ما بين السلطوية والسلطة الإيجابية في التربية

يعيش المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل تمييزًا بنيويًّا ينعكس في الغبن القائم في توزيع الموارد وممارسة الحقوق المدنيّة. هذا الغبن محسوس جدًّا في الجهاز التربويّ العربيّ، ما يزيد من الشعور السّائد في المجتمع بالاغتراب وبالتهميش، ويؤثر على قدرة الطّواقم التربويّة في توفير بيئة إيجابية وداعمة للطلّاب، خاصة الطلّاب المهمشّين والذين في خطر. ويؤثر الوضع السياسيّ والأمنيّ تأثيراً كبيرًا على المدارس في الجهاز التربويّ العربيّ، وعلى دفع مسارات التغيير فيها، ويخلق توتّرًا في العلاقات بين المدارس العربيّة وبين البيئة المؤسّساتيّة والسياسيّة. يُطلَب من أعضاء الطواقم في المدارس العربيّة أن يعربوا عن ولائهم الجليّ للدولة، من خلال إخراس أيّ نقد أو تعبير عن التضامن مع أبناء شعبهم.

هذه العوامل تؤدّي إلى خلق واقع مُركَّب في المدارس العربيّة في إسرائيل، وتؤثر بشكل بارز - بوعي أو من دون وعي - على عمل طاقم المدرسة، وعلى قدرته على مواجهة عالمه وعالم الطلاب العاطفيّ. تختلط هذه العوامل وتصعب الإشارة إلى مميّز واحد –ثقافي، اقتصاديّ، اجتماعيّ أو سياسيّ - يوضح ويشرح خاصّيّة هذا الواقع. من نتاج هذا الواقع نشوء هشاشة كبيرة في المدارس العربيّة، لأنّ الفرد وذاتيّته مهمّشان أحيانًا في عائلته، وفي مجتمعه، وفي الحياة العامّة في إسرائيل، كونه عربيًّا فلسطينيًّا.

من هنا لا يمكن الفصل بين التغيّر الحاصل والمنشود في فهم ""السلطة التربوية"" وبين السياقات الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسيّة التي يحدث بها هذا التغيّر.

تغيّرات في فهم السلطة

السلطة التربوية (في البيت وفي المدرسة) مرّت وتمر بتغييرات كبيرة من حيث فهمها، نفوذها، وتأثيرها؛ حيث ينُظر إلى تآكل السلطة (التربوية) الرسميّة على أنّه أمر إشكاليّ في الغالبية الساحقة من المجتمعات. تتعلّق حدّة المشكلة باستيعاب وإدراك السلطة الرسميّة (متمثّلة في الرئيس، أو المدير، أو المعلّم...) كقاعدة للقوّة والاحترام. يمرّ المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل بمسارات تغيّر عميقة، وكان قد عرّفه ب. خالد ابو عصبة (2012) أنّه مجتمع مأزوم، تحدث في داخله تصادمات كثيرة بين القيم، تؤدّي إلى تجزئته إلى مجموعات مختلفة. ثمّة قطاعات واسعة في المجتمع ما تزال مُحافظة، وتستند في وعيها وإدراكها إلى المبنى البطريركيّ الذي تحمل فيه مصطلحات مثل: ""السلطة والقوّة والاحترام"" مدلولاتٍ كبيرة وقوّة هائلة. وتتحدّد السلطة الرسميّة وفقًا للموقع الذي يحتلّه الشخص في الهرميّة المجتمعيّة، وينُظر إليها على أنهّا قاعدة قوّة مركزيّة للشخص، وأحياناً كمصدر قوّة حصريّ.

من خلال عملي مع التربويين وخاصة مع مدراء المدارس، ألاحظ أنّه ما زال هناك انشغال كبير في فهم السلطة، وبلبلة كبيرة بين مفهوم السلطة كسلطة إيجابية إنسانية ومهنيّة وداعمة، وبين السلطة كأداة سيطرة وتحكّم وإملاء أوامر وتعليمات.

مثال على ذلك ما قاله أحد المدراء المشاركين في مجموعة تجري مرافقتها مهنيًّا:

""هكذا الأمر في الوظيفة الإداريّة. أنا المدير ويجب أن أكون قويًّا وعارفًا بكل شيء. إذا فقدت هيبتي ستسود الفوضى. وزارة المعارف تقيّدنا، لكن صراحةً، لا أرى ضررًا في استعمال الصراخ والعقاب من أجل الحفاظ على مكانتي. إذا فقدت السيطرة والاحترام، سيقوم المعلّمون والأهالي بإحكام قبضتهم عليّ. في كلّ مرة كنتُ أقيمّ فيها نفسي، كنتُ أعتقد أنّني أقوم بالأمر الصواب، أنّي تمام التمام. لم أكن آخذ الأشخاص الآخرين بعين الاعتبار، لا في المدرسة ولا في البيت. لم أكن أعترف بأخطائي. كان الخوف والشعور بالتهديد يشغلني. لم يهمني ما إذا كان الأمر حسنًا أم لا. المهم احترامي واحترام تعليماتي وتنفيذها...""

في مثل هذا الوضع، يتحوّل الحفاظ على السلطة إلى غاية بحدّ ذاتها من دون علاقة بالحاجة المهنيّة لذلك، و/أو باحتياجات المؤسّسة و/أو للغاية المؤسّساتيّة، ومن دون وجود تعامل ندّي، حواريّ، مهنيّ ومثرٍ.

ما زال هذا الواقع يمُيّز مجتمعات مُختلفة، ويبرز أيضًا عند بعض فئات المجتمع العربيّ- الفلسطينيّ في البلاد، نتيجة لمميّزاته الخاصّة، وكونه أقلية تنظر إليها الأغلبيّة المهيمنة على أنّها معادية ومرفوضة ودونيّة. ويستثمر مُعلمّون ومديرون عرب الكثير من طاقاتهم وجهودهم لإثبات قيمتهم ونجاحاتهم أمام المسؤولين الرسميّين عنهم في وزارة التربية والتعليم، ويخضعون لإملاءات هذه الوزارة دون القدرة على الاعتراض والتغيير. يُضاف إلى ذلك أنّ المديرين والمعُلّمين يخضعون للتقييم الدائم والمكُثّف والثاقب من المجتمع الذي ينتمون إليه، لا كمهنيّين فحسب، بل كأفرادٍ يعيشون في هذا المجتمع.

السلطة المتأمّلة والمتسائلة

لا يهدف طرح هذا الموضوع إلى تلويم واتّهام التربويين بالتقصير وتحميلهم وٍزر المشاكل المختلفة التي تعاني منها مدارسنا، وإنما تسليط الضوء على قضية هامّة يجدر تأمّلها، والسّعي الى إحداث تغيير في مفهوم السلطة، ومحاولة التحرّر من أنماط تفكير وعمل لم تعد ناجعة مع جيل مختلف عمّا كان.

من أجل أن يحدث تغيير في مفهوم السلطة كأداة سيطرة وفرض نفوذ على الآخر، يجب أن نتساءل حول نجاعة نهج أصحاب السّلطة في مدارسنا، وأيّ اهداف تتحقّق من خلاله. هل يساهم هذا النهج في بناء جيلٍ حرّ متسائل، نقديّ ومبدع؟ أم أنّه يعيد إنتاج ذواتٍ مهزومة، خنوعة، غاضبة، ومحبطة؟

من أجل أن يحدث تغيير لدى التربويين، يجب أن يكونوا أوّلًاعلى وعي ودراية بما يحدث لهم، وأن يميّزوا ويدركوا أنماط سلوكهم: ما هي الدوافع التي تدفعهم إلى هذه السلوكيّات؟ وما هي المشاعر التي تسيطر عليهم؟ وبالتالي من المهمّ أن تتوفّر لهم المساحة للتعبير عمّا يحدث معهم، وإسماع صوتهم كي يتمكّنوا من الإصغاء إلى الطلاب واحترام مشاعرهم.

إنّ المربّي الذي يفتقد الى التأمّل والتساؤل والتشكّك في نجاعة عمله وأساليبه، والذي يفتقد إلى الوعي لمشاعره وأفكاره، لن ينجح في أن يكون نموذجًا لسلطة إيجابية يُحتذى به من قبل ""الخاضعين"" له.

أخيرًا، من المهمّ أن يكون للمربي سلطته، لكنّ الأهمّ هو أن يميّز بين السلطة كسيطرة على الآخر، وبين السلطة الإيجابية التي تستند إلى الوعيّ الذاتيّ والسيطرة على الذات. سلطة تمتاز بالمهنيّة، بالمسؤولية، وبرؤية الطالب والمعلّم كإنسان له عالمه، ومشاعره، وأفكاره، واهتماماته.

مراجع

  • رمضان-سمعان إ.، فريدمان ف.، منصور م. (2021) السّلطة المتأمّلة- جسر إلى الداخل. مهنيّة أخرى في التعامل مع طلّاب مهمّشين وفي خطر. إصدار: جوينت أشاليم، القدس.

  • رمضان-سمعان إ.، فريدمان ف. (2018)، اجتياز الحاجز العاطفي- مسارات إرشاد ملاءَمة لمرشدي الطواقم التربويّة العاملين مع طلاب في خطر ومهمّشين في المدارس العربيّة في إسرائيل. إصدار: جوينت أشاليم، القدس.

  • أبو عصبة خ. (2012) التربية للقيم في مجتمع مأزوم، إصدار: معهد مسار للأبحاث والتخطيط الإستراتيجي، جت المثلّث.

د. إيزابيل سمعان رمضان

باحثة ومحاضرة في كلّية أورانيم للتربية ومركّزة مشاريع تربويّة ومرشدة طواقم تربويّة

شاركونا رأيكن.م