جرح تشرين النازف!
واحد وعشرون عامًا مرّوا وها هو تشرين يطلّ علينا من جديد مادًّا لسانه سافرًا، حاقدًا وبحرارة أشدّ من ذي قبل.
في تشرين ذاك كان قد تحدّانا القدر حيث وقعنا في قبضته حين انقضّ علينا أعداء الحياة، وأفرغوا رصاصات الحقد على صدور أبنائنا الذين كانوا يسيرون في أزقة الحياة آملين ملامسة الفرح وتحقيق آمالهم وأحلامهم.
واحد وعشرون عامًا مرّوا كأنهم دهر. لم تتبدّل الفصول خلالها ولم تتغيّر. قضيناها ونحن نتأمل في أحذية من رحلوا. هؤلاء الأحبّة انتعلوا أحذيتهم دون أن يدري الواحد منهم أنه انتعل حذاءه لمشواره الأخير، ولم يكن يتوقّع هؤلاء الشهداء أن تخونهم أحذيتهم، ولن يستطيعوا أن يكملوا مشوار الحياة.
واحد وعشرون عامًا مضوْا وما زلنا نشتم رائحة غيابهم. الزمن يركض ونحن نركض وراء العدالة الهاربة، وفي أيدينا خارطة الوطن، وفي عيوننا مرصد لجرحه.
عائلة واحدة أصبح ذوو الشهداء بعد أن رحل أبناؤنا. أمِلنا خلال تلك الفترة أننا وبجهود أبناء شعبنا ستتحقق العدالة بعد تشكيل لجنة ""أور""، لكننا خذلنا وجهودنا ذهبت أدراج الرياح خاصة أن الغالبية من أبناء شعبنا والقيادات قد تخلّوا عن هذه القضيّة، وتُركنا وحدنا في الساحات ومفارق الطرق، وكذلك في ساحات المحاكم نواجه المؤسسة خاصّة أننا نعيش فترة عصيبة، وفي زمن اختلّت فيه كل الموازين، وحكومات إسرائيل المتعاقبة تتفنّن في سنّ قوانين على مقاس جرائمها ثم تحاول بطريقتها الخاصّة قطع جذور ذاكرتنا.
كواحدة أنا من أمهات الشهداء كانت قد مرّت عليّ تلك السنوات مليئة بالوجع الذي كان يرافقني كظلّي وحين كان يشتدّ وجعي وقلقي في الليالي الحالكة كنت أطلّ من النافذة كي أحيّي القمر علّه يؤنسني ويخفف من هذا الوجع، لكنني كنت ألحظه فاحش البهاء، غير القمر الذي ألفته يومًا قبل استشهاد أسيل فأعود حالًا إلى فراشي لأعانق وحدتي.
أمهات الشهداء الأخريات لم يكن وضعهن يختلف كثيرًا. لقد شعرنا جميعًا بأن الزّمن قد توقّف منذ أن توقّفت ساعات الشهداء حيث اذهلتنا الحياة بمنطقها غير المتوقع لأنها أهدتنا جنازات على مقاس أحلامنا بدل أن تهدينا حياة على مقاس أحلامنا.
واحد وعشرون عامًا بأيامهم ولياليهم قضيتها أحدّق في صور الشهداء المعلقة على الحائط، لكنني لم أستطع يومًا النظر طويلًا في عيونهم لأنني كنت أشعر أننا تواطأنا معهم لدرجة كنت أشعر أن وجوههم تلاحقني أينما ذهبت، فتارة كنت أراها عن يميني وأخرى على يساري. أراها من أمامي ومن خلفي، وكلّما أدرت ظهري كنت أراها في زوايا البيت وإن خرجت إلى الحديقة أراها تطل ّمن النافذة وتهم بالنزول إلى هناك لتستظل تحت شجرة الزيتون.
كانت الليالي وما زالت تمرّ ثقيلة، أنتظر ساعات الفجر على أمل أن يتبدّد الحزن قليلًا لكنني سرعان ما أجد نفسي كل صباح أبحث عن الإجابات المستحيلة التي تقودني دائمًا إلى أسئلة أكبر وأعقد فيكبر الجرح ويصير شرخًا.
واحد وعشرون عامًا بأيامها ولياليها كانت قد مرّت قاسية مريرة كالعلقم حيث استحلنا أكتافًا نحمل قضية الشهداء ولا شيء سواها .كان صوتنا عاليًا في زمن خفتت فيه كل الأصوات ليتّسع الجرح إلى أن فقدنا علاقتنا بالزمن الذي قضم بعضًا من ابتسامتنا بل ابتسامتنا كلّها التي كانت تضيء لنا الطريق حين دخلنا في نفق مظلم .أمّا المؤسسة الصهيونية التي قتلت أبناءنا ومحت أسماءهم من سجل الحياة فقد واجهناها بالرّد بأن عملنا جاهدين كي يبقوا في سجل الذاكرة .لقد أبينا الاستسلام وفي خضم هذه المعركة تعلّمنا السباحة في البحر الهائج، فحين أطلقوا النار على رئتنا اكتشفنا كيف نتنفس وحين رمونا في عتمة الليل أبصرنا النور، لقد تعلّمنا حكمة العصافير مهما حصل سنظلّ نطير.
من هنا وانطلاقًا من واقعنا الأليم أرى أنه يتحتّم علينا أن نعيد النظر في صياغة رؤيتنا للأمور وطرق نضالنا في قضية الشهداء وقضية الأسرى وكل قضايانا الوطنية كي نواجه هذه المؤسسة المجرمة لأن هذا هو الزمن الملائم لتقويم أوضاعنا وإعادة النظر في علاقتنا مع هذه المؤسسة معتمدين على هذا الجيل الشاب المحب للوطن، الرافض للذّل وما ينقصه هو قيادة حكيمة متماسكة بعيدة عن المزايدات والانتهازية لأننا بصراحة نشعر أن الأرض تتحرك أكثر من ذي قبل تحت أقدامنا، وأن زمن الزلازل لم ينته بعد، وأن في عمق هذه الأرض حجارة لم تقذفها البراكين بعد.
لقد كانت قضية الشهداء هي قضية شعب بأكمله بالرغم من الألم الشخصي لكل عائلة شهيد حين انطلقنا منذ الأول نحن ذوي الشهداء لمتابعة هذه القضية من أجل محاكمة القتلة المجرمين لكن للأسف كانت خيبات الأمل متلاحقة إما بسبب التخاذل والتقصير أو بسبب عدم الالتفاف الجماهيري حولها ومناكفات الأحزاب وهذا لا شك ّقد سببّ في ترهّلها إلى أبعد الحدود مما جعل المؤسسة تستغل نقاط الضعف هذه.
صحيح أن القضية فقدت بريقها خاصة أننا نعيش في زمن أرخص ما فيه الإنسان، وأجهل ما فيه عقله، وأظلم ما فيه قلبه لكنني ما زلت أؤمن أن هناك بعض أمل لإعادة كرامة الشهداء على الأقل في تخليد ذكراهم من قبل هذا الجيل الشّاب الذين ما زالوا يجلسون على القمم وعلى شفاههم ابتسامات التحدّي.
أقول قولي هذا وأسيل الشهيد يطلّ عليّ من وراء الكلمات حاضرًا بتوصيته التي كتبها قبل استشهاده في ذكرى يوم الأرض سنة 1997 لأصدقائه مذكرًا إيّاهم بشهداء يوم الأرض حين كتب:
""سيقولون إنهم قاتلوا. إنهم حموا وطنهم. أنهم أتوا لسبب ما. أما أنا فأقول: لا سبب يستوجب الموت، ولكن أحيانًا يصبح موتك الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الآخرين. ماذا أقول لأم فقدت ابنها، أو أخت فقدت أخاها؟ أنا لا أستطيع إعادتهم إلى الحياة مهما بذلت من جهود. لكن لديّ القوة لاستحضار ذكراهم كي لا ننساهم"".
نعم هذه كانت وصية الشهيد أسيل حين رأى أهمية وواجبًا بإحياء ذكرى الشهداء وتخليدهم، ولكن للأسف ما نراه اليوم هو عدم الاهتمام لدرجة باتت بلداتنا العربية تضيق بأسمائهم وحلّت محلّها صور لمرشحي البلديات والكنيست في موسم الانتخابات وعلى مدار السنة صور للدعايات التجارية على أنواعها.
صحيح أن الله كان قد اختار أبناءنا ليكونوا شهداء، ولن يأتي يوم نرفع دعوى قضائية ضد السماء وضد هذا القدر، لكننا نشعر بالمرارة بعد أن خذلتنا محاكم الحياة، وعاتبون أيضًا على أبناء شعبنا وقيادتنا ممن تخاذلوا وتقاعسوا وعلى من مارسوا المقايضة. المال مقابل العمل الوطني.
في هذه المناسبة الأليمة لا بدّ إلا أن أوجه تحيّتي لأهالي الشّهداء الذين ساروا معنا في طريق الآلام حيث أسمعنا صوتنا خلال السنوات الماضية إلى أبعد نقطة في العالم كي نوصل رسالة الشهداء وحملنا قضيّتهم على أكتافنا حيث كانت برعمًا فأنضجناها، وكانت ساعات جمود فحرّكناها، وكنّا جنودًا وسط معركة نحارب الباطل من أجل الحق والعدالة.
لأمهات الشهداء تحديدًا أقول: تحية لمن فارقتنا وهي تحتضن ألمها، وتحية أيضًا لمن بقين على قيد الحياة. أناشدكن أن تبقين أحجار صوّان مرفوعات الرأس، وأن تقطعن المسافة المتبقّية من هذا العمر بالصبر وليكن ردّكن لمن يحاول لومكنّ: لا تطلبوا من القلب ألّا ينبض ولا من النجوم ألا تضيء لأن لكل منكن حكاية قد سجلّها التاريخ ولن أنسى عبارة نطقت بها المرحومة أم الشهيد عمر عكاوي حين جاؤوا يساومونها على دماء ابنها حين ردّت: ""صرماية عمر بسوى العالم كلّه.""
من ناحيتي أنا كأم أسيل وكما يعرف الجميع أنني عاهدت نفسي بأن أبقى مخلصة ومتمسّكة بقضية الشهداء كتمسّك الإنسان بالحياة. متمسّكة كتمسّك الطفل بدميته، والمؤمن بربّه، والسجن بأمله.
نعم سيبقى صوتي عاليًا، حتى لو خفتت كل الأصوات لأنني أؤمن أن الحق لا بدّ أن ينتصر على الباطل.
كلمتي لهذا الجيل أقول: أنتم الأمل الباقي فينا رغم أن المجهول يتّسع لكننا على يقين أن حناجركم ستظل ّتصرخ لأنكم تستحقّون الحياة.
لا تيأسوا أحبّتي فها أنا أرى نقطة ضوء من خلال هذه العتمة التي تخيّم علينا.
أمنياتي في هذه الذكرى أن يظلّ الجسر ممدودًا بين القلوب كي نخوض المعركة موحّدين أحزابًا وطوائف، رجالًا ونساء، شبابًا وشيوخًا وهذا لا شك أفضل سلاح نواجه به هذه المؤسسة العنصرية التي تمارس ضدّنا أبشع أساليب القمع لإبادتنا كشعب وطمس تاريخنا وهوّيتنا.
الرّحمة على أرواحكم أيها الشهداء وسنظلّ نحبّكم حتى ينطق الحجر.
كل تشرين وشعبنا بألف خير