مزايا تعليم التاريخ والأدب والفنون في المرحلة الثانويّة
نلاحظ أنّ اهتمام الطلّاب بدراسة العلوم الإنسانيّة كالتاريخ والآداب والفنون يتضاءل سنة بعد سنة، وكثيرا ما يعترض أبناؤنا وبناتنا على دراستها معلّلين ذلك بمحدوديّة أهمّيّتها في حياتهم المستقبليّة، بل لربما بانعدامها! هل حقّا يمكننا التنازل عن تعليم الأدب والتاريخ والفنون لطلّابنا؟ وكيف يمكن لقصائد أبي تمام، المتنبّي أو درويش أن تساعد من يتعلّم الهندسة في حياته المستقبليّة؟ ولماذا ""يضيّع"" الطالب وقته في تعلّم التاريخ والفنون ما دام سيصبح محاميّا؟ وهل يمكن أن تقتصر دراسة الطلّاب على العلوم الدقيقة كالرياضيّات والفيزياء وعلى اللغة الإنكليزيّة، إذا ما رغبوا بذلك؟ ما هو دورنا كتربويّين وأولياء أمور في زيادة الوعي حول أهمّيّة دراسة هذه العلوم؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ لدراسة العلوم الطبيعيّة والرياضيّات واللغة الإنكليزيّة أثرًا كبيرًا على حياة طلابنا العلميّة والعمليّة في المستقبل، ولست هنا لأنفي ذلك، بل لأتناول أهمّيّة تعليم العلوم الإنسانيّة لطلابنا في المرحلة الثانويّة. وهنا أشير إلى أنّ دورنا كتربويّين كأولياء أمور ومثقّفين لا يقتصر على محاولة إقناع طلّابنا وأبنائنا بتعلّم هذه العلوم، بل علينا مناقشة أهمّيّتها معهم بشكل مباشر؛ الأمر الذي من شأنه أن يزيد من دافعيّتهم نحو تعلّمها.
نطمح كمجتمع أن تقوم المدرسة الثانويّة بتنشئة طلّاب مستقلّين يتحلّون بالقيم الإنسانيّة والاجتماعيّة والحضاريّة، كما نطمح أن تعمل المدرسة على صقل هُويّات طلابنا الفرديّة والجمعيّة، وإكسابهم الأدوات والاستراتيجيّات للعيش في مجتمع دائم التغيّر، ولكن كيف يكون ذلك؟
بداية، كأقلّيّة فلسطينيّة عربيّة تعيش في هذه الدولة، علينا أن نولي اهتمامًا كبيرًا لتنمية هويّة بناتنا وأبنائنا الجمعيّة والفرديّة على حدّ سواء؛ كي نحافظ على كياننا الإنسانيّ والقوميّ والحضاريّ. برأيي، إنّ دراسة التاريخ والآداب والفنون في المرحلة الثانويّة توفّر فرصة لا يمكن التنازل عنها لتعزيز الهويّة وبلورتها، وخاصّة أنّه في هذه المرحلة العمريّة يبدأ الطلاّب ببلورة هويّاتهم على مركّباتها المختلفة. ويساهم الاطّلاع على التاريخ وأحداثه بمآسيه وانتصاراته، وعلى الأدب العربيّ والفلسطينيّ وعلى الفنون عامّة في بلورة الهويةّ الفرديّة والجمعيّة؛ إذ ينمّي الاطّلاع على هذه المضامين ودراستها من حسّ الانتماء إليها، ويوطّد العلاقة الشعوريّة الإيجابيّة معها. كما أنّ دراسة هذه العلوم تشكّل حيّزا للتأمّل والتفكير في التاريخ وأحداثه وتداعياته، وفي الآداب وما تعرضه من أفكار وقيم ومضامين وتساؤلات؛ الأمر الذي يزيد من وعي الطلّاب بها. هذا الوعيّ عبارة عن وعي فرديّ وآخر جمعيّ، أي أنا كفرد مستقل لديّ أفكاري وآرائي وانتماءاتي، وأنا كذات جمعيّة لدينا أحلامنا آلامنا وآمالنا، تاريخنا وانتماءاتنا، حضارتنا وثقافتنا المشتركة، الأمر الذي يساهم في بناء الهويّة الفرديّة والجمعيّة، ويتدخّل في تحديد مركّباتها المختلفة.
والأدب أسوة بالفنون الأخرى قادر على التعبير عن المشاعر والأفكار والآراء والتساؤلات والأزمات التي يمرّ بها المبدع، وتشكّل دراسة الأدب والفنون إطارًا لطلابنا يعينهم على خوض التجارب الغيريّة، حتى لو كانت تجارب افتراضيّة، وعلى تقبّل الآخر المختلف، وعلى الاستماع إلى ما يقوله، والتعوّد على مناقشته بشكل حضاريّ. كما أنّها تشكّل حيّزا تربويّا لمناقشة القوانين والأعراف والقيم الإنسانيّة والاجتماعيّة والدينيّة والحضاريّة التي يعرضها المبدع، ومناقشة الفرق بينها، ودورها في بناء المجتمع، ولربما مناقشة الفكرة الفلسفيّة التي تكمن في كلّ منها، وهل يجوز الاستغناء عنها؟ متى؟ ولماذا؟ وخاصّة أننا نعيش في مجتمع يعاني من أزمة أخلاقيّة، تغيب عنه الكثير من القيم الاجتماعيّة والانسانيّة والحضاريّة. ومن هنا، يمكن القول إننا عندما نعلّم الأدب والفنّ لطلّابنا نساعدهم على تسليط الضوء على آفات المجتمع وعلى الحاجة لتغيير الوضع القائم، والعمل على تجميل الصور عبر تحسين الواقع، وبناء مجتمع سليم مستقبليّ.
علاوة على ذلك إنّ تعويد الطلاب على مناقشة الأحداث التأريخيّة، أسبابها وتداعياتها والمقارنة فيما بينها ومقابلتها مع الواقع، ودراسة النتاجات الأدبيّة على اختلافها، مناقشتها تحليلها وسبر غورها بعيدا عن التلقين، يهيّئ فضاء رحبًا يُعين الطلّاب على خوض تجارب التفكير الناقد المبنيّ على معايير مثلا: من خلال مناقشة الأسباب والنتائج والتداعيات لحدث تأريخيّ معطى، مع تعويد الطالب على مناقشة صحّة الرواية التأريخيّة والتأكّد من نوايا الكاتب؛ أو من خلال تناول مضمون النصّ المعلن والخفيّ ودراسة الشخصيّات وقراءة السطور وما بينها وما وراءها. زد على ذلك، يشجع تعليم الأدب والتاريخ الطلّاب على التعوّد على طرح الأسئلة الفلسفيّة والوجوديّة نحو: ماذا سيحدث لو؟ لماذا؟ هل كان من الممكن أن تتغيّر الأحداث التأريخيّة؟ كيف يمكن أن تتغيّر؟ ما هي الصورة التي يعكسها الأدب؟ لماذا؟ ما هو موقف المبدع؟ ولماذا..؟ وكيف...؟ وماذا...؟ ومن هنا يساهم تعليم التأريخ والأدب في تنمية مهارات التفكير العليا التي يحتاجها الطالب في دراسته الأكاديميّة وفي حياته المستقبليّة أسوة بالرياضيّات والفيزياء والعلوم الأخرى، وهي ليست حيّزا للتلقين والحفظ كما يعتقد البعض.
علاوة على ما سبق، يساهم تدريس الفنون والآداب في تنميّة الذائقة الفنيّة عند طلابنا، وفي تنمية مهاراتهم الإبداعيّة كالرسم والكتابة والقصّة والعزف، كما يزيد من رغبتهم في الانضمام إلى كوكبة المبدعين. وهذا الأمر محمود لأننا كمجتمع نحتاج إلى الفنّانين والمبدعين تماما مثلما نحتاج إلى العلماء والأطباء والمهندسين والعمّال والتقنيّين، وخاصّة أننا نسعى لتنشئة جيل مستقبليّ متكامل يعمل على بناء مجتمع سليم منتج مبدع يتحلّى بالقيم متمسك بهويّته.
وللإجمال بحسب رأيي، إنّ تعليم الأدب والتاريخ والفنون في المرحلة الثانويّة يساهم في بناء هويّة أبنائنا وبناتنا الفرديّة والجمعيّة، ويعمل على تنمية مهارات التفكير العليا لديهم، وعلى إكسابهم القيم التي نحن كمجتمع في أمسّ الحاجة إليها، بالتالي يساهم تعليم الأدب والتاريخ والفنون في تنشئة إنسان متكامل.
د. تماضر صفدي - إبراهيم
معلّمة ومرشدة قطريّة في القسم "أ" للتطوير التربويّ، السكرتارية التربويّة. صدر لها كتاب تحت عنوان "مفهوم المكان في الشعر الفلسطينيّ"