هي مبادرة وشريكة في تأسيس مقهى "ليوان" في سوق الناصرة، المقهى الذي يجسد فكرة إحياء الموروث الفلسطيني والنصراوي وتقديمه للسائحين الأجانب من خلال السياحة البديلة في أنسنة قصص السوق وأهله وأصحاب المحال التجارية، وأيضًا من خلال مبنى ليوان نفسه وما يحتوي من تحف فنيّة تراثيّة ومن خلال ما يقدم من خدمة طعام ومشروبات للزبائن والسائحين خاصة، هذا المقهى الذي أسس الخطوة الأولى في إعادة الاستثمار بسوق الناصرة، وتشجيع المبادرين أصحاب القيّم والانتماء للبلدة بمحاولة فتح الدكاكين التي تصدأت أقفالها، من جديد.

في حديثنا مع سالي، حول البلاد وخاصة مدينة الناصرة ومكانتها بالنسبة لها قالت: " شعور الانتماء بالأساس هو للبلاد كلها بمدنها وقراها وساحلها ومن البحر الى النهر، لكن يبقى أيضًا للناصرة حب من نوع آخر الذي نشأ معي منذ الطفولة، وكان يكبر معي، لكن للأسف، مع مرور الزمن بدأت المدينة في التراجع، وأثرت عليها الأوضاع الاقتصادية التي انعكست على بلدتها القديمة ومنطقة السوق بشكل خاص، واجتماعيًا مع انتشار العنف، وتأثرها بالظروف السياسية ".

وتابعت: "منذ طفولتي كان دائمًا لدي حب الاستطلاع والمعرفة، أبحث عن الجوانب الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالناصرة، لدي ميزة المغامرة والتمسك بالحلم إلى أن يتحقق، كان أحد هذه الأحلام انشاء المقهى الثقافي " ليوان "، الذي كان استثمار ومبادرة مشتركة مع شريكين آخرين " سامي وسيلكي ".

الحلم الذي تحقق...

يعتبر مقهى ليوان، من رواد المقاهي والمطاعم داخل البلدة القديمة في الناصرة وسوقها وأكثرهم شهرة، حين سألنا سالي عنه قالت: " ليوان هو " البيبي تبعي "، هو الطفل الذي كبرته، كان عبارة عن حلم، وصممت على تحقيق فكرة افتتاح مقهى ثقافي في سوق الناصرة، كما أنه أكبر انجازاتي المهنيّة ".

وتابعت: "تجربتي مع مقهى ليوان، أثبتت لي أن الأحلام تتحقق ولا شيء يقف بطريق الشغف حين يكون هناك مبدأ، لأن ليوان حلم مبني على قيّم ومبدأ ثقافي، وهدفه غير شخصي، بدليل أنه ما زال قائمًا حتى اللحظة وبدوني، هناك الكثير من الأشخاص لديهم اهتمام بالسوق، لكن لديهم مصالحهم الشخصية من وراء هذا الاهتمام، الفكرة من وراء ليوان، أن يكون نموذجًا يحتذى به، وكثر من الشباب والصبايا مشوا بنفس الطريق، ووضعوا بصمة رائعة في سوق الناصرة ".

كورونا وأعباؤها الاقتصادية... بسبب الاغلاقات والخطوة الأولى نحو الهجرة

يمكن القول ان مقهى ليوان، كانت له حركة ثقافية لافتة في الناصرة، التي على أثرها تشجع مبادرون في المغامرة بإنشاء مبادراتهم وتحقيق أحلامهم، كما وتعتبر الحركة التجارية في سوق الناصرة بطيئة نوعًا ما أو موسمية، أو متعلقة بنهاية الأسبوع واقبال السياحة الداخلية أو من مجموعات السائحين الأجانب، لكن أزمة كورونا كان لها أثرها السلبي على الحركة التجارية عامة، ومن ضمنها المحلات المتواجدة في البلدة القديمة بالناصرة، ومن بينهم مقهى ليوان الذي تأثر بالجائحة وما خلفته من أعباء اقتصادية، بسبب الاغلاقات المتكررة، هذا ما أدى إلى وصول الشركاء إلى لقرار فض الشراكة بينهم لتتنازل سالي بعد الحديث بينهما حول مستقبل ليوان، اغلاقه، أو بيعه لمستثمر، أو التنازل عن الشراكة لسامي ليصبح هو المالك الوحيد للمقهى.

وحين أصبح واضحًا لسالي أن ليوان كان من الممكن أن يغلق أبوابه امام مرتاديه وزبائنه، قالت: " بدأت بتقبل فكرة ان " ليوان انتهى "، وأصبح من السهل علي فكرة أن أهاجر، إضافة أصبحت دون عمل ".

دوافع الهجرة... والتمسك بالأرض والوطن بالوقت ذاته

وعن أسباب الهجرة، قالت سالي أن الأسباب شخصية، مشيرة: "بداية، إذا عدنا الى تاريخ شعبنا الفلسطيني عبارة عن تهجير، والهجرة لم تكن من الاحتمالات الواردة بالنسبة لي، وذلك من باب أن لدينا شعب كامل تهجر من أرضه، وأنا دائمًا من الأشخاص المتمسكين في أرضنا، لأني تعايشت مع قصص تهجير لأشخاص اقتلعوا من بيوتهم، وكان تمسكي بالبلاد ليس فقط من دافع عاطفي وحبي لها، انما من واجب الحفاظ على المكان".

قرار الهجرة كان صعب، وليس أمرًا سهلاً رغم أن دوافعه شخصية، وهي عبارة عن قفزة في حياتي الشخصية، كان لدى رغبة القيام بها، وهذا لا يعني أنه لا يوجد لدي روابط متينة مع البلد، لكني كنت بحاجة الى تغيير في حياتي الشخصية، ولا يوجد لدي عمل، ورأيت أنه لدي الحرية في عمل أي شيء جديد، وأنا على معرفة أن ليوان في ايدٍ أمينة، وبإمكاني تركه وأنا مطمئنة، وأن هناك شباب وصبايا صغار لديهم هذا الانتماء والتمسك بفكرة احياء سوق الناصرة، وهذا أمر له أثر جميل في داخلي".

وتابعت: "عندما قررت الهجرة، لم أشعر بأنني تركت الطريق في منتصفه، كانت الحلقة بالنسبة لي قد اكتملت، وهذا ما شعرت به، حين قام زملائي المبادرين في البلدة القديمة بتنظيم حفل توديع لي، حينها ودعت ليوان والبلدة دون أي غصة بترك المكان، تركت المكان عند نهاية الطريق وأن رحلتي مع ليوان واحياء سوق الناصرة قد اكتملت".

أما الأسباب الثانية، هي على الصعيد العام والاجتماعي في مدينة الناصرة، كان أبرزها، العنف ضد النساء والتحريض عليهن، وهو أكثر ما كان يقلقها، بالإضافة الى البحث عن الاحترام المتبادل بين السكان، غير المشروط بالمنصب واسم العائلة، من هو الشخص، وكم من المال لديه، حيث عبرت عن قلقها من هذا السلوك والتعامل، كما انه يستفزها.

وأكدت سالي هنا: "أسباب الهجرة شخصية، وبما أنني متزوجة من شخص بريطاني منذ 20 عامًا، وكانت لدي إمكانية الانتقال لبلد جديد، أصبحت واردة في حياتي، وكوني أم لبنتين كان دائمًا يشعرني بالذكورية المنتشرة في مجتمعنا، لدي مخاوف على ابنتي من العيش في هذا المجتمع".

بريستول الواجهة الجديدة... حياة جديدة الانسان أول أولوياتها

لمن لا يعرف، سالي متزوجة من الصحافي البريطاني جوناثان كوك، وتعرفا على بعضهما في مدينة الناصرة، حين أتى اليها عام 2003، لكتابة تقرير عن الانتفاضة الثانية، التقيا صدفة في المهد الفرنسي ونشأت بينهما صداقة التي تطورت الى زواج، الذي أثمر عن ابنتيها بيان وهناء.

خلال مسيرتها المهنية، عملت سالي في جمعية نساء ضد العنف على خط الطوارئ، وكانت متطوعة في عدة جمعيات ومؤسسات، ولاحقًا عملت في أحد الفنادق بسوق الناصرة، حتى وصل بها المطاف لإقامة مشروع مقهى ليوان الثقافي، واليوم بعدما تركت البلاد وانطلقت نحو حياتها الجديدة، تعمل مع جمعية حقوقية مكاتبها في لندن تدعى " Amos Trust “ التي تعتم بالشؤون الفلسطينية والعدالة للفلسطينيين في الضفة وغزة.

وأكدت في حديثها: "الهجرة ليست انفصالاً عن الموطن، يوجد الكثير من الناس يعيشون في بلادهم ولا يوجد لديهم أي انتماء لها، كوني اخترت الهجرة من البلاد، هذا لا ينفي انتمائي وحبي الكبير لها، ليس مهم أين يكون مكان تواجدك حتى تعبر عن هذا الانتماء، أنا لا أرى بالهجرة أن موضوع الانتماء لبلد والوطن قد انتهى، وعملي في هذه المؤسسة هو أكبر دليل على ذلك، كل انسان يحب العمل في مسار مختلف، وأنا عبرت عن وطنيتي بالعمل من أجل البلاد بهذه الطريقة".

أما عن بريستول، وهي احدى مدن ومقاطعات إنجلترا، قالت: "منذ لحظة وصولي الى المدينة، قررت الانقطاع عن الخارج، وأعيش التجربة في كل حواسي، كان امامنا الكثير من التحديات أولها التأقلم في العيش، وخاصة مع طفلتين ودمجهما في المدرسة، ثقافة جديدة وزملاء جدد والانكشاف الى عوالم جديدة، وسرعان ما اندمجتا وهذا الأمر ظهر على تحصيلهم العلمي الذي ارتفع مع الانتقال الى بريستول. وعلى الصعيد الشخصي بدأت ببناء علاقات جيدة على المستوى الاجتماعي والمهني".

فرصة للتعرف على جنسيات عربية من الصعب الالتقاء بها والتواصل معها في البلاد...

من الفرص الجميلة التي تحدثت عنها سالي خلال اللقاء هو التقاؤها مع مهاجرين عرب من جنسيات عالمية متنوعة، وخاصة العربية، مشيرة: "نجحت إسرائيل في تقسيم المواطنين العرب وعزلهم عن إخوانهم في الضفة وغزة وحتى في الدول العربية، حين كنت في الناصرة لم تكن لدي الفرصة في الالتقاء مع مواطنين فلسطينيين لاجئين بدول عربية او حتى بأوروبا، أو حتى مع مواطنين عرب من جنسيات عربية لديهم اهتمام بالقضية الفلسطينية مثل الجزائر، المغرب وسوريا، ومن أيضًا من باكستان وغيرهم، لكن اليوم لدي سبل التواصل معهم، والشعور بامتداد الوطن العربي وهو شيء لم يكن بإمكانياتي لو لم آخذ قرار الهجرة".

توأمة بين الناصرة وبريستول... وفكرة بناء ليوان جديد

وخلال حديثنا معها، قالت سالي: "رغم بعد المسافة، إلا أنني دائمًا أفكر في البلاد، وما يمكن أن أفعله لأجل الناصرة من مكاني في إنجلترا، ومن بين المشاريع التي أطمح في تحقيقها، هي بناء مشروع توأمة بين الناصرة وبريستول، الذي يهدف الى تبادل ثقافات ومشاريع بين البلدين، لدي الكثير من الأفكار المستقبلية، ولا أخاف خوض التجارب، ومن بينها نقل فكرة مشروع مقهى ليوان الثقافي إلى بريستول بنفس الروح التي كانت في الناصرة، بفكرة السياحة البديلة".

 احتجاج عبر الدراجات الهوائية الذي نظم في إنجلترا

وأشارت: "قبل عدة أيام شاركت في احتجاج عبر الدراجات الهوائية الذي نظم في إنجلترا ببلدة اسمها "دربي" حتى مدينة "مانشستر"، وشارك فيها نحو 300 شخص من جنسيات مختلفة للاحتجاج على النظام القائم في إسرائيل ضد الفلسطينيين وبهدف رفع الوعي تجاه الشعب الفلسطيني في إنجلترا".

"قطعت تذكرة دون رجعة"

وحول سؤالنا إذا كانت لديها رغبة في العودة للاستقرار مستقبلا في البلاد، قالت:"منذ قرار الهجرة قمت بزيارة البلاد عدة مرات، لكن كضيفة التي ستعود إلى ديارها الجديدة، فكرة العودة الى البلاد غير قائمة، أشعر بالسعادة بهذا القرار، وخاصة ما تقدمه هذه البلاد من خدمات اجتماعية وصحية للنساء، المرأة في سلم الأولويات، وهذا ما يجعلني مطمئنة أكثر على مستقبل ابنتي، اللاتي أثر الانتقال على نفسيتهما بشكل إيجابي ظهر عليهما بالتمييز الدراسي غير المسبوق".

وفي نهاية حديثنا معها قالت: "الحياة أيضًا وردية، لكننا دائمًا نبحث عن عالم وردي يحتضننا مع كل الصعوبات التي تواجهنا، وهذا ما بحثنا عنه عائلتي وأنا". 


تقرير: للصحافيّة نرمين عبد موعد.

نرمين عبد موعد

صحافية وناشطة اجتماعية من الناصرة

شاركونا رأيكن.م