التأثير النفسي للصراع بين الدولة والأقلية الفلسطينية: بين التحدي والإحباط

العلاقة بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وبين الدولة هي علاقة صراعية وليست علاقة طبيعية بين مواطنين ودولتهم التي تحمل عادة مسؤولية حمايتهم ورعاية شؤونهم: إسرائيل تريد تهويد البلاد ومحو الهوية الفلسطينية من خلال سياسة تجهيل وعدمية قومية، والفلسطينيون يصرون على البقاء وعلى التمسك بوطنهم وبانتمائهم الفلسطيني وبحقوقهم.

لتوصيف الوضع النفسي عبر مراحل الصراع علينا أن نقيّم العوامل التالية: أولا المزاج العام أي مدى اليأس والإحباط أو مدى الثقة بالذات الجماعية والجهوزية للتحدي، وثانيا مدى المحافظة على المبنى الجماعي التقليدي والسلطوي للعائلة أو تفكك هذا المبنى، ثالثا مستوى تبلور الهوية الفلسطينية وتحديد العلاقة بالدولة، ورابعا صورة الآخر اليهودي في نظر المواطنين الفلسطينيين. كما أنه من الضروري رصد تغيّر هذه العوامل عبر أربعة مراحل للصراع منذ النكبة حتى الآن.

مرحلة الصدمة والإنكار والتبعية للعالم العربي

بعد النكبة ولجوء الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني إلى خارج الحدود ساد شعور الذهول والصدمة والإحباط في صفوف الجزء الباقي في وطنه، فانهمكت الغالبية العظمى في تأمين القوت والعمل والمسكن والبقاء في الوطن. ساد شعور العجز عن مقاومة الاحتلال ومصادرات الأراضي والحكم العسكري، فلم تكن إلا محاولات قليلة من التصدي للاضطهاد القومي قادها الحزب الشيوعي وحركة الأرض خاصة ابان العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 وفيما بعد لإسقاط الحكم العسكري. في تلك الفترة سادت حالة من الإنكار للأحداث ولقدرات إسرائيل، واعتقد الفلسطينيون الباقون في وطنهم أن إسرائيل عابرة، وتعلقوا بالأمل الآتي من رياح القومية العربية المتمثلة بعبد الناصر، والذي اندثر بعد هزيمة 1967.

مرحلة الضياع

في السنوات القليلة التي تلت الهزيمة تبددت دفاعيات الإنكار واندثر حلم النجدة الآتي من العالم العربي، فساد العجز والقلق بأبشع صورهما لدرجة ظهور ملامح إخفاء الهوية العربية أو الفلسطينية وتحاشى التكلم بالعربية أمام أجواء الاستعلاء والغطرسة التي سادت الدولة وانتشار مقولة ""الكف لا يستطيع ملاطمة المخرز"". تعمق هذا العجز والضياع بعد وفاة عبد الناصر مما جعل الفلسطينيون يشعرون بأنهم أيتام على مأدبة اللئام. لم تطُل مرحلة الضياع واليتم هذه فسرعان ما أدرك الفلسطينيون أنه لا بد من أخذ مصيرهم بأيديهم والاعتماد على أنفسهم وحساب مسيرتهم من جديد.

مرحلة تبلور الهوية الفلسطينية والنضال من أجل المساواة

مع بداية السبعينيات عاد المجتمع الفلسطيني إلى التماسك وتأكيد الهوية الفلسطينية بعد أن ظن الإسرائيليون أنها تلاشت من عقول العرب في البلاد كما تم التعبير عنه في مقولة ""الكبار يموتون والصغار ينسون"". في تلك الفترة تشكلت تنظيمات طلابية في جميع الجامعات وتشكل اتحاد الطلاب الثانويين واتحاد الطلاب الجامعيين العرب وتنظيمات أكاديمية ونسائية ونقابية أخرى وتشكلت لجنة الدفاع عن الأرض واللجنة القطرية للسلطات المحلية رفعت جميعها الصوت الفلسطيني من جديد، الأمر الذي فاجأ الإسرائيليين. وكانت إحدى مؤشرات هذه المفاجأة هو ظهور عناوين في الصفحة الأولى لمعريف ويديعوت أحرونوت بما معناه: الطلاب العرب يعرّفون أنفسهم بأنهم فلسطينيون. لقد تزامن هذا المدّ في الداخل مع حرب أكتوبر 1973 وتحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وكذلك صعود مكانة منظمة التحرير في العالم وظهور ياسر عرفات في الأمم المتحدة. في هذه الفترة انتقل المواطنون الفلسطينيون من حالة الإحباط إلى حالة التحدي والمواجهة والإيمان بقدرتهم على انتزاع حقوقهم كمواطنين في وطنهم. سقطت القيادات المتعاونة مع السلطة وانتصرت القيادات الوطنية في بلدية الناصرة وبعدها في عدد كبير من السلطات المحلية، وجاءت أول هبّة عارمة في يوم الأرض سنة 1976 ضد مصادرات الأراضي.

مع اندثار أمل القضاء على إسرائيل واندثار أمل الاعتماد على الدول العربية في التحرير، راجع المواطنون الفلسطينيون وجهتهم من جديد وربطوا مستقبلهم بالمواطنة الإسرائيلية وتواصل نضالهم من أجل المساواة وانتزاع المواطنة الكاملة في الدولة وهكذا عقدت مؤتمرات المساواة في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وبعد توقيع اتفاق أوسلو في عهد حكومة رابين حصل انفراج ما في حياة المواطنين الفلسطينيين يوحي بتعزيز مكانتهم في الدولة، إلى أن جاءت أحداث أكتوبر 2000 وسقوط 13 متظاهرا برصاص الشرطة، الأمر الذي شكل صفعة مصحّية من حلم تحقيق المواطنة الكاملة في إسرائيل.

من الجدير بالتنبيه هو أنه مع التحولات التي حصلت في تبلور الهوية الفلسطينية وتصعيد النضال من أجل المواطنة حتى التسعينيات، ومع استمرار قمع السلطات للمتظاهرين في يوم الأرض 1976 وفي هبة أكتوبر 2000 لا بد لنا من الانتباه للتحولات الجارية لدى السلطات. هذه التحولات تظهر حين نقارن بين توصيات وثيقة كينج حاكم لواء الشمال التي نشرها بعد يوم الأرض والتي تدعو إلى تشديد القبضة الحديدية على المواطنين العرب، وبين وثيقة أور التي بالرغم من عدم إنصافها دعت إلى تفهم حقوق وحاجات المواطنين العرب: وثيقة كينج اعتبرتنا دخلاء على الدولة بينما وثيقة أور تعاملت معنا كمواطنين يجب تحسين ظروفهم واندماجهم في الدولة.

مرحلة صياغة مفهوم المواطنة من جديد

بعد الصفعة التي تلقاها المواطنون الفلسطينيون في أكتوبر 2000 أعادوا من جديد تقييم مسيرتهم، فجاءت وثائق التصور المستقبلي سنة 2006 لتحدد مفهوم المواطنة من جديد والذي يوازن بين التمسك بالهوية الفلسطينية والمطالبة بحقوق المواطنة الكاملة. وبالفعل نشهد في العقدين الأخيرين تحركات تشير إلى التمسك بكلا شقي المعادلة: نرى مسيرات العودة وإحياء ذكرى النكبة، ومؤخرا المشاركة العارمة في هبة الكرامة من جهة، ومن جهة أخرى نرى، في استطلاعات الرأي العام في العقد الأخير، ميلا ظاهرا لدى المواطنين الفلسطينيين للانخراط في مؤسسات الدولة، ومؤخرا في مشاركة القائمة الموحدة في الائتلاف الحكومي.

لا بد أن نلفت الانتباه هنا إلى الدور المتصاعد للشباب في قيادة النضال أمام تراجع دور القيادات السياسية وفي التحرك الاجتماعي أمام تراجع القيادات الاجتماعية التقليدية. ففي الوقت الذي كانت لجنة المتابعة وأعضاء البرلمان العرب يقودون النضال في يوم الأرض وحتى التسعينات، نلاحظ منذ هبة أكتوبر 2000 أن الشباب الذي نما في ظل تبلور الهوية الفلسطينية يحدد أحيانا إيقاع التحرك النضالي وكثيرا ما يسبق القيادات في قراراتها، وهذا ما شهدناه مؤخرا في هبة الكرامة حيث كان الشباب وراء نجاح هذه الهبة. هكذا هو الأمر أيضا في مسيرات العودة وإحياء ذكرى النكبة وفي عشرات المبادرات المحلية التي بادر ويبادر لها الشباب في كل قرية ومدينة.

عودة إلى انعكاسات الوضع النفسي

بعد سرد مراحل الصراع يمكننا أن نلاحظ أن العلاقة بين هذا الصراع وبين الوضع النفسي للمواطنين العرب هي علاقة جدلية تأثر بها الوضع النفسي بمراحل الصراع من النكبة ومرورا بالحكم العسكري ووصولا إلى النضال من أجل انتزاع المواطنة الحقيقية والكاملة دون الانتقاص من انتمائهم القومي، وكذلك أثّر هذا الوضع النفسي بمكوناته الأربع على طرق المواجهة والنضال وبالتالي على سيرورة الصراع.

لتلخيص الوضع النفسي عبر مراحل الصراع يمكننا القول بأن المزاج العام انتقل من حالة اليأس والعجز بعد النكبة وخلال الحكم العسكري إلى تعزيز الثقة بالنفس وارتفاع الجهوزية للمواجهة كما ظهر في يوم الأرض وفي هبّة أكتوبر ومؤخرا في هبة الكرامة. وعلى صعيد المبنى الاجتماعي يمكن أن نلحظ تفكك المبنى الجماعي والتقليدي وتأثر الأجيال الصاعدة بالقيم الفردانية والليبرالية بموازاة مع تراجع دور السلطات الاجتماعية التقليدية، مما أوصل مجتمعنا إلى حالة ضياع وتخبط لدرجة الاستقطاب بين المرجعيتان التقليدية والدينية من جهة وبين المرجعية الفردانية والليبرالية، وبالتالي إلى نوع من الانفلات الذي يشكل العنف أهم ملامحها. أما عن الهوية فقد تحولت من هوية تتخبط وضائعة بين ثلاث مركبات: العربية والفلسطينية والإسرائيلية، إلى هوية قومية فلسطينية واضحة مع التمسك بحقوق المواطنة الإسرائيلية. وفي المقابل انتقلت صورة اليهودي من الاستخفاف به واعتباره مارا مرورا عابرا في البلاد، إلى المبالغة في تعظيم قدراته بعد النكسة، ومن ثم إلى تقييم قدراته العلمية والتكنولوجية والعسكرية بشكل أكثر واقعية وبدون استخفاف أو تعظيم.

تحاشيا للتعميم، لا بد من التنويه هنا بأن الوضع النفسي للعرب ليس أحادي الملامح بل هو دينامي ويختلف بين فئات وأفراد المجتمع. فإلى جانب المسار العام الذي ورد في هذا المقال، هناك البعض الذي ما زال يشعر بالدونية أمام الآخر اليهودي والعجز أمام سياسة الدولة، وهناك من تخلى عن هويته الفلسطينية وتماهى مع القاهر الإسرائيلي، وهناك من بقي يستخف بالآخر أو يعظّم من شأنه.

الخلاصة

مسيرة المواطنين الفلسطينيين حققت انتصارا كبيرا أولا في معركة البقاء التي لم تكن مفهومة ضمنا والتي تعتبر المعركة الأساسية التي انتصر فيها الطرف الفلسطيني على الطرف الإسرائيلي، إذ أن مجرد بقائنا في وطننا يكاد يكون الإخفاق الوحيد للصهيونية، وثانيا في معركة بناء الذات والهوية فمجتمعنا اليوم يمتاز بالمستوى الثقافي والعلمي الراقي بالمقارنة مع جميع الدول العربية وبالمقارنة مع المواطنين اليهود أيضا، وبتبلور الهوية الفلسطينية بشكل لا يمكن تجاهله. وثالثا في احتلال موقع سياسي هام في الخارطة السياسية الإسرائيلية حيث أصبح من غير الممكن لجميع الأحزاب الصهيونية تجاهل الوزن السياسي للمواطنين العرب في الدولة.

تصوير: أورن زيف وموقع ""سيحا مكوميت""."

بروفيسور مروان دويري

أخصائي نفسي علاجي وطبي وتربوى ونمو، وباحث في علم النفس العابر للثقافات

شاركونا رأيكن.م