القدس.. سيناريو لم يُكتب بعد!
كتب شاعر العروبة سميح القاسم أوبريت ""البيت"" منتصف التسعينيات؛ للفرقة النصراوية للتراث الشعبي والحديث ""موال"" وهو شعر مُغنى عبارة عن حوارات بين حبيبين : القدس والمُجهّر عنها، حوارات تروي حكاية حب لا ينتهي لمدينة تحتوي كل ما يمكن من تاريخ وحضارة وثقافة وفن، ولكن يعصى على الفن ان يحتويها. واعتبر القاسم القدس بيتًا لكل للأحباب المهرة والأصحاب البررة، ودعاهم ليأتوا ويشيدوا البيت من وجع الغربة والأدمع والدم، فقال:
سيُشيّد هذاالبيت، ويشيّد هذا البيت
فلتأتوا ولتأتوا
يا أهل الأرض العربية
وجراح فلسطين الحيّة
وقباب القدس الذهبية
بيت للعرب هو البيت
لكن في السينما، لم تكن القدس بيتًا للعرب وحدهم، كانت ولا تزال محط الأنظار، مدينة مشتهاة لم يتمكّن بعد أي سيناريو من إنصافها، ولم ينجح أي فيلم في وصفها كما تستحق، ولم يصل الى اعماق تركيبتها الغنية أي مخرج. القدس منبع القصص الذي لا ينضب، والأحداث التي لا تنتهي، والصور التي لا يمكن أن تتجمّد في لقطة. القدس هي البيت الذي يدور الصراع حوله، والرغبة في امتلاكه ليس مجازًا، بل في واقع الأمر كما نرى اليوم في أحياء القدس العربية.
كانت هذه المدينة على اختلاف تسمياتها التاريخية ""أورسالم"" و ""يبوس"" و ""القدس"" محط أنظار المخرجين الذين صنعوا أفلامهم منها وعنها، وسواء زاروها أو بنوا شبيهات لها، ظلّت المدينة في معظم الأفلام ذات مكانة لها من الأهمية الكثير حتى لو عبروا عن ذلك بمشاهد بسيطة او حوارات قصيرة، كما في فيلم ""مملكة السماء Kingdom of Heaven "" للمخرج ريدلي سكوت حيث قال صلاح الدين مجيبًا على سؤال باليان: ""ماذا تسوى القدس؟"" بقوله: "" لا شيء، بل كل شيء"".
مع انطلاق التصوير السينمائي في العالم كانت القدس قِبلته الأولى، فقام الأخوين لوميير بتصوير أول عُرف كشريط سينمائي في العام 1896 وكان توثيقًا لقطار القدس وظهر في الشريط بعضُ أهلها. أما عراب السينما الفلسطينية ابراهيم حسن سرحان فقام بتوثيق زيارة الملك عبد العزيز بن سعود للقدس في العام 1935 ليكون هذا باكورة الافلام الفلسطينية.
اختلف أسلوب طرح القدس في أفلام السينما الغربية والاسرائيلية والفلسطينية، ففي نظر صناع السينما من الفلسطينيين والعرب تعتبر القدس قلب الصراع مع الصهيونية والقومية الدينية اليهودية، وبالتالي فإن كل أذرع الدولة شريكة في المسعى لتهويد المدينة واحتلالها كليًا جغرافيًا وسياسيًا، فتحوّل النضال المقدسيّ المقاوم الى فلك السينما الفلسطينية والعربية وفيه بعض التنوّع في الطروحات لقضايا المدينة واهلها. اما السينما الغربية فتعاملت معها كمدينة القيامة ودرب الصليب، أما السينما الاسرائيلية فقدمت القدس كعاصمة اسرائيل التي تحتاج الى التحرير والتوحيد والنجاة من براثن العرب، وقدمت أهلها على شكل أطفال بملابس ممزقة وشوارع بائسة مقابل مصنع الحداثة والتطوير الذي أتت به الهجرة اليهودية. وكان ابراهيم حسن سرحان الذي عمل من قلب القدس، قد تنبه الى هذه المشاهد وكان واعيًا لرسالتها الخطيرة، وكذلك كانت الحركة الصهيونية والحكومة في فترة ما بعد قيام الدولة، نتج عنه قانون يمنح الكثير من الامتيازات لصنّاع السينما الذين يختارون القدس موقعًا للتصوير.
لم تغب القدس عن أنظار السينمائيين الغربيين، فقد قام المخرج أف أورميستون سميث بتصوير عدد من أفلامه بدءًا من العام 1905 في ما سميّ آنذاك الأراضي المقدسة دون ذكر صريح لاسم القدس، وأنتجت شركة باتيه الفرنسية مع المصور ليو ليفيفير عام 1908 فيلم بعنوان ""القدس""، أما المخرج سيدني أولسكوت فصور جزءًا من مشاهد فيلمه الشهير ""بن حور"" في المدينة المقدسة، ومن ثم فيلم يصور حياة المسيح في العام 1912 والذي اكتسب شهرة عالمية واسعة وظل يعرض على مدار 38 عامًا على الرغم من كونه فيلمًا صامتًا. أما المخرج الانجليزي موري روزنبرج فقد وصل فلسطين في العام 1911 وصور فيلمه ""فلسطين – عودة اليهودي من المنفى"" وظهر فيه رائد السينما الصهيونية يعكوف بن دوف، وقد حظي الفيلم باعجاب قادة الصهيونية فتحوّلت صناعة الافلام الى امر محبب فتم رصد التمويل للمخرج نوح سكولوفسكي ليقدم افلامه ""أول فيلم في فلسطين"" و ""حياة اليهود في فلسطين"" عام 1913. وهكذا؛ في الوقت الذي كانت القدس تندرج في إطار الأفلام الدينية والتاريخية من قبل صنّاع السينما الغربيين، كانت مركزًا للدعاية الصهيونية وأُستغلت لترويج الرواية المثقلة بتزوير الحقائق وتشويه صورة سكانها الأصليين وعرضهم كمتعطشين لقتل اليهود، برز ذلك في فيلم ""الخروج Exodus"" عام 1960 للمخرج أوتو بريمنجر وبطولة بول نيومن.
السينما المصرية – رغم عراقتها- لم تكن كثيرة الانشغال بالقدس، لكن المدينة المقدسة ظهرت بحلتها التاريخية والدينية وأحيانًا قليلة بالسياسية. وسأكتفي هنا بذكر فيلم ""الناصر صلاح الدين"" ليوسف شاهين الذي يعتبر من أهم ما قدمت السينما العربية الكلاسيكية، لكن شاهين في فيلمه هذا لم يقدم القدس بمكانتها التاريخية والدينية كما يجدر بها ان تقدم.
أما السينما الفلسطينية وصناع السينما العرب الذين عملوا مع الفلسطينيين، فقد اعتبروا القدس مركز قضيتهم، لكن ورغم المحاولات لتوثيق كل حدث وكل حجر وكل حكاية، فإن وتيرة الاحداث المتسارعة في القدس تجعل من رصد كل موضوعاتها في الافلام تسجيلية كانت او روائية صعب. لكن ذلك لم يمنع محاولة عرض قضايا المدينة ونقل صور دقيقة عما يدور في هذه المساحة الجغرافية بالغة الأهمية من فلسطين. ففي العام 1968 قدم الفنان التشكيلي فلاديمير تماري فيلمه القصير ""القدس""، وخلفه المخرج الشهيد هاني جوهرية بفلم ""فلسطين في العين""، ثم قام العراقي قيس الزبيدي بتقديم فيلم ""صوت من القدس"" حول المغني مصطفى الكرد صاحب الأغاني الوطنية الملهمة. المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي قدم أول فيلم طويل عن فلسطين وصور جزء منه في القدس عام 1980 وحمل اسم ""الذاكرة الخصبة"" تلاه العراقي قيس الزبيدي مرة اخرى بفيلمه ""فلسطين سجل شعب"" الذي شمل توثيقًا نادرًا للقدس.
خرجت للنور مئات الأفلام التي يصعب رصدها في مقال واحد، أفلام تصوّر عروبة القدس، ومقدساتها، واحتلالها، وأسوارها، وعرضت قصص سكانها وتهجيرهم وهدم منازلهم، رباطهم وصمودهم، تحدثت عن أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وتناولت حياتهم الاجتماعية وعاداتهم وثقافتهم. واكبت السينما ما مر على زهرة المدائن من حروب ومعارك، وعلاقتها بباقي اجزاء الوطن. ولم يغب عن العدسات شخصيات مقدسية مهمة وملهمة، وحكايات صغيرة وشخصية تعكس تأثير الاحتلال على حياة الناس اليومية.
لكن كل ما كان وما سيكون لا يمكنه مجاراة القدس، فلها الغلبة والتفوق دائمًا في ما يمكنها ان تخبئ بين أسوارها وفي أحيائها.. وسيُشيّد هذا البيت!
(الصورة المرفقة: أورلاندو بلوم من فيلم مملكة السماء)
الصورة المرفقة: لأورلاندو بلوم من فيلم مملكة السماء"